المَطلَبُ التَّاسِعَ عَشَرَ: مِن قواعِدِ صِفاتِ اللهِ: صِفاتُ اللهِ عزَّ وجلَّ لا يُقاسُ عليها
لا يُقاسُ الجَلَدُ على القوَّةِ، ولا الاستِطاعةُ على القُدرةِ، ولا الرِّقَّةُ على الرَّحمةِ والرَّأفةِ، ولا المعرفةُ على العِلمِ... وهكذا؛ لأنَّ صِفاتِ اللهِ عزَّ وجلَّ لا يُتجاوَزُ فيها التَّوقيفُ
[1393] يُنظر: ((صحيح ابن حبان)) (3/200)، ((شأن الدعاء)) للخطابي (ص: 111). .
قال
ابنُ خُزَيمةَ: (لا نَصِفُ مَعبودَنا إلَّا بما وصف به نَفْسَه، إمَّا في كتابِ اللهِ، أو على لسانِ نبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بنَقْلِ العَدلِ عن العَدلِ مَوصولًا إليه، لا نحتَجُّ بالمراسيلِ، ولا بالأخبارِ الواهيةِ، ولا نحتَجُّ أيضًا في صفاتِ مَعبودِنا بالآراءِ والمقاييسِ)
[1394])) يُنظر: ((التوحيد)) (1/ 135). .
وقال
الخَطَّابيُّ: (مِن عِلمِ هذا البابِ -أعني: الأسماءَ والصِّفاتِ- وممَّا يدخُلُ في أحكامِه ويتعَلَّقُ به مِن شرائِطَ: أنَّه لا يُتجاوَزُ فيها التَّوقيفُ، ولا يُستعمَلُ فيها القياسُ، فيَلحَقَ بالشَّيءِ نظيرُه في ظاهِرِ وَضعِ اللُّغةِ، ومُتعارَفِ الكلامِ؛ فالجَوادُ: لا يجوزُ أن يُقاسَ عليه السَّخِيُّ، وإن كانا متقارِبَينِ في ظاهِرِ الكلامِ؛ وذلك أنَّ السَّخِيَّ لم يَرِدْ به التَّوقيفُ كما ورد بالجَوادِ، ثمَّ إنَّ السَّخاوةَ مَوضوعةٌ في بابِ الرَّخاوةِ واللِّينِ، يقالُ: أرضٌ سَخِيَّةٌ وسَخاويَّةٌ؛ إذا كان فيها لِينٌ ورَخاوةٌ، وكذلك لا يُقاسُ عليه السَّمْحُ؛ لِما يَدخُلُ السَّماحةَ مِن معنى اللِّينِ والسُّهولةِ، وأمَّا الجُودُ فإنَّما هو سَعةُ العطاءِ؛ مِن قَولِك: جادَ السَّحابُ: إذا أمطَرَ فأغزَرَ، ومَطَرٌ جُودٌ، وفَرَسٌ جَوادٌ؛ إذا: بَذَل ما في وُسْعِه من الجَرْيِ.
وقد جاء في الأسماءِ: «القَوِيُّ»، ولا يقاسُ عليه الجَلْدُ، وإن كانا يتقاربانِ في نُعوتِ الآدمِيِّينَ؛ لأنَّ بابَ التجَلُّدِ يدخُلُه التكَلُّفُ والاجتِهادُ.
ولا يُقاسُ على «القادِرِ» المُطيقُ ولا المستطيعُ؛ لأنَّ الطَّاقةَ والاستطاعةَ إنَّما تُطلَقانِ على معنى قوَّةِ البِنْيةِ، وتركيبِ الخِلْقةِ، ولا يقاسُ على «الرَّحيمِ» الرَّقيقُ، وإن كانت الرَّحمةُ في نُعوتِ الآدمِيِّينَ نوعًا مِن رِقَّةِ القَلبِ وضَعْفِه عن احتمالِ القَسْوةِ.
وفي صِفاتِ اللهِ سُبحانَه: «الحَليمُ» و «الصَّبورُ»، فلا يجوزُ أن يقاسَ عليها الوَقورُ والرَّزينُ.
وفي أسمائِه «العليمُ»، ومن صِفَتِه العِلْمُ، فلا يجوزُ قياسُه عليه أن يُسَمَّى «عارِفًا»؛ لِما تَقتَضيه المعرفةُ من تقديمِ الأسبابِ التي بها يُتوصَّلُ إلى عِلمِ الشَّيءِ، وكذلك لا يُوصَفُ بالعاقِلِ. وهذا البابُ يجِبُ أن يُراعى، ولا يُغفَلُ؛ فإنَّ عائدتَه عَظيمةٌ، والجَهلَ به ضارٌّ، وباللهِ التَّوفيقُ)
[1395] يُنظر: ((شأن الدعاء)) (1/ 111 - 113). .
وقال
أبو يَعْلى: (إثباتُ الصِّفاتِ لا يُؤخَذُ إلَّا توقيفًا؛ لأنْ لا مجالَ للعَقلِ والقياسِ فيها)
[1396] يُنظر: ((إبطال التأويلات)) (ص: 222). .
وقال
ابنُ عبدِ البَرِّ: (اللهُ عزَّ وجَلَّ لا يُوصَفُ عند الجَماعةِ أهلِ السُّنَّةِ إلَّا بما وصف به نَفْسَه أو وصفه به رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أو أجمعت الأمَّةُ عليه، وليس كمِثْلِه شَيءٌ، فيُدرَكَ بقياسٍ أو بإمعانِ نَظَرٍ، وقد نُهِينا عن التفَكُّرِ في اللهِ، وأُمِرْنا بالتفَكُّرِ في خَلْقِه الدَّالِّ عليه)
[1397])) يُنظر: ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/187). .
وقال أيضًا عن اللهِ عزَّ وجَلَّ: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ مِنْ خلقِه، ولا يقاسُ بشَيءٍ مِن بَرِيَّتِه، لا يُدرَكُ بقياسٍ، ولا يقاسُ بالنَّاسِ، لا إلهَ إلَّا هو، كان قبل كلِّ شَيءٍ، ثمَّ خَلَق الأمكِنةَ والسَّمَواتِ والأرضَ وما بينهما، وهو الباقي بعد كُلِّ شَيءٍ، وخالِقُ كُلِّ شَيءٍ، لا شريكَ له)
[1398])) يُنظر: ((التمهيد)) (7/ 135). .
وقال
ابنُ تَيميَّةَ: (الغالِبُ على أهلِ القياسِ مِن أهلِ الفَلْسَفةِ والكلامِ في جانبِ الرُّبوبيَّةِ: إنَّما هي المعارِفُ السَّلبيَّةُ، ثمَّ لم يَقتَصِروا على مِقدارِ ما يَعلَمُه العَقلُ مِن القياسِ، بل تعَدَّوا ذلك، فنَفَوا أشياءَ مُشْبِهةً القياسَ الفاسِدَ، مِثلُ: نَفْيِ الصِّفاتِ النبَوِيَّةِ الخَبَريَّةِ، بل ونَفْيِ الفلاسِفةِ والمُعْتَزِلةِ للصِّفاتِ التي يُثبِتُها متكَلِّمو أهلِ الإثباتِ، ويُسَمُّونَها الصِّفاتِ العَقليَّةَ؛ لإثباتِهم إيَّاها بالقياسِ العَقليِّ. ومَعْلُومٌ أنَّ العَقلَ لا ينفي بالقياسِ إلَّا القَدْرَ المشتَرَكَ الذي هو مدلولُ القَضِيَّةِ الكُلِّيَّةِ التي لا بُدَّ منها في القياسِ، مِثلُ أن يَنفيَ الإرادةَ أو الرَّحمةَ أو العِلْمَ المشتَرَكَ بين مُسَمَّياتِ هذا الاسمِ، والقَدْرُ المُشتَرَكُ في المخلوقينَ تَلحَقُه صِفاتٌ لا تَثبُتُ للهِ تعالى، فيَنفُونَ المعنى المشتَرَكَ المطلَقَ على صِفاتِ الحَقِّ وصِفاتِ الخَلْقِ، تَبَعًا لانتفاءِ ما يختَصُّ به الخَلْقُ، فيُعَطِّلونَ، كما أنَّ أهلَ
التَّمْثيلِ يُثبِتونَ ما يختَصُّ به الخَلْقُ تَبَعًا للقَدْرِ المُشتَرَكِ، وكلاهما قياسٌ خَطَأٌ، ففي هذه الصِّفاتِ بل وفي الذَّواتِ ثلاثةُ اعتباراتٍ:
أحَدُها: ما تختَصُّ به ذاتُ الرَّبِّ وصِفاتُه.
والثَّاني: ما يختَصُّ به المخلوقُ وصِفاتُه.
والثَّالِثُ: المعنى المطلَقُ الجامِعُ.
فاستِعمالُ القياسِ الجامِعِ في نَفْيِ الأوَّلِ خَطَأٌ، وكذلك استِعمالُه في إثباتِ الثَّاني، وأمَّا استعمالُه في إثباتِ الثَّالِثِ فيحتاجُ إلى إدراكِ العَقلِ لثبوتِ المعنى الجامِعِ الكُلِّيِّ، وهذا أصلُ القياسِ والدَّليلِ، فإنْ لم يَعرِفِ العَقلُ بنَفْسِه أو بواسِطةِ قياسٍ آخَرَ ثبوتَ هذا، وإلَّا لم يَستَقِمِ القياسُ، وكذلك في معارِفِهم الثُّبوتيَّةِ، لا يأتونَ إلَّا بمعانٍ مُطلَقةٍ مُجمَلةٍ، مِثلُ ثُبوتِ الوُجودِ، ووُجوبِ الوُجودِ، أو كونِه رَبًّا أو صانِعًا، أو أوَّلًا أو مُبدِئًا أو قديمًا، ونحو ذلك من المعاني الكُلِّيَّةِ التي لا يُعلَمُ بها خصوصُ الرَّبِّ تعالى؛ إذ القياسُ لا يَدُلُّ على الخُصوصِ؛ فإنَّه إذا استدَلَّ بأنَّ كُلَّ ممكنٍ فلا بُدَّ له من موجِبٍ، وبأنَّ كُلَّ مُحدَثٍ فلا بدَّ له مِن مُحدِثٍ- كان مدلولُ هذا القياسِ أمرًا عامًّا)
[1399] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (2/ 62). .
وقال ابنُ الموصليِّ: (يُقالُ لِمن أثبت شيئًا مِن الصِّفاتِ بالعَقلِ، فلا بدَّ أن يأتيَ في الدَّلالةِ على ذلك بقياسٍ شُموليٍّ، أو قياسٍ تخييليٍّ، فتقولُ في الشُّمولي: كُلُّ فِعلٍ مُتقَنٍ محكَمٍ فإنَّه يَدُلُّ على عِلمِ فاعِلِه وقُدرتِه وإرادتِه، وهذه المخلوقاتُ كذلك، فهي دالَّةٌ على عِلمِ الرَّبِّ تعالى وقُدرتِه ومَشيئتِه، وتقولُ في
التَّمْثيلِ: الفِعلُ المُتقَنُ يَدُلُّ على عِلمِ فاعِلِه وقُدرتِه في الشَّاهِدِ، فكان دليلًا في الغائِبِ، والدَّلالةُ العقليَّةُ لا تختَلِفُ شاهِدًا وغائبًا، فلا يمكِنُك أن تُثبِتَ له سُبحانَه بالعَقلِ صِفةً أو فِعلًا إلَّا بالقياسِ المُتَضَمِّنِ قضيَّةً كلِّيَّةً، إمَّا لفظًا كما في قياسِ الشُّمولِ، وإمَّا معنًى كما في قياسِ
التَّمْثيلِ.
فإذا كنتَ لا يُمكِنُك إثباتُ الصَّانِعِ ولا صِفاتِه إلَّا بالقياسِ الذي لا بدَّ فيه من إثباتِ قَدْرٍ مُشتَرَكٍ بين المقِيسِ والمقِيسِ عليه، وبين أفرادِ القَضِيَّةِ الكُلِّيَّةِ، ولم يكُنْ هذا عندك تشبيهًا ممتنعًا، فكيف تُنكِرُ معانيَ ما وصف اللهُ به نَفْسَه ووصفه به رسولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وحقائِقَه، بزَعْمِك أنَّه يَتضَمَّنُ تشبيهًا؟! وهذا من أنفعِ الأشياءِ لِمن له فَهمٌ؛ فإنَّ اللهَ أخبَرَ في كتابِه بما هو عليه من أسمائِه وصِفاتِه، ولا بدَّ في الأسماءِ المشتَقَّةِ المتواطِئةِ مِن معنًى مُشتَرَكٍ بين أفرادِها، فجَحَد المعَطِّلةُ حقائِقَها لِمَا زَعَموا فيها من التَّشبيهِ، وهم لا يمكِنُهم إثباتُ شَيءٍ يعتَقِدونَه إلَّا بنوعٍ من القياسِ المُتَضَمِّنِ التشبيهَ الذي فَرُّوا منه، لا في جانِبِ النَّفيِ، ولا في جانبِ الإثباتِ، فهم مُنكِرونَ ما جاءت به الرُّسُلُ بما هو من نَوعِه أو دونَه، وهذا غايةُ الضَّلالِ، فلْيُتأَمَّلْ ذلك)
[1400] يُنظر: ((مختصر الصواعق المرسلة)) (ص: 367). .
وقال
العيني: (إنَّ مَعرِفةَ أسماءِ اللهِ تعالى وصفاتِه توقيفيَّةٌ، تُعلَمُ من طريقِ الوَحيِ والسُّنَّةِ، ولم يكُنْ لنا أن نتصَرَّفَ فيها بما لم يهتَدِ إليه مبلَغُ عِلْمِنا، ومنتهى عُقولِنا، وقد مُنِعْنا عن إطلاقِ ما لم يَرِدْ به التوقيفُ في ذلك، وإن جَوَّزه العَقلُ، وحَكَم به القياسُ، كان الخطَأُ في ذلك غيرَ هَيِّنٍ، والمخطِئُ فيه غيرَ مَعذورٍ، والنُّقصانُ عنه كالزيادةِ فيه غيرَ مَرضِيٍّ)
[1401])) يُنظر: ((عمدة القاري)) (14/ 22). .