المَبْحَثُ الثَّاني: التَّضْمينُ
وهُو: "أنْ يُودِعَ الشَّاعرُ شِعرَه بيتًا فأكْثرَ، أو مِصراعًا فما دُونَه مِن شِعرِ غيرِه، بعدَ أنْ يُوطِّئَ له في شِعرِه تَوطِئةً تُناسِبُه وتُلائِمُه".
وهذا الشِّعرُ إنْ كان مَشْهورًا اكْتُفيَ بشُهْرتِه، وإلَّا وجَب التَّنْويهُ لئلَّا يَلحَقَ بالسَّرِقاتِ.
ومِنَ التَّضْمينِ قولُ الحَريريِّ: الوافر
على أنِّي سأُنْشِدُ عندَ بَيْعي
أضَاعوني وأيَّ فتًى أضَاعوا
فعجُزُ البيتِ أصْلُه للعَرْجيِّ، وهُو: الوافر
أضَاعوني وأيَّ فتًى أضَاعوا
ليومِ كَريهةٍ وسِدادِ ثَغْرِ
ومنه أيضًا قولُ الشَّاعِرِ: الكامل
قد قلتُ لمَّا أطْلَعتْ وَجَناتُه
حولَ الشَّقيقِ الغَضِّ رَوضةَ آسِ
أعِذارَهُ السَّاري العَجولَ تَرفَّقَنْ
ما في وُقوفِك ساعةً مِن باسِ
فإنَّ عجُزَ البيتِ الثَّاني صدْرُ بيتٍ مِن مَطلَعِ قَصيدةٍ مَشْهورةٍ لأبي تَمَّامٍ، وهِي:
ما في وُقوفِكَ ساعةً مِن باسِ
نَقْضي حُقوقَ الأرْبُعِ الأدْراسِ
وأحْسَنُ التَّضْمينِ أنْ يَزيدَ اللَّاحِقُ نُكتَةً لا تُوجَدُ في الأصْلِ كالتَّوريةِ والتَّشْبيهِ، كقولِ الشَّاعِرِ: الطويل
إذا الوَهْمُ أبْدى لي لَماها وثَغْرَها
تَذكَّرتُ ما بينَ العُذَيبِ وبارِقِ
ويُذْكِرُني مِن قدِّها ومَدامِعي
مَجَرَّ عوالينا ومَجْرى السَّوابِقِ
وهُو تَضْمينٌ بَليغٌ لبيتِ
أبي الطَّيِّبِ المُتَنبِّي، وهو:
تَذكَّرْتُ ما بينَ العُذَيبِ وبارِقِ
مَجَرَّ عوالينا ومَجْرى السَّوابِقِ
ف
المُتَنبِّي يقولُ: إنَّه تَذكَّرَ بينَ هذين المَوضِعَينِ (العُذَيبِ وبارِقٍ) أيَّامَ الشَّبابِ وأّنَّهم كانوا يَجرُّونَ الرِّماحَ ويَمْتطونَ الخَيْلَ يَتَسابقون عليها.
وأرادَ الشَّاعرُ في البيتَينِ أنَّه لمَّا تَخيَّل صُورةَ شَفَةِ الحَبيبةِ وثَغرِها تَذكَّر العُذَيبَ، وهُو تَصْغيرُ العَذْبِ والعَذْبَةِ، يُريدُ: شِفاهَ المَحْبوبةِ، ويُريدُ بالبارِقِ: بَريقَ أسْنانِها، وأرادَ بما بينَهما: رِيقَها.
ثم تذكَّر -بتَخيُّلِ قَدِّها واعْتِدالِ قَوامِها- الرِّماحَ في نُحولِها واسْتِقامتِها، وهُو تَشْبيهٌ منه، كما شبَّه المَدامِعَ بمَجْرى السَّوابِقِ
[504] ينظر: ((العمدة في محاسن الشعر وآدابه)) لابن رشيق (2/ 84)، ((علوم البلاغة)) للمراغي (ص: 374). .