المَبْحَثُ الأوَّلُ: التَّقْييدُ بالمَفاعيلِ
1- التَّقْييدُ بالمَفْعولِ به:يُفيدُ التَّقْييدُ بالمَفْعولِ به تَحْديدَ النِّسبةِ بَيْنَ المُسنَدِ والمُسنَدِ إليه؛ فإذا قُلنا: ركِب زيدٌ حِصانًا؛ أفاد القيْدُ بالمَفْعولِ "حِصانًا" بَيانَ ما وقَع عليه فِعلُ الفاعِلِ، فلو قُلنا: ركِب زيدٌ، لَكانتِ الجُملةُ مُطْلَقةً تَحْتملُ احْتمالاتٍ كَثيرةً فيما يكونُ الَّذي ركِبه زيدٌ؛ هل ركِب طائِرةً أم سيَّارةً أم دَرَّاجةً أم حِمارًا ...؟
ولا يَخْتلِفُ التَّقْييدُ معَ المَفْعولِ الأوَّلِ أوِ الثَّاني أوِ الثَّالثِ؛ فإذا قلتَ: منَحتِ الإدارةُ خالِدًا جائِزةَ التَّفوُّقِ، وضَح بالقيْدِ الأوَّلِ "خالدًا" مَنْ وقَع عليه فِعلُ الفاعِلِ؛ فذِكْرُ خالِدٍ -وهُو المَفْعولُ الأوَّلُ- أغْنانا عنِ التَّفكيرِ فيمَنْ أعْطَتْه الإدارَةُ الجائِزةَ، وكذلك التَّقْييدُ بالمَفْعولِ به الثَّاني "الجائِزة" بيَّن لنا ما أعْطتِ الإدارةُ لخالِدٍ.
وقد يكونُ لذكْرِ المَفْعولِ به فائِدةٌ بَلاغيَّةُ تَتعلَّقُ به، وهِي دفْعُ تَوهُّمِ إرادَةِ غيرِ المُرادِ، كقولِ الشَّاعِرِ: الوافر
ستَكْسوني بقتْلِكَ لي فَخارًا
ومَجْدًا مِن دِماءٍ زاكياتِ
فالشَّاعِرُ يُخاطِبُ الظَّالِمَ الَّذي يُريدُ قتْلَه للتَّخلُّصِ منه، ويُنبِّهُه إلى أنَّه سيَكْسوه بقتْلِه الفخْرَ والمجْدَ، لا أنَّ قتْلَه يُلْبِسُه الذِّلَّةَ والمَهانةَ.
ومنه أيضًا قولُ الشَّاعِرِ: الطويل
ولو شئْتُ أنْ أبكي دمًا لبَكيتُهُ
عليهِ ولكنْ ساحةُ الصَّبرِ أوسَعُ
فالتَّصْريحُ بالمَفْعولِ هنا وهُو "دمًا" أفاد بَيانَ عَظيمِ فقْدِ الشَّاعرِ بمَوْتِ المَرثيِّ؛ فإنَّه لوِ اسْتطاع أنْ يَبْكي عليه دمًا بدَلَ الدَّمعِ لفعَل. ولو أنَّ الشَّاعرَ لم يذْكُرِ المَفْعولَ به وقال: ولو شئْتُ أنْ أبْكي لبَكَيت عليه، لَكان في البيتِ دَليلٌ على جُمودِه وقَسْوتِه، لا على عَظيمِ حزْنِه وتأثُّرِه بمَوْتِه.
2- المَفْعولُ فيه:وهُو ظرْفُ الزَّمانِ أوِ المَكانِ، يُؤتى به لتَقْييدِ المُسنَدِ ببَيانِ زمَنِه أو مَكانِه الَّذي وقَع فيه؛ تقولُ: سافَر مُحمَّدٌ ليْلًا، بنَى عليٌّ بيتَه فوقَ الجبَلِ. فالجُملةُ الأُولى جاء فيها ظرْفُ الزَّمانِ "ليْلًا" ليُبيِّنَ وقتَ حُدوثِ الفِعلِ، والجُملةُ الثَّانيةُ جاء فيها ظرْفُ المَكانِ "فوقَ الجبلِ" ليُبيِّنَ مَكانَ حُدوثِ الفِعلِ؛ فلولا الظَّرْفانِ في الجُملتَينِ لَما علِمْنا متى سافَر مُحمَّدٌ ولا أين بنَى عليٌّ بيتَه.
3- المَفْعولُ لأجلِه:ويُؤتى به لبَيانِ عِلَّةِ الحدَثِ أو سَببِه؛ تقولُ: ذاكَرَ سعيدٌ رغْبةً في التَّفوُّقِ، حضَر زيدٌ إكْرامًا لعليِّ. فالمَفْعولُ لأجلِه في الجُملةِ الأُولى "رغْبةً" كشَف لنا عن سَببِ حُدوثِ الفِعلِ، فلولا الرَّغْبةُ في التَّفوُّقِ لَما ذاكَر سعيدٌ، وسَببُ حُضورِ زيدٍ هو إكْرامُ عليٍّ.
4- المَفْعولُ المُطلَقُ:ويُؤتَى به للفائِدةِ الَّتي يُعْطيها المَفْعولُ المُطلَقُ أو نائِبُه في أصْلِ وضْعِه مِنَ التَّوْكيدِ، أو بَيانِ النَّوعِ، أوِ العدَدِ:
- فإفادَةُ التَّوْكيدِ مِثلُ قولِه تعالى:
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] ؛ فالتَّقْييدُ بالمَفْعولِ المُطلَقِ هنا أفاد تَوْكيدَ تَكْليمِ اللهِ لمُوسى، وإثْباتَ صفَةِ الكَلامِ له تعالى، خِلافًا للمُعْتزلَةِ ومَنْ وافَقَهم.
- وبَيانُ العدَدِ مِثلُ قولِك: طعَن اللِّصُّ الرَّجلَ طَعْنتَين؛ فالتَّقْييدُ بالمَفْعولِ المُطلَقِ أفاد عدَدَ الطَّعناتِ الَّتي أخَذها الرَّجُلُ.
- وبَيانُ النَّوعِ كقَولِه تعالى:
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا [المعارج: 5] ؛ فالصَّبرُ الجَميلُ صبْرٌ بلا شَكوى ولا قلَقٍ، وتقولُ: بكى بُكاءَ الثَّكْلى؛ فبُكاءُ الثَّكْلى الَّتي فقَدتْ ولدَها غيرُ بُكاءِ غيرِها.
5- المَفْعولُ معَه:هو اسمٌ يُؤتى به مَنْصوبًا بعدَ واوِ المَعيَّةِ؛ لإفادَةِ تَقْييدِ المُسنَدِ في الجُملةِ بقيْدِ مُصاحَبةِ الاسمِ المَنْصوبِ بعدَ واوِ المَعيَّةِ للاسمِ الَّذي جاء قبلَها، فهُو يُفيدُ فائِدةً شَبيهَةً بفائِدةِ الحالِ في الجُملةِ، ولا يُقصَدُ إشْراكُ ما بعدَ واوِ المَعيَّةِ في حكْمِ ما قبلَها، مِثلُ: سرْتُ والجبَلَ، أيْ: سرْتُ مُصاحِبًا الجبَلَ، معَ أنَّ الجبَلَ لم يَشمَلْه حكْمُ السَّيرِ الَّذي سِرْتَه
[247] ينظر: ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حبنكة (1/ 451 - 457). .