الفرع الثالث: النَّظَريَّةُ الثَّالثةُ: نَشأةُ اللُّغةِ تَرجِعُ إلى غَريزةٍ خاصَّةٍ زُوِّدَ بها الإنسانُ
يرى أصحابُ هذه النَّظَريَّةِ -وهم: ماكس مولر الألمانيُّ، ورينان الفَرَنسيُّ، وغَيرُهما- والفَضلَ في نَشأةِ اللُّغةِ يعود لغَريزةٍ خاصَّةٍ، زُوِّدَ بها في الأصلِ جَميعُ أفرادِ النَّوعِ الإنسانيِّ، وأنَّ هذه الغَريزةَ كانت تَحمِلُ كُلَّ فردٍ على التَّعبيرِ عن مُدرَكٍ حَسِّيٍّ أو مَعنَويٍّ بكَلمةٍ خاصَّةٍ به.
وشَبَّهوا تلك الغَريزةَ بغَريزةٍ أُخرى مَشهورةٍ، هيَ غَريزةُ التَّصوير الطَّبيعيِّ عن الانفِعالاتِ تلك التي تَحمِلُ الإنسانَ على القيامِ بحَرَكاتٍ استثناءيه ك وُقوفِ شَعرِ الرَّأسِ، والضَّحِكِ، والبُكاءِ، كُلَّما قامَت به حالةٌ انفِعاليَّةٌ مِثلُ الغَضَبِ، أوِ الخَوفِ، أوِ الحُزنِ أوِ السُّرورِ.
ومِمَّا يُؤَيِّدُ ذلك عِندَهم: أنَّ غَريزةَ التَّعبيرِ عن الانفِعالاتِ كانت - وما تَزالُ - مُتَّحِدةً علدى كل الأفرادِ في طَبيعَتِها، ووظائِفِها، وما ينتج عنها.
ولذلك اتَّحَدَتِ المُفرَداتُ، وتَشابَهت طَرَائِقُ التَّعبيرِ عِندَ الجَماعاتِ الإنسانيَّةِ الأولى، فاستَطاعَ أفرادُ هذه الجماعاتِ أن يتفاهموا فيما بَيْنَهم.
وبَعدَ نَشأةِ اللُّغةِ الإنسانيَّةِ الأُولى أبطَل الإنسانُ غَريزةَ التَّعبيرِ هذه، فانقَرَضَت وتَلاشَتْ، كما انقَرَضَت العديد منَ الغَرائِزِ الإنسانيَّةِ القَديمةِ.
دَليلُ أصحابِ هذه النَّظَريَّةِ: استندوا -في تَأييدِ تلك النَّظَريَّةِ- على دلائل مُستَمَدَّةٍ منَ البَحثِ في أُصولِ الكَلِماتِ في مَجموعة اللُّغاتِ الهِندأُوروبيَّة.
فقد اتضح لهم، بَعدَ البَحثِ والدِّراسةِ: أنَّ مُفرَداتِ هذه اللُّغاتِ الهِندأُوربيَّةِ كلها، تَرجِعُ إلى خَمسِمِائةِ أصلٍ مُشتَرَكٍ بَينَ هذه اللُّغاتِ، وأنَّ هذه الأُصولَ كُلَّها تعبر عن مَعانٍ كُلِّيَّةٍ، وأنَّها تُمَثِّلُ اللُّغةَ الأولى التي تَشعَّبَت منها هذه الفَصيلةُ.
ونَظَرًا لقِدَمِ هذه الفَصيلةِ منَ اللُّغاتِ، فقد رَأوا أنَّها تُمَثِّلُ اللُّغاتِ الإنسانيَّةَ في أقدَمِ عُصورِها
[21] يُنظر: ((علم اللغة)) لوافي (99-100). .
نَقْدُ هذه النَّظَريَّةِ:قد سقط أصحابُ تلكم النَّظَريَّةِ في خَطَأٍ تَقديريٍّ عِندَما رأوا أنَّ هذه الأُصولَ الخَمسَمِائةٍ -التي تعبر عن مَعانٍ كُلِّيَّةٍ- تُمَثِّلُ اللُّغةَ الإنسانيَّةَ الأولى.
والخَطَأِ في هذا: أنَّ معرفه المَعاني كامله مُتَوَقِّفٌ على دَرَجةٍ عَقليَّةٍ راقيَةٍ لا يُتَوَقَّع وُجودُها في بدايةِ النَّشأةِ الإنسانيَّةِ الأولى.
ويدل على هذا حالةُ الشُّعوبِ البُدائيَّةِ المُعاصِرةِ، التي قد تُمَثِّلُ تَمثيلًا صادِقًا لحالةِ العَقليَّةِ الإنسانيَّةِ الأولى؛ فقد اتفق العُلَماءُ الدَّارِسونَ لهذه الشُّعوبِ -في أمريكا الشَّماليَّةِ، وأُستُراليا، وإفريقيا- على ضَعفِ عَقليَّتِها، وعَجزِها عن إدراكِ المَعاني الكُلِّيَّةِ، وأجمَعوا على أنَّ هذا الضَّعفَ العَقليَّ كان له تأثير كبيرٌ في لُغاتِهم.
إن هؤُلاءِ العُلَماءُ قد برهنوا على ذلك بأنَّهم لم يَجِدوا في العديد من لُغاتِ تلكم الشُّعوبِ لَفظًا يَدُلُّ على مَعنًى كُلِّيٍّ؛ ففي لُغةِ الهنودِ الحُمرِ لا يوجَدُ لَفظٌ كُلِّيٌّ يَدُلُّ على جِنسِ الشَّجَرِ، بَل يوجَدُ عِندَهم لكُلِّ شَجَرةٍ لَفظٌ خاصٌّ بها، فهناكَ لَفظٌ يَدُلُّ على شَجَرةِ البَلُّوطِ الحَمراءِ، وآخَرُ يَدُلُّ على شَجَرةِ البَلُّوطِ السَّوداءِ.. وهكذا.
وفي لُغةِ الهورونيِّينَ -وهم منَ السُّكَّانِ الأصليِّينَ الأوائِل لأمريكا الشَّماليَّةِ- لا يوجَدُ لَفظٌ يَدُلُّ على الأكْلِ مُطلَقًا، بَل يوجَدُ لَفظٌ يَدُلُّ على الأكلِ في حالةِ تَعَلُّقِه بالخُبزِ، ولَفظٌ آخَرُ له في حالةِ تَعَلُّقِه باللَّحمِ، ولَفظٌ ثالثٌ له في حالةِ تَعَلُّقِه بالمَوزِ!
وهكذا لا يوجَدُ في لُغةِ هؤُلاءِ القَومِ البُدائيِّينَ المُعاصِرينَ لَفظٌ كُلِّيٌّ يَدُلُّ على الأكل عُمومًا، أوِ الأكلِ في زَمانٍ مُعَيَّنٍ.
ولُغةُ السُّكَّانِ الأصليِّينَ لجَزيرةِ تسمانيا -القَريبةِ من أُستُراليا- لا يوجَدُ فيها لَفظٌ كُلِّيٌّ يَدُلُّ على الصِّفةِ؛ ولذلك كانوا إذا أرادوا وصفَ رَجُلٍ بالطُّولِ شَبَّهوه بأقرَبِ شَيءٍ إلى هذه الصِّفةِ، وهو الشَّجَرةُ الطَّويلةُ مَثَلًا، وقالوا: فلانٌ كشَجَرةِ السروِ.
ولهذا السَّبَبِ فقد رَأى كثيرٌ من عُلَماءِ اللُّغةِ: أنَّ الأُصولَ الخَمسَمِائةٍ التي تُعَدُّ صُلبًا لهذه النَّظَريَّةِ، لا تُمَثِّلُ اللُّغةَ الإنسانيَّةَ إلَّا بَعدَ أنِ ارتَقَت عَقَليَّاتُها، ونَهضَ تَفكيرُها.
ويَذهبُ بَعضُهم إلى أبعَدَ من هذا، فيُقَرِّرُ أنَّها مُجَرَّدُ أُصولٍ نَظَريَّةٍ، وأنَّها لم تَكُنْ يَومًا ما مَوضوعَ لُغةٍ إنسانيَّةٍ
[22] يُنظر: ((مجلة الرسالة)) العدد (357). .