المَطْلَبُ الخامسُ: التشبيهُ الضمنيُّ
هو تَشْبيهٌ لا يُوضَعُ فيه المُشبَّهُ والمُشبَّهُ به في صُورةٍ مِن صُوَرِ التَّشْبيهِ المَعْروفةِ، بل يُلمَحُ المُشبَّهُ والمُشبَّهُ به، ويُفهَمانِ مِنَ المَعْنى، كقَولِ
المُتَنبِّي: الخفيف
مَنْ يَهُنْ يَسهُلِ الهَوانُ عليه
ما لِجُرْحٍ بميِّتٍ إيْلامُ
يُريدُ: مَنِ اعْتادَ الهَوانَ والصَّغارَ اسْتطاعَ تحمُّلَ ذلك، وسهُلَ ذلك عليه، يُؤيِّدُ هذا الادِّعاءَ أنَّ الميِّتَ لا يَتألَّمُ بالجِراحِ الحادِثةِ فيه. وهذا كما ظهَر ليس على صُورِ التَّشْبيهِ المَعْروفةِ.
وقولِه أيضًا: الوافر
فإنْ تَفُقِ الأنامَ وأنتَ منْهم
فإنَّ المِسْكَ بعضُ دمِ الغَزالِ
يُريدُ: ليس أمرًا مُسْتغرَبًا أنْ تَفوقَ جَميعَ النَّاسِ وأنت واحِدٌ منْهم، فإنَّ المِسْكَ مِنَ الدَّمِ، وبَوْنٌ كَبيرٌ بينَ المِسْكِ والنَّجَسِ مِنَ الدِّماءِ.
ومنه قولُ
أبي فِراسٍ الحَمدانيِّ: الطويل
سيَذْكُرُني قَوْمي إذا جَدَّ جِدُّهم
وفي اللَّيلةِ الظَّلْماءِ يُفْتقَدُ البدْرُ
يُريدُ أنْ يقولَ: إنَّ قومَه سيَذكُرونَه عند اشْتِدادِ الخُطوبِ والأهْوالِ عليهم ويَطْلبونَه فلا يَجِدونَه، ولا عجَبَ في ذلك؛ فإنَّ البدْرَ يُفْتقَدُ ويُطلَبُ عند اشْتِدادِ الظَّلامِ.
وقولُ آخَرَ: البسيط
علا فما يَسْتقرُّ المالُ في يدِهِ
وكيفَ تُمسِكُ ماءً قِمَّةُ الجبَلِ
يُريدُ أنَّ المَمْدوحَ لمَّا عَلا وعزَّ، جادَ بِما في يدِه ولم يَبخَلْ على أحدٍ، وهذا شأنُ كلِّ عالٍ مُرْتفعٍ، كما أنَّ قِمَّةَ الجبَلِ لا تُمسِكُ الماءَ
[305] ينظر: ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 234)، ((علم البيان)) لعبد العزيز عتيق (ص: 101). .
كما أنَّ التَّشبيهَ يَنقسِمُ انقسامًا آخَرَ بحسَبِ تَعدُّدِ رُكنيْه إلى ثلاثةِ أنواعٍ:
1- التَّشبيهُ المفرَدُ: وذلك إذا كان المُشَبَّهُ شيئًا واحدًا، والمُشَبَّه به كذلك، حتَّى وإنْ كان الشَّيءُ الواحدُ مركَّبًا مِن عِدَّةِ أُمورٍ، كالتَّشبيهاتِ الَّتي مرَّت.
2- التَّشبيهُ المتعدِّدُ: وهو أنْ يكونَ الكلامُ مَعقودًا على تَشبيهِ شَيئينِ أو أكثَرَ بشَيئينِ أو أكثَرَ، لا يَتداخَلُ أحدُهما في الآخَرِ.
وذلك كقولِ امرئِ القَيسِ في وَصفِ عُقابٍ: الطويل
كأنَّ قلوبَ الطَّيرِ رَطْبًا ويابسًا
لَدى وَكْرِها العُنَّابُ والحَشَفُ البالي
ففي البيتِ صوَّر قلوبَ الطُّيورِ الرَّطبةَ بالعُنَّابِ، وهو ثَمرٌ أحمَرُ رَطبٌ لشَجرةٍ مَعروفةٍ، وصَوَّر القلوبَ اليابسةَ بالتَّمرِ الَّذي ذَهَب ماؤه وزالَت رُطوبتُه وانقَضَى خَيرُه.
وقد قسَّم البلاغيُّون التَّشبيهَ المتعدِّدَ إلى نوعينِ:- التَّشبيهُ الملفوفُ: وهو جمْعُ كلِّ طَرفٍ على حِدَةٍ؛ فيُؤتى بالمُشَبَّهاتِ أوَّلًا ثمَّ بالمُشَبَّهاتِ بها، كقولِ الشَّاعرِ: المجتث
لَيْلٌ وبَدْرٌ وغُصْنُ
شَعرٌ ووَجْهٌ وقَدُّ
خَمْرٌ ودُرٌّ ووَرْدُ
رِيقٌ وثَغْرٌ وخَدُّ
شَبَّه الشَّعرَ باللَّيلِ، والوجهَ بالبَدرِ، والقَدَّ بالغُصنِ، والرِّيقَ بالخمرِ، والثَّغرَ بالدُّرِّ، والخدَّ بالوردِ، وجَمَعَ كلَّ طَرَفٍ مِن المشبَّهِ والمشبَّهِ به على حِدَةٍ؛ فالشَّعرُ والوجهُ والقَدُّ هي المشبَّهاتُ في البيتِ الأوَّلِ، والرِّيقُ والثَّغرُ والخَدُّ في البيتِ الثَّاني، والمشبَّهاتُ بها في الأوَّلِ اللَّيلُ والبَدْرُ والغُصنُ، وفي الثَّاني: الخمرُ والدُّرُّ والوردُ.
ومنه كذلك قولُ امرئِ القَيسِ السابقِ؛ حيث جَعَل المشبَّهَ "قُلوب الطَّيرِ رَطْبًا ويابسًا" مُتواليةً، والمشبَّهَ به: "العُنَّاب والحَشَف" بعدها.
- التَّشبيهُ المفروقُ: وهو جمعُ كلِّ مُشَبَّهٍ مع المشبَّهِ به، كقولِ المُرَقِّشِ الأكبَرِ: السريع
النَّشرُ مِسكٌ والأَكُفُّ دَنا نِيرُ وأطرافُ الأَكُفِّ عَنَمْ
جمَعَ بيْن كلِّ مُشبَّهٍ وما يَخُصُّه مِن المشبَّهِ به؛ حيث شبَّه النَّشرَ بالمسكِ، والأكُفَّ بالدَّنانيرِ، وأطرافَ الأكُفِّ بالعَنَمِ.
ومنه قولُ الشَّاعرِ: الخفيف
إنَّما النَّفسُ كالزُّجاجةِ والعِلــــــــــــ
ـــــــــــــمُ سِراجٌ وحِكمةُ اللهِ زَيتُ
فإذا أشْرقَتْ فإنَّك حَيٌّ
وإذا أظلَمَت فإنَّك مَيْتُ
حيث جَمَع بيْن الأطرافِ؛ فالنَّفسُ مُشبَّهةٌ بالزُّجاجةِ، والعِلمُ بالسِّراجِ، والحِكمةُ بالزَّيتِ.
3- تَشبيهٌ مُفرَدٌ مُتعدِّدٌ: وهو ما كان أحدُ رُكنَي التَّشبيهِ مُفرَدًا والآخَرُ مُتعدِّدًا، وذلك على صورتينِ:
أ- تَشبيهُ التَّسويةِ: وهو أن يكونَ المشبَّهُ مُتعدِّدًا والمشبَّهُ به مُفرَدًا، كقولِ الشَّاعرِ: المجتث
صُدغُ الحبيبِ وَحالي
كِلاهما كاللَّيالي
وثَغْرُه في صَفاءٍ
وأدْمُعي كاللآلِ
ففي البيتِ الأولِ صوَّر الشَّاعرُ صُدغَ الحبيبِ وحالَه معه باللَّيالي في السَّوادِ؛ فأتى بالمشبَّهِ مُتعدِّدًا، والمشبَّهِ به مُفرَدًا. وسُمِّي بذلك للتَّسويةِ فيه بيْن المُشَبَّهات.
ب- تَشبيهُ الجمعِ: وهو أن يكونَ المشبَّهُ واحدًا، والمشبَّهُ به مُتعدِّدًا، عكْسُ الصُّورةِ السَّابقةِ، ومنه قولُ
البُحْتريِّ:
كأنَّما يَبسُمُ عن لُؤلؤٍ
مُنَضَّدٍ أو بَرَدٍ أو أقاحْ
صوَّر أسنانَ مَحبوبِه باللُّؤلؤِ المُنَظَّمِ وبالبَرَدِ، وهو الثَّلجُ، وبالأقاحِ، وهو نَبتٌ له زَهرٌ أبيضُ.
ومِثلُه قولُ شَوقي في وَصفِ الطَّائرةِ: الرَّمل
كبِساطِ الرِّيحِ في القُدرةِ أو
هُدْهُدِ السِّيرةِ في صِدقِ البلاءْ
أو كَحُوتٍ يَرْتَمي الموجُ به
سابحٍ بيْن ظُهورٍ وخَفاءْ
حيث صوَّر الطَّائرةَ ببِساطِ الرِّيحِ، وبهُدْهُدِ سُليمانَ، وبالحُوتِ الذي يَزِيدُ الموجُ مِن سُرعةِ سِباحتِه
[306] ينظر: ((جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع)) للهاشمي (ص: 225)، ((بغية الإيضاح لتلخيص المفتاح في علوم البلاغة)) لعبد المتعال الصعيدي (3/ 428). .