الفَصْلُ الخامِسُ: تَعريفُ البَلاغةِ
البَلاغةُ لُغةً: مِنْ بلَغتُ الغايةَ: إذا انتهيْتَ إليها، ومَبلَغُ الشَّيءِ: مُنتَهاه، والمُبالغةُ في الشَّيءِ: الانْتهاءُ إلى غايتِه، فسُمِّيتِ البَلاغةُ بَلاغةً؛ لأنَّها تُنهي المَعنى إلى قَلْبِ السَّامعِ فيَفهمُه
[30] ينظر: ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) لأبي هلال العسكري (ص: 6). .
والبَلاغةُ اصطلاحًا:عقَد الإمامُ القَيرَوانيُّ في كتابِه
((العُمْدَة)) بابًا أورَدَ فيه أقْوالًا لبعضِ العُلَماءِ في تَعْريفِ البَلاغةِ؛ منها: (سُئِل بعضُ البُلَغاءِ: ما البَلاغةُ؟ فقال: قليلٌ يُفهَمُ، وكثيرٌ لا يُسأَمُ.
وقال آخَرُ: البَلاغةُ إجاعَةُ اللَّفظِ، وإشباعُ المَعنى.
وسُئل آخَرُ فقال: مَعانٍ كثيرةٌ في ألْفاظٍ قليلةٍ.
وقِيل لأحدِهم: ما البَلاغةُ؟ فقال: إصابةُ المَعنى وَحُسْنُ الإيجازِ.
وسُئل بعضُ الأعرابِ: مَنْ أبلغُ النَّاسِ؟ فقال: أسْهلُهم لفْظًا، وأحسنُهم بَديهةً.
وقال خلفٌ الأحمرُ: البَلاغةُ كَلمةٌ تكشِفُ عن البقيَّةِ.
وقال المُفضَّلُ الضَّبِّيُّ: قلتُ لأعْرابيٍّ: ما البَلاغةُ عندَكم؟ فقال: الإيجازُ مِن غيرِ عَجْزٍ، والإطْنابُ مِن غيرِ خطَلٍ.
وكتب جعفرُ بنُ يحيى بنِ خالدٍ البَرْمكيُّ إلى عَمْرِو بنِ مَسْعدةَ: إذا كان الإكثارُ أبْلغَ كان الإيجازُ تَقْصيرًا، وإذا كان الإيجازُ كافيًا كان الإكْثارُ عِيًّا.
قال أبو الحَسنِ عليُّ بنُ عيسى الرُّمَّانيُّ: أصْلُ البَلاغةِ الطَّبعُ، ولَها معَ ذلك آلاتٌ تُعينُ عليها، وتُوصِلُ للقوَّةِ فيها، وتكونُ مِيزانًا لَها، وفاصِلةً بينَها وبينَ غيرِها.
وسُئل ابنُ المُقَفَّعِ: ما البَلاغةُ؟ فقال: اسمٌ لِمَعانٍ تَجري في وُجوهٍ عدَّةٍ كثيرةٍ؛ فمِنها ما يكونُ في السُّكوتِ، ومِنها ما يكونُ في الاسْتِماعِ، ومِنها ما يكونُ في الإشارةِ، ومِنها ما يكونُ شِعرًا، ومِنها ما يكونُ سَجْعًا، ومِنها ما يكونُ ابْتداءً، ومِنها ما يكونُ جَوابًا، ومِنها ما يكونُ في الاحْتِجاجِ، ومِنها ما يكونُ خُطَبًا، ومِنها ما يكونُ رسائِلَ؛ فعامَّةُ هذه الأبوابِ الوَحْيُ فيها والإشارةُ إلى المَعنى، والإيجازُ هو البَلاغةُ)
[31] ((العمدة في محاسن الشعر وآدابه)) للقيرواني (1/ 242، 243). .
والنَّاظرُ في هذه التَّعريفاتِ يرى أنَّ بعضَها اقتصرَ في تعريفِ البَلاغةِ على جُزءٍ مِنها، وبعضَها وسَّع المَفهومَ، كمَا في تَعْريفِ ابنِ المُقَفَّعِ؛ فجعَل مِنها السُّكوتَ والاسْتماعَ والإشارةَ، وهذه الثَّلاثةُ لا تدخُلُ في تعريفِها اصْطِلاحًا؛ فالبَلاغةُ إنَّما تَدرُسُ الكَلامَ، سواءٌ كانَ مَكْتوبًا أو مَنْطوقًا.
وقدِ استُقِرَّ على تَعريفِها بَيْنَ العُلَماءِ بأنَّها: (مُطابَقةُ الكَلامِ لمُقتضَى الحالِ معَ فَصاحتِه)
[32] ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) لبهاء الدين السبكي (1/ 90). .
والمُطابَقةُ المَقصودُ بها المُواءَمةُ والمُلاءَمةُ.
أمَّا (الحالُ) فهو ما يُسمَّى بـ(السِّياقِ) أوِ (المَوقفِ) أوِ (المَقامِ)، وكمَا يُقالُ: «لكلِّ مَقامٍ مَقالٌ»؛ فما يُقالُ في الخُطَبِ لا يُقالُ في الرَّسائِلِ، والمَوقفُ الَّذي يحتاجُ إلى إيجازٍ لا يُفيدُ فيه الإطْنابُ، والموَقفُ الَّذي يحتاجُ إلى إطْنابٍ لن يُغْنيَ فيه الإيجازُ أوِ التَّوسُّطُ، والسِّياقُ أيضًا يدخُلُ فيه المُتكلِّمُ والمُتلقِّي؛ فما يُقالُ للعامِّيِّ لا يُقالُ للمُثقَّفِ، وما يُخاطَبُ به الحزينُ لا يُخاطَبُ به الفَرِحُ المَسرورُ... قال القَزْوينِيُّ: (فإنَّ مَقاماتِ الكَلامِ مُتفاوِتةٌ؛ فمَقامُ التَّنكيرِ يُباينُ مَقامَ التَّعريفِ، ومَقامُ الإطْلاقِ يُباينُ مَقامَ التَّقييدِ، ومَقامُ التَّقديمِ يُباينُ مَقامَ التَّأخيرِ، ومَقامُ الذِّكْرِ يُباينُ مَقامَ الحذْفِ، ومَقامُ القصْرِ يُباينُ مَقامَ خِلافِه، ومَقامُ الفصْلِ يُباينُ مَقامَ الوصْلِ، ومَقامُ الإيجازِ يُباينُ مَقامَ الإطْنابِ والمُساواةِ، وكذا خِطابُ الذَّكيِّ يُباينُ خِطابَ الغَبيِّ، وكذا لكلِّ كَلمةٍ معَ صاحبتِها مَقامٌ... إلى غيرِ ذلك... وارتفاعُ شأنِ الكَلامِ في الحُسْنِ والقَبولِ بِمطابقتِه للاعْتبارِ المُناسبِ، وانْحطاطُه بِعَدَمِ مُطابقتِه له)
[33] ((الإيضاح في علوم البلاغة)) (1/ 41 - 43). .
أمَّا الفَصاحةُ فقد سبَقت شروطُ الفَصاحةِ في الكَلمةِ المُفردةِ، وفي الكَلامِ المُرَكَّبِ.
وكلَّما وافق الكَلامُ وطابَق مُقْتضَى الحالِ كان بلِيغًا، حتَّى يَصِلَ إلى درَجَةِ الكَلامِ المُعْجِزِ، الَّذي وصَل إلى قمَّةِ البَلاغةِ، وبهذا تَحدَّى اللهُ العَربَ جميعًا -على فَصاحتِهم وبَلاغتِهم- أنْ يَصِلوا لِمِثلِ المُستوى القُرآنيِّ مِنَ البَلاغةِ ومُطابَقةِ مُقتضَى الحالِ؛ فإنَّ القُرآنَ يَصلُحُ لكلِّ فِئامِ النَّاس على حدٍّ سَواءٍ، قال تعالى:
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء: 88] ، وقال تعالى:
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هود: 13-14] ، وقال تعالى:
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتي وَقُودُهَا النَّاس وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: 23-24] . فتَحدَّاهم اللهُ على أنْ يَأتوا بِمِثلِه، فلمَّا بان عَجْزُهم تَحدَّاهم أنْ يَأتوا بعشْرِ سُوَرٍ فحسْبُ، ثُمَّ على أنْ يَأتوا بسُورةٍ واحِدةٍ.
وكلَّما ابتعَد الكَلامُ عن مُطابَقةِ مُقتضَى الحالِ، تَدَنَّى في بَلاغتِه وفَصاحتِه، حتَّى يَصيرَ مِثلَ أصْواتِ الحَيواناتِ في خُلُوِّه عن الحُسْنِ، وإنْ كان مُعْرَبًا مَفهومًا
[34] ينظر: ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) لبهاء الدين السبكي (1/ 93)، ((الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم)) لعصام الدين ابن عربشاه (1/ 193). .
و(البَلاغةُ تَرجِعُ في أصولِها العامَّةِ إلى تَحقُّقِ العَناصرِ السِّتَّةِ التَّاليةِ:
العُنصرُ الأوَّلُ: الالتزامُ بما ثبَت في مَتْنِ اللُّغةِ وقواعدِ النَّحوِ والصَّرفِ، واختيارُ الفَصيحِ مِن المُفرداتِ والجُمَلِ والقَواعدِ.
العُنصرُ الثَّاني: الاحْتِرازُ عنِ الخَطَأ في تأدِيةِ المَعنى المُرادِ.
العُنصرُ الثَّالثُ: الاحْترازُ عنِ التَّعقيدِ في أداءِ المَعاني المُرادَةِ، سواءٌ مِن جِهةِ اللَّفظِ أو مِن جِهةِ المَعنى.
العُنصرُ الرَّابعُ: انتِقاءُ الكَلماتِ والعِباراتِ الجَميلةِ، الَّتي يُدرِكُ جَمالَها الحِسُّ المُرهَفُ، والذَّوْقُ الرَّفيعُ لدى البُلَغاءِ.
العُنصرُ الخامسُ: تَصيُّدُ المَعاني الجَميلةِ، وتقديمُها في قوالِبَ لَفظيَّةٍ ذاتِ جَمالٍ.
العُنصرُ السَّادسُ: تَزيينُ الكَلامِ بالمُحَسِّنَاتِ الَّتي تَسْتَثِيرُ إعْجابَ المُخاطَبِين.
والمُحسِّناتُ الَّتي تُزَيِّنُ الكَلامَ وتَزيدُه جَمالًا لا تُحصَرُ، وباسْتطاعةِ المَوهوبينَ أنْ يَبْتكِروا فيها دَوامًا أشياءَ جديدةً لم يتوصَّلْ إليها البُلَغاءُ السَّابقونَ مِنَ النَّاسِ)
[35] ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكة (1/ 131، 132). .