المطلبُ الرَّابعُ: أن يُحفَظَ للعالِمِ قَدْرُه، ولا تُجحَدُ مَحاسِنُه
قال اللهُ تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى [المائدة: 8] .
قال
البَغَويُّ: (أي: كُونوا له قائِمينَ بالعَدْلِ قوَّالِينَ بالصِّدْقِ، أمَرَهم بالعَدْلِ والصِّدقِ في أفعالِهم وأقوالِهم،
وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ ولا يَحمِلَنَّكم
شَنَآنُ قَوْمٍ بُغضُ قَومٍ
عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا أي: على تَرْكِ العَدْلِ فيهم لعَداوتِهم. ثُمَّ قال:
اعْدِلُوا يعني: في أوليائِكم وأعدائِكم
هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى يعني: إلى التَّقوى)
[2518] يُنظر: ((تفسير البغوي)) (2/ 28). .
قال
ابنُ تَيميَّةَ في سِياقِ رَدِّه على
الأشاعِرةِ: (ما من هؤلاءِ إلَّا من له مَساعٍ مَشكورةٌ وحَسَناتٌ مَبرورةٌ، وله في الرَّدِّ على كثيرٍ من أهلِ الإلحادِ والبِدَعِ والانتِصارِ لكَثيرٍ مِن أهلِ السُّنَّةِ والدِّينِ ما لا يخفى على من عَرَف أحوالَهم، وتكَلَّم فيهم بعِلمٍ وصِدقٍ وعَدلٍ وإنصافٍ... وخيرُ الأُمورِ أوسَطُها... واللهُ يتقبَّلُ مِن جميعِ عِبادِه المُؤمِنينَ الحَسَناتِ، ويتجاوَزُ لهم عن السَّيِّئاتِ:
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)
[2519] يُنظر: ((درء تعارض العقل والنقل)) (2/102). .
وقال
الذَّهبيُّ: (لو أنَّ كُلَّ من أخطَأَ في اجتهادِه -مع صِحَّةِ إيمانِه وتوخِّيه لاتِّباعِ الحَقِّ- أهدَرْناه وبَدَّعْناه، لقَلَّ مَن يَسْلَمُ من الأئِمَّةِ معنا)
[2520] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) (14/376). .
وقال أيضًا: (قال أبو الحَسَنِ الصَّفَّارُ: سَمِعتُ أبا سَهلٍ الصُّعلوكيَّ، وسُئِلَ عن تفسيرِ
أبي بكرٍ القَفَّالِ، فقال: «قدَّسه مِن وَجهٍ، ودَنَّسه مِن وَجهٍ»، أي: دنَّسه من جِهةِ نَصْرِه للاعتزالِ. قلتُ: قد مَرَّ مَوتُه، والكَمالُ عَزيزٌ، وإنما يُمدَحُ العالِمُ بكَثرةِ ما له مِنَ الفَضائِلِ، فلا تُدفَنُ المحاسِنُ لوَرطةٍ، ولعَلَّه رَجَع عنها، وقد يُغفَرُ له في استِفراغِه الوُسْعَ في طَلَبِ الحَقِّ، ولا قُوَّةَ إلَّا باللهِ!)
[2521] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) (16/285). .
واستدرك
ابنُ القَيِّمِ بَعْضَ ألفاظِ أبي إسماعيلَ الهَرَويِّ، وقال: (في هذا اللَّفظِ قَلَقٌ وسُوءُ تعبيرٍ، يَجبُرُه حُسْنُ حالِ صاحِبِه وصِدْقُه، وتعظيمُه للهِ ورَسولِه، ولكِنْ أبى اللهُ أن يكونَ الكَمالُ إلَّا له!)
[2522] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (3/ 142). .
وقال عن أبي إسماعيلَ الهَرَويِّ أيضًا: (شَيخُ الإسلامِ حَبيبُنا، ولكِنَّ الحَقَّ أحَبُّ إلينا منه، وكان
شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميَّةَ رحمه اللهُ يَقولُ: «عَمَلُه خَيرٌ مِن عِلْمِه»، وصَدَق رحمه الله؛ فسِيرتُه بالأمرِ بالمعروفِ، والنَّهيِ عن المُنكَرِ، وجِهادِ أهلِ البِدَعِ: لا يُشَقُّ له فيها غُبارٌ، وله المقاماتُ المشهورةُ في نُصرةِ اللهِ ورَسولِه، وأبى اللهُ أن يكسُوَ ثَوبَ العِصمةِ لغَيرِ الصَّادِقِ المصدوقِ الذي لا يَنطِقُ عن الهوى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وقد أخطأ في هذا البابِ لَفظًا ومعنًى)
[2523] يُنظر: ((مدارج السالكين)) (3/ 366). .
وقال
ابنُ القَيِّمِ أيضًا: (من له عِلمٌ بالشَّرعِ والواقِعِ يَعلَمُ قَطعًا أنَّ الرَّجُلَ الجليلَ الذي له في الإسلامِ قَدَمٌ صالحٌ وآثارٌ حَسَنةٌ، وهو من الإسلامِ وأهلِه بمَكانٍ: قد تكونُ منه الهَفوةُ والزَّلَّةُ هو فيها مَعذورٌ بل ومأجورٌ لاجتهادِه؛ فلا يجوزُ أن يُتَّبَعَ فيها، ولا يجوزُ أن تُهدَرَ مَكانَتُه وإمامَتُه ومَنزِلَتُه في قُلوبِ المُسلِمينَ)
[2524] يُنظر: ((أعلام الموقعين)) (5/ 235). .
وقال
الشَّاطبيُّ: (لا ينبغي أن يُنسَبَ صاحِبُها أي الزَّلَّةِ إلى التقصيرِ، ولا أن يُشَنَّعَ عليه بها، ولا يُنتَقَصَ مِن أجْلِها أو يُعتَقَدَ فيه الإقدامُ على المخالفةِ بحتًا؛ فإنَّ هذا كُلَّه خِلافُ ما تَقتَضي رُتبَتُه في الدِّينِ)
[2525] يُنظر: ((الموافقات)) (5/ 136). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (
الحافِظُ النَّوَويُّ رحمه الله من أصحابِ
الشَّافعيِّ المُعتَبَرِة أقوالُه، ومن أشَدِّ الشَّافِعيَّةِ حِرصًا على التأليفِ، فقد ألَّف في فنونٍ شَتَّى؛ في الحديِث وعُلومِه، وألَّف في عِلمِ اللُّغةِ كِتابَ تَهذيبِ الأسماءِ واللُّغاتِ، وهو في الحقيقةِ مِن أعلَمِ النَّاسِ، والظَّاهِرُ -واللهُ أعلَمُ- أنَّه من أخلَصِ النَّاسِ في التأليفِ؛ لأنَّ تأليفاتِه رحمه اللهُ انتَشَرت في العالِم الإسلاميِّ، فلا تكادُ تَجِدُ مَسجِدًا إلَّا ويُقرَأُ فيه كتابُ «رِياضُ الصَّالحين»، وكُتُبُه مشهورةٌ مبثوثةٌ في العالَمِ؛ مما يدُلُّ على صِحَّةِ نِيَّتِه، فإنَّ قَبولَ النَّاسِ للمُؤَلَّفاتِ مِنَ الأدِلَّةِ على إخلاصِ النيَّةِ.
وهو رحمه الله مجتَهِدٌ، والمجتَهِدُ يُخطِئُ ويُصيبُ، وقد أخطأ رحمه اللهُ في مسائِلِ الأسماِء والصِّفاتِ؛ فكان يُؤَوِّلُ فيها لكِنَّه لا يُنكِرُها؛ فمَثَلًا: «استوى على العَرْشِ» يقولُ أهلُ التأويلِ معناها: استولى على العَرْشِ، لكِنْ لا يُنكِرون: «استوى»؛ لأنهم لو أنكروا الاستواءَ تَكذيبًا لكَفَروا، أمَّا من يُنكِرُ إنكارَ تأويلٍ، وهو لا يجحَدُها، فإن كان لتأويلِه مَساغٌ في اللُّغةِ العَرَبيَّةِ فإنَّه لا يَكْفُرُ، أمَّا إذا لم يكُنْ له مُسَوِّغٌ في اللُّغةِ العَرَبيَّةِ فهذا مُوجِبٌ للكُفرِ؛ مِثلُ أن يقولَ: ليس للهِ يَدٌ حَقيقةً، ولا بمعنى النِّعمةِ، أو القُوَّةِ، فهذا كافِرٌ؛ لأنَّه نفاها نفيًا مُطلَقًا. فهم يُصَدِّقون به ولكِنْ يُحَرِّفونَه.
ومِثْلُ هذه المسائِلِ التي وقع منه رحمه الله خَطَأٌ في تأويلِ بَعضِ نُصوصِ الصِّفاتِ، إنَّه لمغمورٌ بما له مِن فَضائِلَ ومنافِعَ جَمَّةٍ، ولا نَظُنُّ أنَّ ما وقع منه إلَّا صادِرٌ عن اجتهادٍ وتأويلٍ سائغٍ -ولو في رأيِه- وأرجو أن يكونَ مِنَ الخَطَأِ المَغفورِ، وأن يكونَ ما قَدَّمه من الخيرِ والنَّفعِ من السَّعيِ المشكورِ، وأن يَصْدُقَ عليه قَولُ اللهِ تعالى:
إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود: 114] .
ف
النَّوويُّ نَشهَدُ له فيما نَعلَمُ مِن حالِه بالصَّلاحِ، وأنَّه مجتَهِدٌ، وأنَّ كُلَّ مُجتَهِدٍ قد يصيبُ وقد يخطِئُ، إن أخطَأَ فله أجرٌ واحِدٌ، وإن أصاب فله أجرانِ)
[2526] يُنظر: ((شرح الأربعين النووية)) (ص: 3). .
وقال
بكرُ بنُ عَبدِ اللهِ أبو زيد: (إنَّ تلك البادِرةَ الملعونةَ مِن تَكفيرِ الأئِمَّةِ:
النَّوَويِّ، و
ابنِ دَقيقِ العيدِ، و
ابنِ حَجَرٍ العَسْقلانيِّ، رحمهم اللهُ تعالى، أو الحَطِّ مِن أقدارِهم، أو أنَّهم مُبتَدِعةٌ ضُلَّالٌ؛ كُلُّ هذا مِن عَمَلِ
الشَّيطانِ، وبابُ ضَلالةٍ وإضلالٍ، وفَسادٍ وإفسادٍ)
[2527] يُنظر: ((تصنيف الناس بين الظن واليقين)) (ص: 94). .