المَطلَبُ الثَّاني: وجوهُ تفاضُلِ أسماءِ اللهِ
إنَّ النَّاظِرَ في أسْماءِ اللهِ يَجِدُ أنَّها تتفاوَتُ مِن وُجوهٍ عديدةٍ يَظهَرُ بها تفاضُلُها؛ فمن ذلك:
1- أنَّ مِن أسمائِه ما يُطلَقُ عليه مُفرَدًا ومُقتَرِنًا بغَيرِه، وهو غالِبُ الأسماءِ؛ كالقَديرِ، والسَّميعِ، والبَصيرِ، والعزيزِ، والحكيمِ، ومنها ما لا يُطلَقُ عليه بمُفردِه بل مقرونًا بمقابِلِه؛ كالمانِعِ والضَّارِّ والمنتَقِمِ، فلا يجوزُ أن يُفرَدَ ذِكرُ كُلِّ اسمٍ منها عن مقابِلِه؛ فإنَّه مقرونٌ بالمعطي والنَّافِعِ والعَفُوِّ، فهو المعطي المانِعُ، الضَّارُّ النَّافِعُ، المنتَقِمُ العَفُوُّ، المعِزُّ المذِلُّ، فالكمالُ في اقترانِ كُلِّ اسمٍ منها بما يُقابِلُه؛ لأنَّه يُرادُ به أنَّه المنفَرِدُ بالرُّبوبيَّةِ وتدبيرِ الخَلْقِ، والتصَرُّفِ فيهم عطاءً وَمنعًا، ونَفعًا وضَرًّا، وعَفْوًا وانتِقامًا، وأمَّا أن يُثْنَى عليه بمجَرَّدِ المنعِ والانتقامِ والإضرارِ فلا، فهذه الأسماءُ المزدَوَجةُ تجري الأسماءُ منها مجرى الاسمِ الواحِدِ الذي يمتَنِعُ فَصْلُ بَعضِ حُروفِه عن بَعضٍ
[1229] يُنظر: ((البرهان في علوم القرآن)) (2/502، 504). .
فليس الاسمُ الدَّالُّ على الكمالِ بمُفرَدِه مُساويًا للذي لا يَدُلُّ على الكَمالِ إلَّا باقترانِه بمُقابِلِه.
2- أنَّ مِن أسمائِه سُبحانَه ما يَدُلُّ على صِفةِ كَمالٍ واحِدةٍ؛ كالسَّميعِ والبَصيرِ، ومنها ما يَدُلُّ على صِفاتٍ عديدةٍ لا تختَصُّ بصِفةٍ مُعَيَّنةٍ، كالمَجيدِ؛ فإنَّ المَجِيدَ مَن اتَّصَف بصِفاتٍ متعَدِّدةٍ مِن صِفاتِ الكمالِ، وهو موضوعٌ لبلوغِ النِّهايةِ في كُلِّ محمودٍ، ولنَيلِ الشَّرَفِ بكَرَمِ الفِعالِ، وللكَثرةِ، ولذا قالوا: استمجَدَ المَرْخُ والعَفَارُ، أي: استَكثَرا مِنَ النَّارِ حتى تناهَيَا في ذلك، حتى إنَّه يُقتَبَسُ منهما.
كما أنَّ مِن الأسماءِ ما يتضَمَّنُ سَلْبَ صِفةِ نَقصٍ عن اللهِ، وهي الصِّفةُ المقابِلةُ للصِّفةِ التي يُثبِتُها الاسمُ، كالبصيرِ مَثَلًا؛ فيها سَلْبُ صِفةِ نَقصٍ عن اللهِ، وهي العمَى، سُبحانَه وتعالى وتنَزَّه وتقَدَّسَ، ومنها ما يَرجِعُ إلى التَّنزيهِ المحْضِ مِن كُلِّ نَقصٍ وَعيٍب جُملةً وتَفصيلًا، فيكونُ مُتَضَمِّنًا للكمالِ المحضِ، كالقُدُّوسِ والسَّلامِ.
3- أنَّ مِن أسمائِه سُبحانَه ما يَدُلُّ على صِفةٍ بعَينهِا، ومنها ما يَدُلُّ على تلك الصِّفةِ وزيادةٍ، كالعَليمِ يَدُلُّ على صِفةِ العِلْمِ مُطلقًا، والخَبيرِ يَدُلُّ على عِلْمِه بالأُمورِ الباطِنةِ
[1230] يُنظر: ((المقصد الأسنى)) (ص: 41). .
4- أنَّ هناك أسماءً دالَّةً على صفةٍ واحدةٍ، واشتِقاقُها واحِدٌ، مع الاختلافِ في مبانيها، مثلُ: القَديرِ المقتَدِرِ القادِرِ، والغَفورِ الغَفَّارِ الغافِرِ، والرَّحمنِ الرَّحيمِ، ونحوِ ذلك؛ فإنَّ كُلًّا منها معدودٌ اسمًا مُستَقِلًّا، وهي متغايِرةٌ مُتفاضِلةٌ، دلَّ على تفاضُلِها صيغُ مَبانيها.
وهذه أقوالٌ لبَعضِ العُلَماءِ في كَونِ بَعضِ أسْماءِ اللهِ الحُسْنى أبلَغَ في المعنى مِن غَيرِها:
قال
ابنُ جريرٍ: (أمَّا مِن جِهةِ العربيَّةِ، فلا تمانُعَ بيْن أهلِ المعرفةِ بلُغاتِ العَرَبِ أنَّ قَولَ القائِلِ: الرَّحمنُ. عن أبنيةِ الأسماءِ مِن «فَعِل يَفعَلُ» أشَدُّ عُدولًا من قَولِه: الرَّحيمِ. ولا خِلافَ مع ذلك بينهم أنَّ كُلَّ اسمٍ كان له أصلٌ في «فَعِل يَفعَلُ»، ثمَّ كان عن أصلِه مِن «فَعِل يَفعَلُ» أشَدَّ عدولًا؛ أنَّ الموصوفَ به مُفَضَّلٌ على الموصوفِ بالاسمِ المبنيِّ على أصلِه مِن «فَعُل يَفعُلُ» إذا كانت التَّسميةُ به مَدحًا أو ذَمًّا، فهذا ما في قَولِ القائِلِ: الرَّحمنُ. مِن زيادةِ المعنى على قَولِه: الرَّحيمُ، في اللُّغةِ)
[1231] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (1/ 125). .
وقال
النَّحَّاسُ: (فَعْلان فيه معنى المبالَغةِ، فكأنَّه -والله أعلمُ- الرَّحمنُ بجَميعِ خَلْقِه؛ ولهذا لم يَقَعْ إلَّا للهِ تعالى؛ لأنَّ معناه: الذي وَسِعَت رحمتُه كُلَّ شَيءٍ؛ ولهذا قُدِّمَ قبل الرَّحيمِ، وصار الرَّحيمُ أولى مِنَ الرَّاحمِ؛ لأنَّ الرَّحيمَ إلزامٌ في المدحِ؛ لأنَّه يدُلُّ على أنَّ الرَّحمةَ لازمةٌ له غيرُ مُفارِقةٍ، والرَّاحِمُ يَقَعُ لِمن رَحِمَ مَرَّةً واحِدةً)
[1232] يُنظر: ((معاني القرآن)) (1/ 55). .
وقال
ابنُ سِيْدَهْ: (اللهُ الرَّحمنُ الرَّحيمُ: بُنِيَت الصِّفةُ الأُولى على فَعْلانٍ؛ لأنَّ معناه الكثرةُ، وذلك لأنَّ رحمتَه وَسِعَت كُلَّ شَيءٍ، فأمَّا الرَّحيمُ فإنَّما ذُكِرَ بعد الرَّحمنِ؛ لأنَّ الرَّحمنَ مَقصورٌ على اللهِ عزَّ وجَلَّ، والرَّحيمُ قد يكونُ لغيرِه؛ قال
الفارِسيُّ: إنَّما قيل: (بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ) فجيءَ بالرَّحيمِ بعد استغراقِ الرَّحمنِ معنى الرَّحمةِ؛ لتخصيصِ المؤمنينَ به في قَولِه:
وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا [الأحزاب: 43] )
[1233] يُنظر: ((المحكم والمحيط الأعظم)) (3/ 337). .
وقال
الغزاليُّ: (الغافِرُ يَدُلُّ على أصلِ المغفِرةِ فقط، والغَفورُ يَدُلُّ على كثرةِ المغفِرةِ بالإضافةِ إلى كثرةِ الذُّنوبِ، حتَّى إنَّ مَن لا يَغفِرُ إلَّا نوعًا واحدًا من الذُّنوبِ قد لا يقالُ له: غفورٌ. والغَفَّارُ يشيرُ إلى كثرةٍ على سبيلِ التَّكرارِ، أي: يَغفِرُ الذُّنوبَ مَرَّةً بعدَ أُخرى، حتى إنَّ مَن يَغفِرُ جميعَ الذُّنوبِ، ولكِنْ أوَّلَ مَرَّةٍ، ولا يَغفِرُ للعائِدِ إلى الذَّنبِ مَرَّةً بعدَ أُخرى؛ لم يَستَحِقَّ اسمَ الغَفَّارِ)
[1234] يُنظر: ((المقصد الأسنى)) (ص: 41). ويُنظر: ((مباحث المفاضلة في العقيدة)) لمحمد الشظيفي (ص: 72). .
وقال
الزَّمخشريُّ: (في الرَّحمنِ من المبالَغةِ ما ليس في الرَّحيمِ؛ ولذلك قالوا: رَحْمنُ الدُّنيا والآخِرةِ، ورَحيمُ الدُّنيا، ويَقولون: إنَّ الزيادةَ في البناءِ لزيادةِ المعنى)
[1235] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (1/6). .
وقال
ابنُ منْظُور: (القَهَّارُ للمُبالغةِ)
[1236] يُنظر: ((لسان العرب)) (5/ 120). .
وقال
ابنُ عُثَيمين: (
الرَّحْمَنُ اسمٌ مِن أسْماءِ اللهِ تعالى دالٌّ على سَعةِ رَحمتِه عزَّ وجَلَّ؛ لأنَّ
الرَّحْمَنُ فَعْلان يَدُلُّ على السَّعةِ والامتلاءِ؛ وانظُرْ ذلك في كَلِمةِ (غَضْبان) و(نَدْمان) و(سَكْران) و(عَطْشان) و(رَيَّان) وما أشبَهَها؛ تجِدْ أنَّ هذه الصيغةَ دالَّةٌ على السَّعةِ والامتلاءِ؛
ولهذا قال بَعضُ السَّلَفِ رحمهم اللهُ: إنَّ
الرَّحْمَنُ رحمةٌ عامَّةٌ لجميعِ الخَلْقِ، وأمَّا
الرَّحِيمُ فهي دالَّةٌ على الفِعلِ، أي: أنَّه سُبحانَه وتعالى يَرحَمُ برَحمتِه الواسِعةِ. فـ
الرَّحِيمُ دالٌّ على الفِعلِ، وهو إيصالُ الرَّحمةِ إلى المرحومِ.
و
الرَّحْمَنُ دالٌّ على الصِّفةِ، وهي اتِّصافُ اللهِ سُبحانَه وتعالى بهذه الرَّحمةِ الواسِعةِ)
[1237] يُنظر: ((تفسير العثيمين – سبأ)) (ص: 10، 11). .