المَطْلَب الثَّاني: أقْسامُ الكِنايةِ من حيثُ الوَسائِطُ
تَنقسِمُ الكِنايةُ من حيثُ الوَسائِطُ ومن حيثُ طَبيعةُ الكِنايةِ قُربًا وبُعدًا عنِ الأفْهامِ إلى أرْبعةِ أقْسامٍ:
1- التَّعريضُ:وهُو أنْ يُطلَقَ الكَلامُ ويُشارَ به إلى مَعنًى آخَرَ، كحَديثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
((المُسلِمُ مَنْ سلِمَ المُسلمونَ مِن لِسانِه ويدِه، والمُهاجِرُ مَنْ هجَر ما نهَى اللهُ عنه )) [358] أخرجه البخاري (10) واللفظ له، ومسلم (40) من حَديثِ عبد الله بن عمرو بن العاص رَضِيَ اللهُ عنهما. ، فإنَّه إشارَةٌ إلى شيءٍ لم يُذكَرْ، وهُو أنَّ مَنِ انْتفتْ عنه تلك الصِّفاتُ فليس بمُسلِمٍ ولا بمُهاجِرٍ.
ومنه أيضًا ما كتَبه بعضُ وُزراءِ
المَأمونِ للمَأمونِ: "أمَّا بَعدُ، فقدِ اسْتشفَع بي فُلانٌ إلى أميرِ المُؤمِنينَ ليَتطوَّلَ في إلْحاقِه بنُظرائِه، فأعْلَمْتُه بأنَّ أميرَ المُؤمِنينَ لم يَجعَلْني في مَراتِبِ المُستَشفِعِينَ، وفي ابْتدائِه بذلك بُعْدٌ عن طاعَتِه"، فردَّ عليه
المَأمونُ: "قد عرَفنا نَصيحتَك له، وتَعريضَك لنَفْسِك، وأجَبناك إليهما".
فالرَّجلُ عرَّض بذلك إلى أنَّه ليس مِن خاصَّةِ
المَأمونِ، وأنَّه لم يَجعَلْ له إلى الآنَ شرَفَ الشَّفاعَةِ عندَه؛ ولِهذا فهِمَ
المَأمونُ تَعريضَه وأجابه إليه.
ومِن بَديِعِ التَّعريضِ أيضًا: أنَّ امْرأةً وقَفتْ على بيْتِ قيْسِ بنِ عُبادَةَ فقالت: "أشكُو إليك قلَّةَ الفأرِ في بيْتي"، فقال: ما أحْسَنَ تَعريضَها! امْلؤوا بيتَها خُبزًا وسَمنًا ولَحمًا.
إنَّ هذه المَرأةَ اشتكتْ أنَّه ليس ثَمَّةَ فِئرانٌ في بيتِها، فهذا أمرٌ يُمدَحُ ولا يُذمُّ فيُشتكى، وإنَّما مُرادُها أنَّه ليس لديها طَعامٌ ولا قُوتٌ؛ ولهذا لم تَجدِ الفِئرانُ شيئًا في بيتِها فهَجَرتْه، فهذا تَعْريضٌ بالفَقْرِ.
1- التَّلويحُ: وهو في اللُّغةِ: أنْ تُشِيرَ إلى غيرِك مِن بُعدٍ
[359] ينظر: ((دستور العلماء = جامع العلوم في اصطلاحات الفنون)) للأحمد نكري (1/ 236). .
وفي اصطلاحِ البلاغيِّينَ: هو كِنايةٌ كثُرتْ فيها الوَسائِطُ، وهُو الكِنايةُ البَعيدةُ الَّتي ذَكَرناها في الكِنايةِ عن صِفةٍ، كقَولِهم: "هؤلاءِ قومٌ يُوقِدونَ النَّارَ في الوادي" كِنايةً عنِ البُخْلِ؛ فإنَّ الوادِيَ مَكانٌ مُنْخفِضٌ عنِ الأرْضِ، فيَنتقِلُ الذِّهنُ مِن إيْقادِ النَّارِ في الوادي إلى أنَّهم يُخفُون النِّيرانَ خَشيةَ أنْ يَرى نارَهم غَريبٌ فيَأتيَهم، إلى وصْفِهم بالبُخْلِ.
ومِثلُه كما ذكَرنا "طَويلُ النِّجادِ" في الدَّلالةِ على الشَّجاعةِ، و"كَثيرُ الرَّمادِ" في الدَّلالةِ على الكَرمِ، ومِثلُه "جَبانُ الكَلْبِ"، و"مَهزولُ الفَصيلِ".
2- الرَّمزُ:وهو في اللُّغةِ: أنْ تُشِيرَ إلى قَريبٍ منك خُفْيةً أو بعَينٍ أو حاجبٍ أو شَفةٍ
[360] ينظر: ((معجم ديوان الأدب)) للفارابي (2/ 114)، ((تهذيب اللغة)) (13/ 141). .
وفي اصطلاحِ البلاغيِّينَ: كِنايةٌ قلَّتْ فيها الوَسائِطُ، لكنَّها تَحتاجُ إلى إعْمالِ العقْلِ والفِكْرِ، مِثلُ قولِهم: فُلانٌ عَريضُ القَفا، كِنايةً عنِ الغَباءِ؛ فإنَّ العَربَ دوْمًا ما تَرى أنَّ الغَبيَّ عَريضُ القَفا، ومِثلُه قولُهم: غَليظُ الكَبِدِ، كِنايةً عنِ القَسْوةِ والجَفاءِ؛ فإنَّ العَربَ تَعتقِدُ أنَّ الكَبِدَ مَوضِعُ الإحْساسِ؛ ولِهذا تَصِفُ القاسيَ بغِلْظةِ كبِدِه، ومِثلُه: "مُكتنِزُ اللَّحمِ" كِنايةً عنِ الشَّجاعةِ، و"مُتناسِبُ الأعْضاءِ" كِنايةً عنِ الذَّكاءِ، ونحْوُ ذلك.
فهذه الكِناياتُ وإنْ لم تكنْ فيها وَسائِطُ، فإنَّها تَحتاجُ إلى تَأمُّلٍ، ومَعرفةٍ باللُّغةِ وثَقافَةِ العَربِ، وأنَّهم اصْطَلحوا على وصْفِ كذا بكذا، ونحْوِه.
3- الإيْماءُ أو الإشارَةُ:الإيماءُ لُغةً: الإشارةُ بالرأسِ أو اليدِ أو العينِ أو الحاجب
[361] ينظر: ((المغرب في ترتيب المعرب)) للمطرزي (ص: 496). .
واصطلاحًا: ما كانت فيه الكِنايةُ واضِحةً لا تَحتاجُ إلى تَأمُّلٍ، وقلَّتْ فيها الوَسائِطُ، حتى يسهل استنباط المقصود كقولِ الشَّاعِرِ: الكامل
أوَمَا رأيْتَ المَجْدَ ألْقى رَحْلَه
في آلِ طَلْحةَ ثمَّ لم يَتحوَّلِ
فالبيتُ كِنايةٌ عن نِسبةِ المجْدِ إلى آلِ طَلحَةَ (المَمدوحِينَ)، وهِي كِنايةٌ واضِحةٌ لا تَحتاجُ إلى تأمُّلٍ وإعمالِ فكْرٍ فيها، ولا إلى النَّظرِ فيما يَصْطلِحُ عليه العَربُ في التَّسميةِ والتَّكنيةِ، وهِي كذلك لم تَخرُجْ بنا مِن واسِطةٍ إلى أخرى، بل دلَّ البيْتُ مُباشَرةً على نِسبةِ المَجْدِ إليهم.
ومنه قولُ الشَّاعِرِ: الطويل
سألْتُ النَّدى والجُودَ ما لي أراكُما
تَبدَّلتُما ذُلًّا بعِزٍّ مُؤبَّدِ
وما بالُ رُكْنِ المَجدِ أمْسى مُهَدَّمًا
فقالا: أُصِبْنا بابنِ يَحيى مُحمَّدِ
فقلْتُ: فهَلَّا مُتُّمَا عندَ مَوتِه
فقد كُنْتُما عَبدَيه في كلِّ مَشهَدِ
فقالا: أقَمْنا كي نُعزَّى بفقْدِه
مَسافةَ يومٍ ثمَّ نَتلوهُ في غَدِ
فهذه الأبياتُ واضِحةٌ جَليَّةٌ في نِسبةِ النَّدى والجُودِ إلى المَرثيِّ، وهُو مُحمَّدُ بنُ يَحيى، وقد أقام الشَّاعرُ الكِناياتِ على صُورةِ مُحادَثةٍ جرَتْ بينَه وبينَ النَّدى والجُودِ، سألهما بعدَ تَبدُّلِ عِزِّهما إلى ذُلٍّ، فأجابا أنَّ رَفيقَهما وصاحِبَهما ومَن يُنسَبانِ إليه مات، فأشار عليهما بأنْ يَموتا بعدَ موتِه، واسْتَنكر عليهما البَقاءَ بعدَه، وقد كانا له كالتَّابِعَين، فأجابا أنَّهما إنَّما مكَثا يومًا يَتلقَّيانِ العَزاءَ فيه ثمَّ يَلحقانِ به.
وهذه الأبياتُ واضِحةٌ في الدَّلالةِ على نِسبةِ الصِّفةِ إلى المَوْصوفِ بلا تَأمُّلٍ أو تَفْكيرٍ، وبلا وَسائِطَ تَسْتدعي نقْلَ الذِّهنِ مِن واحِدةٍ إلى أخرى
[362] ينظر: ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 289)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حبنكة (2/ 140). .