المَطْلَبُ الثَّالِثُ: إطلاقُ العِبادةِ باعتِبارِ المُتَوجَّهِ بها إليه
من توجَّه بعبادتِه لله تعالى، كانت هذه العِبادةُ توحيدًا، ومن توَجَّه بها إلى غيرِ اللهِ، كانت شِركًا.
قال الله تعالى:
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ * إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 13-14] .
فدُعاؤُهم لغَيرِ اللهِ عِبادةٌ لِمن دَعَوهم، وسَمَّاها اللهُ تعالى شِركًا
[813] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (10/ 156 - 158)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/ 119)، ((تجريد التوحيد المفيد)) للمقريزي (ص: 13)، ((تطهير الاعتقاد)) للصنعاني (ص: 53 - 58). .
قال السَّمرقنديُّ: (
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ يعني: هذا الذي فَعَل لكم هذا الفِعلَ هو رَبُّكم وخالِقُكم
لَهُ الْمُلْكُ، فاعرِفوا توحيدَه، وادْعُوه ولا تَدْعُوا غيرَه،
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ يعني: مِن دُونِ اللهِ الأوثانَ وما يَعبُدونَهم مِن دونِ اللهِ
مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ يعني: لا يَقدِرونَ أن يُعطوكم ولا يَنفَعوكم بمِقدارِ القِطْميرِ. والقِطْميرُ: قِشرُ النَّواةِ الأبيضُ الذي يكونُ بيْن النَّوى والتَّمرِ. وقال مجاهِدٌ: القِطميرُ: لِفافُ النَّوى.
ثمَّ قال:
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ يعني: ولو كانوا بحالٍ يَسمَعونَ أيضًا فلا يُجيبونَكم، ولا يَكشِفونَ عنكم شَيئًا،
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ يعني: يتبَرَّؤونَ من عبادتِكم. ويقولونَ: ما كنتُم إيَّانا تَعبُدونَ. يقولُ اللهُ تعالى لمحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ يعني: لا يُخبِرُك مِن عِلمِ الآخِرةِ مِثلُ الرَّبِّ تبارك وتعالى. ويُقالُ: لا يُخبِرُك أحَدٌ مِثلُ الرَّبِّ بأنَّ هذا الذي ذُكِرَ عن الأصنامِ أنَّهم يتبَرَّؤونَ عن عِبادتِهم)
[814] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/ 103). .
وقال
ابنُ كثيرٍ: (
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ أي: الذي فَعَل هذا هو الرَّبُّ العَظيمُ، الذي لا إلهَ غَيرُه،
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ أي: مِنَ الأندادِ والأصنامِ التي هي على صُورةِ مَن تَزعُمونَ مِنَ الملائِكةِ المقَرَّبينَ،
مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ. قال
ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهِدٌ، وعِكرِمةُ، وعَطاءٌ، وعَطيَّةُ العوفيُّ، والحَسَنُ، وقَتادةُ، وغَيرُهم: القِطميرُ: هو اللِّفافةُ التي تكونُ على نواةِ التَّمرةِ، أي: لا يَملِكونَ مِن السَّمَواتِ والأرضِ شَيئًا، ولا بمقدارِ هذا القِطْميرِ.
ثمَّ قال:
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ يعني: الآلِهةَ التي تَدْعونَها من دونِ اللهِ لا يَسمَعونَ دُعاءَكم؛ لأنَّها جمادٌ لا أرواحَ فيها،
وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ أي: لا يَقدِرونَ على ما تَطلُبونَ منها،
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي: يتبَرَّؤونَ مِنكم، كما قال تعالى:
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف: 5، 6]، وقال:
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81، 82])
[815] يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (6/ 540). .
وقال
السَّعديُّ: (لَمَّا بَيَّن تعالى ما بيَّن من هذه المخلوقاتِ العَظيمةِ، وما فيها من العِبَرِ الدَّالَّةِ على كَمالِه وإحسانِه، قال:
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ أي: الذي انفَرَد بخَلْقِ هذه المذكوراتِ وتَسخيرِها، هو الرَّبُّ المألوهُ المعبودُ، الذي له المُلْكُ كُلُّه.
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ من الأوثانِ والأصنامِ
مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ أي: لا يَملِكونَ شَيئًا، لا قليلًا ولا كثيًرا، حتَّى ولا القِطميرَ الذي هو أحقَرُ الأشياءِ، وهذا مِن تنصيصِ النَّفْيِ وعُمومِه، فكيف يُدْعَونَ، وهم غيرُ مالكينَ لشَيءٍ مِن مِلكِ السَّمَواتِ والأرضِ؟ ومع هذا
إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسمَعوكم؛ لأنَّهم ما بيْن جمادٍ وأمواتٍ وملائِكةٍ مَشغولينَ بطاعةِ رَبِّهم.
وَلَوْ سَمِعُوا على وَجهِ الفَرْضِ والتَّقديرِ
مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ؛ لأنَّهم لا يَملِكونَ شَيئًا، ولا يرضى أكثَرُهم بعِبادةِ مَن عَبَدَه؛ ولهذا قال:
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ أي: يتبَرَّؤون منكم)
[816] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 686). .