المَطْلَبُ الأوَّلُ: الجِناسُ التَّامُّ
وهو: "ما اتَّفَق فيه اللَّفظانِ في أرْبعةِ أمورٍ: أنْواعِ الحُروفِ، وأعْدادِها، وهَيئتِها الحاصِلةِ مِنَ الحَركاتِ والسَّكَناتِ، وتَرتيبِ تلك الحُروفِ".
وهذا الجِناسُ أكْمَلُ أنْواعِ الجِناسِ إبْداعًا، وأعْلاها وأسْماها رُتْبةً.
فمنه قولُه تعالى:
يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ [النور: 43-44] ؛ ففي الآيَتَينِ تَكرَّرتْ كَلمةُ "الأبْصار" في المَوضِعَينِ، إلَّا أنَّ المَعْنى اخْتَلف في كلٍّ؛ ففي الأُولى المُرادُ بالأبْصارِ جَمْعُ بَصَرٍ، وهُو النَّظرُ، وفي الثَّانيةِ الأبْصارُ جَمْعٌ بَصَرٍ أيضًا، والمُرادُ العِلْمُ والعقْلُ؛ فأولو الأبْصارِ هم أصْحابُ العِلْمِ والعَقْلِ.
ويَنْقسِمُ هذا الجِناسُ إلى أنْواعٍ:
1- الجِناسُ المُماثِلُ: وهُو ما كان اللَّفظانِ مِن نَوعٍ واحِدٍ مِن أنْواعِ الكَلمةِ، أيْ: اسْمانِ أو فِعْلانِ أو حَرْفانِ.
كقَولِه تعالى:
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ [الروم: 55] ؛ فالسَّاعةُ الأُولى هي القِيامةُ، والسَّاعةُ الأخْرى ساعةٌ مِنَ الوقْتِ، أيْ: مِقدارٌ يَسيرٌ منه، وكِلا الكَلمَتَينِ اسمٌ.
ومنه قولُ
البُحْتُريِّ: الطويل
إذا العَينُ راحَتْ وهْيَ عَينٌ على الهَوى
فليسَ بسِرٍّ ما تُسِرُّ الأضالِعُ
فالجِناسُ واقِعٌ بينَ كَلمَتَيِ "العَين، عَيْن" في صدْرِ البيتِ، والعَينُ الأُولى هي الباصِرةُ، والعَينُ الثَّانيةُ هي الجاسوسُ، وكِلاهما اسْمٌ.
وقولُ
أبي نُواسٍ: الكامل
عبَّاسُ عبَّاسٌ إذا احْتَدمَ الوَغى
والفَضْلُ فَضْلٌ والرَّبيعُ رَبِيعُ
ففي هذا البيتِ ثَلاثةُ جِناساتٍ كما تَرى، فعبَّاسُ الأُولى اسمُ علَمٍ للمَمدوحِ، والثَّاني وصْفٌ مِنَ العُبوسِ والغَضَبِ، والفَضْلُ الأُولى اسمُ علَمٍ كذلك، والثَّانيةُ صِفةٌ كذلك بمَعْنى الزِّيادةِ والرِّزْقِ والخيْرِ، والرَّبيعُ الأُولى اسمُ علَمٍ، والثَّانيةُ تَشْبيهٌ له بفصْلِ الرَّبيعِ الَّذي تَزدهِرُ فيه الزُّهورُ والفاكِهةُ.
ومِن أمْثِلةِ الجِناسِ التَّامِّ بَيْنَ فِعلَينِ قولُ الشَّاعِرِ: البسيط
قومٌ لوَ انَّهمُ ارْتاضوا لَما قَرَضوا
أو أنَّهم شعَروا بالنَّقصِ ما شَعُروا
فالجِناسُ هنا بَيْنَ الفِعلَينِ "شعَروا" في عَجُزِ البيتِ؛ فالفِعلُ الأوَّلُ مِنَ الشُّعورِ، وهُو الإحْساسُ، والفِعلُ الثَّاني بمَعْنى نظَموا الشِّعْرَ.
ومنه أيضًا قولُ الآخَرِ: الكامل
يا إخْوَتي مُذْ بانَتِ النُّجُبُ
وجَب الفُؤادُ وكان لا يَجِبُ
فارقْتُكم وبَقيتُ بعدَكمُ
ما هكذا كان الَّذي يَجِبُ
وقَع الجِناسُ بينَ الفِعلَينِ "يَجِبُ" في قافيةِ البيْتَينِ؛ فالفِعلُ الأوَّلُ مِنَ الوَجيبِ الَّذي هو الارْتِجافُ والاضْطِرابُ، والثَّاني مِنَ الوُجوبِ، وهُو اللُّزومُ.
ومِنَ الجِناسِ التَّامِّ بينَ الحُروفِ قولُك: "قد يَنزِلُ المطَرُ شِتاءً، وقدْ يَنزِلُ صَيْفًا"؛ فإنَّ "قد" الأُولى أفادتِ التَّكثيرَ، والأخْرى أفادتِ التَّقليلَ، فاخْتَلف المَعْنى والحَرْفانِ واحِدٌ.
2- الجِناسُ المُسْتَوفَى: وهُو ما كان بينَ اللَّفظَينِ اخْتِلافٌ في النَّوعِ، وله ثَلاثُ صُوَرٍ:
أ- أنْ يكونَ أحدُهما اسمًا والآخَرُ فِعْلًا، كقولِ أبي تَمَّامٍ: الكامل
ما مات مِنَ كَرمِ الزَّمانِ فإنَّه
يَحيا لدى يَحيى بنِ عبدِ اللهِ
فبينَ "يَحْيا" و"يَحْيى" جِناسٌ تامٌّ، غيرَ أنَّ الكَلمةَ الأُولى فِعلٌ بمَعْنى يَعيشُ، والثَّانيةَ اسمُ علَمٍ.
ومنه قولُ الشَّاعِرِ: السريع
إذا رَماكَ الدَّهرُ في مَعْشَرٍ
وأجْمَع النَّاسُ على بُغْضِهم
فدارِهِم ما دُمتَ في دارِهم
وأرْضِهم ما دُمتَ في أرْضِهم
فالجِناسُ في كَلمتَي: "دارِهم"؛ الأُولى فِعلُ أمرٍ مِنَ المُداراةِ، والثَّانيةُ ضَميرُ الغائِبينَ أُضِيفتْ إليه كَلمةُ (دارٍ).
وكذلك الجِناسُ في كَلمتَيْ: "أرْضِهم"؛ الأُولى فِعلُ أمرٍ مِنَ الإرْضاءِ، والثَّانيةُ مَجْموعُ كَلمةِ (أرْض) معَ ضَميرِ الغائِبينَ.
ومنه قولُ الشَّاعِرِ: البسيط
لو زارَنا طَيْفُ ذاتِ الخالِ أحْيانا
وَنحنُ في حُفَرِ الأجْداثِ أحْيانا
يقولُ الشَّاعِرُ: لو زارَنا طيْفُ تلك الجَميلةِ صاحِبةِ خالِ الحُسْنِ لَأحْيانا ولو كنَّا في قُبورِنا أمْواتًا. والجِناسُ في كلمة: "أحْيانا"؛ الأُولى جمْعُ حِينٍ، والثَّانيةُ فِعلٌ ماضٍ مِنَ الإحْياءِ، أيْ: بعَث فينا الحَياةَ مِن جَديدٍ.
ب- أنْ يكونَ أحدُهما فِعلًا والآخَرُ حرْفًا:كقولِ الشَّاعِرِ: الطويل
عَلا نجْمُه في عالَمِ الشِّعْرِ فجأةً
على أنَّه ما زالَ في الشِّعْرِ شادِيا
فالجِناسُ بينَ "عَلا" و"عَلى"؛ الأُولى فِعلٌ ماضٍ مِنَ العُلوِّ، والثَّانيةُ حرْفُ جرٍّ.
ومنه أيضًا قولُ الشَّاعِرِ: الطويل
ولو أنَّ وصْلًا عَلَّلوهُ بقُربَةٍ
لَما أنَّ مِن حَمْلِ الصَّبابةِ والجَوى
فكَلمةُ "أنَّ" الأُولى حرْفٌ، و"أنَّ" الثَّانيةُ فِعلٌ ماضٍ مِنَ الأنينِ.
ج- أنْ يكونَ أحدُهما اسمًا والآخَرُ حرْفًا، كقولِك: "رُبَّ رجُلٍ شَرِب رُبَّ رَجُلٍ آخَرَ" فكَلمةُ "رُبَّ" الأُولى حرْفُ جرٍّ، و"رُبَّ" الثَّانيةُ مَعْناها عَصيرُ العِنَبِ
[461] ينظر: ((المحكم والمحيط الأعظم)) لابن سيده (10/ 237)، ((لسان العرب)) لابن منظور (1/ 405). .
3- الجِناسُ المُركَّبُ:وهُو ما كان أحدُ الطَّرفَينِ مُكوَّنًا مِن غيرِ كَلمةٍ، وهو أنْواعٌ:
أ- الجِناسُ المُتَشابِهُ أوِ المَقْرونُ: وهُو ما تَشابَهَ رُكناه لفْظًا وخَطًّا، كقولِ الشَّاعِرِ: المتقارب
إذا مَلِكٌ لم يكُنْ ذا هِبَةْ
فَدَعْهُ فدَوْلتُه ذاهِبَةْ
فالجِناسُ واقِعٌ بينَ "ذا هِبَة" و"ذاهِبَة"، الأُولى مُكوَّنةٌ مِن كَلمتَينِ، والثَّانيةُ مِن كَلمةٍ واحِدةٍ، وقد اتَّفقا في الصُّورةِ والرَّسمِ.
ومنه قولُ الشَّاعِرِ: الرمل
حارَ في سُقْميَ مِن بعدِهمُ
كلُّ مَنْ في الحيِّ داوى أو رَقا
بعدَهم لا طلَّ وادي المُنْحنى
وكذا بانُ الحِمَى لا أوْرَقا
فالجِناسُ هنا بينَ "أو رَقا" في قافيةِ البيْتِ الأوَّلِ، و"أوْرَقا" في البيْتِ الثَّاني، الأُولى مُكوَّنةٌ مِن "أو" والفِعل "رَقا" مِنَ الرُّقْيةِ، والثَّانيةُ فِعلٌ ماضٍ بمَعْنى خرَجَ وَرقُه.
وقولُ الآخَرِ: السريع
قلتُ لبَدْرِ التِّمِّ لمَّا غدا
مُستعجِبًا مِن حُسْنِ أوْصافِه
إنْ شئتَ أنْ تَسرِقَ مِن حُسْنِه
فلُذْ به يا بدرُ أو صافِه
فالجِناسُ بَيْنَ "أوْصافِه"؛ جمْعُ وصْفٍ، وبينَ "أو صافِه"؛ مُكوَّنةً مِن "أو"، وفِعلِ الأمرِ "صافِه" مِنَ المُصافاةِ، أيْ: اتَّخِذه صَفيًّا لك.
ب- الجِناسُ المَفروقُ: وهُو ما اتَّفقَ رُكناه لفْظًا لا خَطًّا، كقولِ الشَّاعِرِ: الكامل
لا تَعرِضَنَّ على الرُّواةِ قَصيدةً
ما لم تكنْ بالَغْتَ في تَهْذيبِها
فمتى عرَضتَ الشِّعْرَ غيرَ مُهذَّبٍ
عَدُّوه مِثلَ وَساوسٍ تَهْذي بِها
فالجِناسُ بينَ: "تَهْذيبِها"، و"تَهذْي بها"؛ الأُولى كَلمةٌ واحِدةٌ أُضِيفَتْ إلى الهاءِ، والثَّانيةُ فِعلٌ ومُتعلِّقُه الجارُّ والمَجرورُ، وقد اخْتَلف الطَّرفانِ في الخَطِّ كما تَرى في رسْمِ الياءِ.
ومنه أيضًا قولُ الشَّاعِرِ: البسيط
وإن أقرَّ على رقٍّ أنامِلَه
أقرَّ بالرِّقِّ كُتَّابُ الأنامِ لهُ
فالجِناسُ بينَ "أنَامِلَه" و"الأنَامِ له"، وقدِ اخْتَلف بينَهما رسْمُ المِيمِ بعدَ فصْلِها عنِ اللَّامِ في الثَّانيةِ.
وقولُ الشَّاعِرِ: الطويل
لقد راعَني بدْرُ الدُّجى بصُدودِه
ووكَّل أجْفاني برَعْيِ كَواكِبِهْ
فيا جَزَعي مهْلًا عساه يَعودُ لي
ويا كَبِدي صبْرًا على ما كَواكِ بهِ
فالجِناسُ بينَ "كواكِبه"، و"كَواكِ به"؛ فالنُّطقُ واحِدٌ والرَّسمُ اخْتَلف.
ج- الجِناسُ المَرفُوُّ: وهُو ما كان أحدُ الرُّكنَينِ كَلمةً واحِدةً، والآخَرُ كَلمةً وبعضَ كَلمةٍ أخْرى.
كقولِ الحَريريِّ: السريع
والمَكْرُ مَهْما اسْطعْتَ لا تَأتِهِ
لتَقْتَنِي السُّؤدُدَ والمَكْرُمَهْ
فالجِناسُ بينَ كَلمةِ "المَكْرُمَه" في قافيةِ البيْتِ، وبينَ "المَكْرُ مَهْ"، وهِي كَلمةُ "المَكْرِ" معَ شطْرِ كَلمةِ "مَهْما"؛ فاتَّفَق الرُّكنانِ لفْظًا، وأَحَدُهما كَلمةٌ، والآخَرُ كَلمةٌ وبعضُ كَلمةٍ.
وقولِ الحَريريِّ أيضًا: الطويل
ولا تَلْهَ عن تَذْكارِ ذَنْبِك وابْكِهِ
بدَمْعٍ يُحاكي المُزْنَ حالَ مَصابِهِ
ومَثِّلْ لعَينَيكَ الحِمامَ ووَقْعَه
ورَوْعةَ مَلْقاهُ ومَطعَمَ صابِهِ
فالجِناسُ بينَ كَلمةِ "مَصابِه"، وبينَ كَلمةِ "صَابِه" ومعَها المِيمُ الَّتي في آخِرِ كَلمةِ "مَطْعَمَ".
د- الجِناسُ المُلفَّقُ: وهُو ما كان طَرَفاه مُركَّبَينِ مِن كَلمتَينِ، أو كَلمةٍ وبعضِ الأخْرى.
فمنه قولُ الشَّاعِرِ: الوافر
إلى حَتْفي سعَى قَدَمي
أرَى قَدَمي أرَاقَ دَمِي
فما أنْفكُّ مِن نَدَمٍ
وهانَ دَمي فها نَدَمي
فالجِناسُ في البيتِ الأوَّلِ بينَ "أرَى قَدَمي" و"أرَاقَ دَمِي"؛ فحاصِلُ التَّركيبِ في الطَّرفَينِ يُعْطي نفْسَ النُّطقِ معَ اتِّفاقِ الحَرَكاتِ والسَّكَناتِ والمُدودِ، وفي البيتِ الثَّاني بينَ "هانَ دَمي" وبينَ "ها نَدَمي"، وكِلاهما مُركَّبانِ مِن كَلمتَينِ.
ومنه قولُ الشَّاعِرِ: الوافر
فلم تَضَعِ الأعادي قَدْرَ شاني
ولا قالوا فُلانٌ قدْ رَشاني
فالجِناسُ بينَ "قدْرَ شاني" و"قدْ رَشاني"، وكلٌّ مِنَ الطَّرفَينِ مُركَّبٌ مِن كَلمتَينِ؛ الأوَّلُ: مُركَّبٌ مِن "قدْر" و"شاني" بمَعْنى مَنْزِلتي، فهُو مُركَّبٌ مِنِ اسمَينِ، والثَّاني: مُركَّبٌ مِن "قد" و"رَشاني" بمَعْنى: دفَع لي رِشوةً، فهُو مُركَّبٌ مِن حرْفِ قدْ، وفِعلِ رَشاني
[462] ينظر: ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 325)، ((علم البديع)) لعبد العزيز عتيق (ص: 195). .