المَبْحَثُ الأوَّلُ: تَعْريفُ الكِنايةِ
الكِنايةُ لُغةً: مَصدَرُ كَنَى عنِ الأمرِ بغَيرِه بمعنى أخفاهُ، أو مِن كَنَوْتُ عن الشَّيءِ وكَنَّيْتُ عنه: إذا تركت التَّصريح به، وكَنَى يَكْنِي كِنايةً: إذا تَكلَّم بغَيرِه ممَّا يدُلُّ عليه، ومنه قِيل للضَّمائِرِ: مَكنيٌّ
[347] ينظر: ((شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم)) لنشوان الحميري (9/ 5914)، ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 274). .
واصْطِلاحًا: "أنْ يُريدَ المُتكلِّمُ إثْباتَ مَعنًى مِنَ المَعاني، فلا يذْكُرَه باللَّفظِ المَوضوعِ له في اللُّغةِ، ولكنْ يَجيءُ إلى مَعنًى هو تاليه ورِدْفُه في الوُجودِ، فيُومِئُ به إليه، ويَجعَلُه دَليلًا عليه"
[348] ينظر: ((دلائل الإعجاز)) لعبد القاهر الجرجاني (1/ 66). .
أو هو: "ذكْرُ اللَّفظِ وإرادةُ لازِمِ مَعْناه، معَ جَوازِ إرادتِه معَه"
[349] ينظر: ((عروس الأفراح في شرح تلخيص المفتاح)) لبهاء الدين السبكي (2/ 206)، ((مختصر المعاني)) لسعد الدين التفتازاني (ص: 257). .
شَرحُ التَّعريفِ:تَقومُ الكِنايةُ على فِكرةِ عدَمِ التَّصْريحِ بألْفاظِ المَعاني المَطْلوبةِ، وإنَّما بذِكْرِ غيرِه الَّذي يدُلُّ عليه، لغَرَضٍ أدَبيٍّ أو بَلاغيٍّ، كالمُبالَغةِ أوِ التَّصويرِ أوِ التَّعفُّفِ عن ذِكرِ الشَّيءِ المُستهجَنِ وما يَنْبو على الأذُنِ سَماعُه، فتؤدِّي الكِنايةُ حِينَئذٍ ما لا تُؤدِّيه الحَقيقةُ.
وفي التَّعريفِ الثَّاني للكِنايةِ يَظهَرُ جَليًّا أنَّ الكِنايةَ تُفارِقُ المَجازَ في أنَّها يَجوزُ فيها إرادَةُ المَعْنى الحَقيقيِّ معَ المَعْنى المُرادِ؛ وذلك لعدَمِ القَرينةِ الَّتي تَمنعُ مِن جَوازِ المَعنيَينِ معًا.
فقولُك: "فُلانةٌ نَؤومُ الضُّحى" مَعناه الظَّاهِرُ أنَّها تَنامُ حتَّى تَرتفِعَ الشَّمسُ، لكنَّ مَعْناه اللَّازِمَ -وهُو المُرادُ- أنَّها مُتْرَفةٌ غَنيَّةٌ عندَها مَنْ يَخدُمُها، بحيثُ لا تَحتاجُ إلى الاسْتِيقاظِ مُبكِّرًا.
فلازِمُ المَعْنى هو التَّرَفُ والغِنى، وهُو المُرادُ؛ فقد يَقالُ ذلك في حقِّ امْرأةٍ تَسْتيقِظُ مُبكِّرًا لكنَّها مُتْرَفةٌ غَنيَّةٌ لها مَنْ يَكفيها مُؤنةَ بيتِها. والمَعْنى الظَّاهِرُ -وهُو الاسْتِيقاظُ مُتأخِّرًا- هو المَعْنى الحَقيقيُّ للَّفظِ، يَجوزُ إرادتُه معَ المَعْنى اللَّازِمِ؛ بأنْ تكونَ البنْتُ اجْتَمعتْ فيها الصِّفتانِ، وهِي الاسْتِيقاظُ مُتأخِّرًا معَ التَّرَفِ، وقد لا يَجوزُ إرادتُه كما ذكَرنا فيما إنْ كانتْ لا تَتأخَّرُ في نومِها.
وكذلك قولُ الخَنْساءِ: المتقارب
طَويلُ النِّجادِ رَفيعُ العِمادِ
كَثيرُ الرَّمادِ إذا ما شَتَا
فإنَّ الخَنْساءَ تَرْثي أخاها صَخْرًا، وتَصِفُه بأنَّه طَويلُ النِّجادِ، والنِّجادُ: ما كان على عاتِقِ الرَّجُلِ مِن حِمالَةِ السَّيفِ
[350] ينظر: ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (1/ 451)، ((تهذيب اللغة)) للأزهري (10/ 351). ، وتُريدُ مِن وصْفِها له بذلك أنَّه طَويلُ الجُسْمانِ؛ فإنَّه إذا كان حامِلُ السَّيفِ طَويلًا كان صاحِبُه طَويلًا بَداهةً، والوصْفُ بالطُّولِ هنا يَلزَمُ منه أيضًا الوصْفُ بالشَّجاعةِ؛ لأنَّه يَلزَمُ مِن طُولِ الجِسمِ ضَخامتُه وقوَّتُه وشَجاعتُه غالِبًا. فقولُها: "طَويلُ النِّجادِ" كِنايةٌ عنِ الشَّجاعةِ إذنْ، وهُو المَعْنى اللَّازِمُ مِن قولِها، على أنَّه يَجوزُ أنْ يكونَ صخْرٌ طَويلًا فِعْلًا وله نِجادٌ طَويلٌ، ويَجوزُ أنْ يكونَ قَصيرًا، أو لا يكونَ له نِجادٌ أصْلًا.
وفي قَولِها: "كَثيرُ الرَّمادِ" كِنايةٌ أيضًا؛ فإنَّ كثْرةَ الرَّمادِ دَليلٌ على كثْرةِ إيْقادِ النَّارِ والطَّبخِ، وهُو دَليلٌ على الكَرمِ، فكان قولُها: "كَثيرُ الرَّمادِ" كِنايةً عنِ الكَرمِ، فيُقالُ: فُلانٌ كَثيرُ الرَّمادِ، وإنْ لم يكنْ يَطبُخُ أصْلًا ولا له نارٌ، وإنَّما هو كَريمٌ في البذْلِ والإنْفاقِ أوِ الإطْعامِ.
على أنَّه يَجوزُ أنْ يُرادَ المَعْنى الأصْليُّ دُونَ لازِمِ المَعْنى، فتَقولُ: فُلانةٌ نَؤومُ الضُّحى، ولا تَقصِدُ أنَّها مُتْرَفةٌ أو غَنيَّةٌ، وتقولُ: فُلانٌ طَويلُ النِّجادِ، تُريدُ أنَّ نِجادَ سيْفِه طَويلٌ، دُونَ أنْ تَقصِدَ وصْفَه بالشَّجاعةِ أو نحْوِ ذلك، فلا تكونُ كِنايةً، وهذا يُخالِفُ المَجازَ أيضًا؛ فإنَّه يَستحيلُ في مِثلِ: "فُلانٌ يَرْعى الغَيْثَ" أنْ تَقصِدَ رعْيَ الغَيْثِ نفْسِه لا رَعيَ المطَرِ.
وهذا المَعْنى الأصْليُّ قد تَمتنِعُ إرادتُه أحيانًا، وذلك مِثلُ قولِك: "يَسيرُ الجُودُ حيثُ يَسيرُ فُلانٌ"؛ فإنَّ الجُودَ لا يَسيرُ، فامْتنَعتْ إرادةُ المَعْنى الأصْليِّ، وانْصرَف المُرادُ إلى لازِمِ المَعْنى، وهُو وصْفُ المَمدوحِ بالكَرمِ
[351] ينظر: ((الأطول شرح تلخيص مفتاح العلوم)) لعصام الدين الحنفي (2/ 342)، ((حاشية الدسوقي على مختصر المعاني)) (3/ 496). .