المَطْلَبُ الثَّاني: ردُّ العجُزِ على الصَّدرِ في الشِّعرِ
وهُو: "أنْ يَقعَ أحدُ اللَّفظَينِ في آخِرِ البيتِ، والآخَرُ في صدْرِ المِصراعِ الأوَّلِ، أو حشْوِه، أو عجُزِه، أو صدْرِ المِصراعِ الثَّاني".
ظاهِرٌ مِنَ التَّعْريفِ أنَّ أحدَ اللَّفظَينِ لا بدَّ أنْ يَقعَ في آخِرِ البيتِ، وإلَّا ما كان ذلك مِن ردِّ العجُزِ على الصَّدرِ، وإنَّما تَخْتلِفُ أقْسامُه بحسَبِ مَوقِعِ الكَلمةِ الأخرى في البيتِ على أرْبعةِ أقْسامٍ:
1- أنْ تَقعَ الكَلمةُ في أوَّلِ البيتِ، كقولِ الشَّاعِرِ: الطويل
سَريعٌ إلى ابنِ العمِّ يَلطِمُ وَجْهَه
وليسَ إلى داعي النَّدى بسَريْعِ
فقد تَكرَّرتِ الكَلمةُ "سَريْع" في أوَّلِ البيتِ وآخِرِه، معَ اتِّفاقِهما في المَعْنى.
ومنه قولُ الشَّاعِرِ: الكامل
سُكْرانِ سُكْرُ هوًى وسُكْرُ مُدامةٍ
أنَّى يُفيقُ فتًى به سُكْرانِ
حيثُ تَكرَّرتْ كَلمةُ "سُكرانِ" بنفْسِ المَعْنى والحُروفِ في أوَّلِ البيتِ وآخِرِه.
وقد يَأتي مِن هذا النَّوعِ ما تَتَّفقُ فيه الكَلمتانِ في الصُّورةِ لا المَعْنى، وهُو أحسَنُ مِنَ الأوَّلِ، كقولِ الشَّاعِرِ: الطويل
ذَوائِبُ سُودٌ كالعَناقيدِ أُرسِلَتْ
فمِن أجْلِها منَّا النُّفوسُ ذَوائِبُ
فكَلمةُ "ذَوائِب في أوَّلِ البيتِ مَعْناها ضَفائِرُ الشِّعرِ، واحِدتُها: ذُؤابَةٌ، وكَلمةُ "ذَوائِب" في آخِرِ البيتِ جمْعُ ذَائِبةٍ، أيْ: تَذوبُ مِن جَمالِ تلك الضَّفائِرِ السُّودِ.
وقد يَتَّفقانِ في المَعْنى ويَخْتلفانِ في الصُّورةِ؛ وذلك أنْ تكونَ الكَلمةُ المُكرَّرةُ بينَها وبينَ الأُخْرى اتِّفاقٌ في الاشْتِقاقِ، كقولِ الشَّاعِرِ: الرمل
واسْتبدَّتْ مرَّةً واحِدةً
إنَّما العاجِزُ مَنْ لا يَستبِدْ
ففي أوَّلِ البيتِ جاء بالفِعلِ الماضي المُتَّصلِ بتاءِ التَّأنيثِ، وفي آخِرِه جاء بالمُضارِعِ منه المَبدوءِ بالياءِ.
2- أنْ تَقعَ الكَلمةُ في حَشْوِ الشَّطرِ الأوَّلِ، كقولِ الشَّاعِرِ: الوافر
ولم يَحفَظْ مُضاعَ المجْدِ شيءٌ
مِنَ الأشْياءِ كالمالِ المُضاعِ
حيثُ تَكرَّرتْ كَلمةُ "مُضاع" في حشْوِ الشَّطرِ الأوَّلِ، وآخِرِ الشَّطرِ الثَّاني، بنفْسِ المَعْنى واللَّفظِ.
ومنه قولُ الشَّاعِرِ: الكامل
أمَّا القُبورُ فإنَّهن أوَانِسٌ
بجِوارِ قَبرِكِ والدِّيارُ قُبورُ
كرَّر كَلمةَ "القُبور" في حشْوِ الشَّطرِ الأوَّلِ وآخِرِ الثَّاني، وهُما بمَعْنًى واحِدٍ.
ويَدخُلُ فيه ما تَكرَّر صُورةً واخْتَلفَ مَعْنًى، كقولِ
الزَّمَخْشريِّ: الطويل
فمُذْ أفْلحَ الجُهَّالُ أعلَمُ أنَّني
أنا المِيمُ والأيَّامُ أفْلَحُ أعْلَمُ
تكرَّرتْ كَلمةُ "أعْلَم"؛ الأُولى في حشْوِ البيتِ الأوَّلِ، وهِي مِنَ العِلْمِ، والثَّانيةُ في آخِرِ الشَّطرِ الثَّاني، والأعْلَمُ: الَّذي قُطِعتْ شَفتُه العُليا فلا يَسْتطيعُ نُطْقَ حرْفِ المِيمِ
[480] ينظر: ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (2/ 948)، ((الصحاح: تاج اللغة وصحاح العربية)) للجوهري (5/ 1990). .
أو ما اتَّفقَ مَعْنًى واخْتَلفَ صُورةً، مِثلُ قولِ امْرِئِ القَيسِ: الطويل
إذا المَرءُ لم يَخزُنْ عليه لِسانَه
فليسَ على شيءٍ سِواه بِخزَّانِ
فقد جاء في حشْوِ الشَّطرِ الأوَّلِ "يَخزُنُ" بمَعْنى "يَحفَظُ"، وفي الشَّطرِ الثَّاني جاءت صِيغةُ المُبالَغةِ منه "خزَّان" بنفْسِ المَعْنى وإن اخْتَلفَ اللَّفظُ.
أو ما اتَّفَق في أصْلِ الاشْتِقاقِ واخْتَلفَ في المَعْنى، كقولِ الشَّاعِرِ: الوافر
مَنْحناها الحَرائِبَ غيرَ أنَّا
إذا جُرْنا مَنَحناها الحِرابا
فالحَرائِبُ: جمْعُ حَريْبةٍ، وهِي مالُ الرَّجلِ الَّذي يَعيشُ به، والحِرابُ: جمْعُ الحَربةِ، وهِي آلةُ القتْلِ، فالْتَقى الطَّرفانِ في أصْلِ الاشْتِقاقِ، واخْتَلفا في المَعْنى.
3- أنْ تَقعَ الكَلمةُ في آخِرِ الصَّدرِ، كقولِ الشَّاعِرِ: الطويل
ومَنْ كان بالبِيضِ الكَواعِبِ مُغْرَما
فما زِلتُ بالبِيضِ القَواضِبِ مُغرَما
تَكرَّرتْ كَلمةُ "مُغْرما" في آخِرِ العجُزِ والصَّدرِ، وهُما بنفْسِ المَعْنى.
وقد يَتَّفقانِ في الصُّورةِ لا المَعْنى، كقولِ الحَريريِّ: الوافر
فمَشْغوفٌ بآياتِ المَثاني
ومَفْتونٌ برَنَّاتِ المَثاني
فلفْظُ "المَثاني" الأوَّلُ يُرادُ به القُرآنُ الكَريمُ، والثَّاني يُرادُ به المَزاميرُ.
وقد يَتَّفقانِ في المَعْنى والاشْتِقاقِ، كقولِ
البُحْتُريِّ: الوافر
ففِعلُك إنْ سُئلتَ لنا مُطيعُ
وقولُك إنْ سألتَ لنا مُطاعُ
فبينَ "مُطيعٍ" و"مُطاع" اتِّفاقٌ في الاشْتِقاقِ والمَعْنى، واخْتِلافٌ في الرَّسمِ والصُّورةِ.
4- أنْ تَقعَ الكَلمتانِ في الشَّطرِ الثَّاني مِنَ البيتِ؛ واحِدةٌ في أوَّلِه، والأُخْرى في آخِرِه، كقولِ الشَّاعِرِ: الطويل
فإلَّا يكنْ إلَّا تَعلُّلُ ساعةٍ
قليلٌ فإنِّي نافِعٌ لي قَليلُها
حيثُ تَكرَّرتْ كَلمةُ "قَليل" مرَّتَينِ في عجُزِ البيتِ؛ واحِدةٌ في أوَّلِه، وواحِدةٌ في آخِرِه.
ومنه أيضًا: الطويل
على الحَيِّ سِرْنا عنهمُ وأقاموا
سلامٌ وهل يُدْني البَعيدَ سلامُ
حيثُ جاءت كَلمةُ "سَلام" مرَّتَينِ في المِصراع ِالثَّاني مِنَ البيتِ.
وقد يَتَّفقانِ صُورةً لا مَعْنى، كقولِ أبي دُؤادٍ:
عهِدتُ لها مَنْزلًا داثِرا
وآلًا على الماءِ يَحْمِلْنَ آلَا
فكَلمةُ "آلًا" الأُولى بمَعْنى الأتْباعِ، والثَّانيةُ بمَعْنى أعْمدةِ الخِيامِ.
وقد يَتَّفقانِ في المَعْنى لا الصُّورةِ، كقولِ الشَّاعِرِ: الطويل
ثَوى في الثَّرى مَنْ كان يَحيا به الثَّرى
ويَغمُرُ صرْفَ الدَّهرِ نائِلُه الغَمْرُ
وقد كانتِ البِيضُ البَواتِرُ في الوَغى
بَواتِرَ فهْيَ الآنَ مِن بَعدِه بُتْرُ
ففي البيتِ الأوَّلِ جاء في مُستهَلِّ العجُزِ "يَغمُر" وفي آخِرِه "الغَمْر"، وهُما مِن نفْسِ الجذْرِ، والمَعْنى بينَهما قَريبٌ، وفي البيتِ الثَّاني جاءت كَلمةُ "بَواتِر" وكَلمةُ "بُتْر"، وأصْلُ المَعْنى واحِدٌ، وهُو القطْعُ، وإنِ اخْتَلفا في المَعْنى؛ فبَواتِر بمَعْنى قَواطِع، أيْ: حادَّةٍ تَقطَعُ، وبُتْر: جمْعُ مَبْتورةٍ، أيْ: مَقْطوعةٍ
[481] ينظر: ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) لأبي هلال العسكري (ص: 385)، ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (7/ 109). .