المَبحَثُ الأوَّلُ: فِقْهُ اللُّغةِ في كُتُبِنا العَرَبيَّةِ القَديمةِ
تُشيرُ جُلُّ الدِّراساتِ اللُّغَويَّةِ الحديثةِ في فِقهِ اللُّغةِ إلى أنَّ وظيفةَ اللُّغَويِّ هي: وَصفُ الحقائِقِ لا فَرضُ القواعِدِ، وبالرُّجوعِ إلى عُلَمائِنا الأوائِلِ نجِدُ هذه القاعِدةَ واضحةَ المعالِمِ معمولًا بها؛ إذ أخذوا يجمَعونَ اللُّغةَ بكُلِّ رواياتِها ويُمَحِّصونَها ويُخضِعونَها لطرائِقِ الوَصفِ والاستِقراءِ، ومِن هنا فقد بدأ منهَجُ فِقهِ اللُّغةِ عِندَ العَرَبِ وَصفيًّا استِقرائيًّا
[53] يُنظر: ((دراسات في فقه اللغة)) لصبحي الصالح (ص: 26). .
ولكِنْ يبقى جانِبٌ عِندَ العَرَبِ القُدامى حادَ عن الوَصفِ والاستقراءِ، وعنه تكلَّم د. صبحي الصَّالح حينَ قال: (أمَّا مَباحِثُ القَومِ حَولَ أصل اللُّغةِ إلهامٌ هيَ أمِ اصطِلاحٌ؟ فكانت ذاتَ وجهينِ، كِلاهما يَخرُجُ عنِ المنهجِ اللُّغَويِّ الوصفيِّ، ثُمَّ يَتَلَوَّنُ باللَّونِ المُناسِبِ له، أمَّا أحَدُهما فغَيبيٌّ "مِيتافيزيقيٌّ"، كقَول
ابنِ فارِس: (إنَّ لُغةَ العَرَبِ تَوقيفٌ، ودَليلَ ذلك قَولُه جَلَّ ثَناؤُه:
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، فكان
ابنُ عَباسٍ يَقولُ: عَلَّمَه الأسماءَ كُلَّها، وهيَ هذه التي يَتَعارَفُها النَّاسُ من دابةٍ وأرضٍ وسَهلٍ وجَبَلٍ وحِمارٍ وأشباهِ ذلك منَ الأُمَمِ وغَيرِها...)
[54] ((الصاحبي)) لابن فارس (ص: 13). . وأمَّا الآخَرُ فمَنطِقيٌّ في تَعابيرِه واستِنتاجاتِه؛ لتَأثُّرِه بالمُناسَبةِ الطَّبيعيَّةِ بَينَ اللَّفظِ ومَدلولِه، ولا سيَّما إذا وُصِفَت هذه المُناسَبةُ بأنَّها ذاتيَّةٌ موجَبةٌ لا يَجوزُ أن تَتَخَلَّفَ، كما كان يَرى عَبَّاد بن سليمانَ الصَّيمَريُّ منَ
المُعتَزَلةِ [55] يُنظر: ((المزهر)) للسيوطي (1/40). . ولا يَبتَعِدُ عن هذه الميدانِ المَنطِقيِّ تَساؤُلُ
ابنِ جِنِّي عنِ اللُّغةِ: أمُواضَعةٌ هيَ أم إلهامٌ؟
[56] يُنظر: ((الخصائص)) لابن جني (1/ 34). [57] ((دراسات في فقه اللغة)) لصبحي الصالح (ص: 30). .
وفيما يَتعلَّقُ بمَدْلولِ فِقهِ اللُّغةِ، فقديمًا سمَّى
ابنُ فارسٍ أحدَ كُتبِه: ((الصَّاحبي)) وقال في مُقدِّمتِه: (هذا الكتابُ الصَّاحبي في فِقهِ اللُّغةِ العربيةِ وسَننِ العرَبِ في كَلامِها)
[58] ((الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها)) لابن فارس (ص: 11). ، و
ابنُ فارسٍ وإنْ قال في مُقدِّمةِ كتابِه المذكورِ بأنَّه في فِقهِ اللُّغةِ، إلَّا أنَّ مَباحثَ فِقهِ اللُّغةِ فيه تُعَدُّ قَليلةً، ومِن ذلك ما عَنْوَنه بقولِه: (بابُ الأسماءِ كيْف تَقعُ على المسمَّياتِ)
[59] ((الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها)) لابن فارس (ص: 59). ، وقد كَثُرت فيه المباحثُ النَّحْويَّةُ، والصَّرفيَّةُ، والأساليبُ البلاغيَّةُ.
ونَجِدُ كذلك في تُراثِنا اللُّغويِّ كتابَ ((فِقهُ اللُّغةِ وسِرُّ العرَبيَّةِ)) للثَّعالبيِّ، وقد قسَّمَ كِتابَه إلى قِسمَين؛ حمَلَ القسمُ الأوَّلُ اسمَ: فِقهُ اللُّغةِ، وما احتواهُ هذا القِسمُ يَدخُلُ تحْتَ مَعاجمِ المعاني، وحَمَل القسمُ الثَّاني اسمَ: سِرُّ العربيَّةِ، وضَمَّنه كثيرًا مِن الأساليبِ العربيَّةِ، وهو في ذلك قدْ يُبيِّنُ سِرَّ الأسلوبِ، وقدْ يَكْتفي بمُجرَّدِ عرضِه، فمِمَّا أشار فيه إلى سِرِّ الأسلوبِ قولُه بأنَّ (في الكنايةِ عمَّا لم يَجْرِ ذِكرُه مِن قبلُ: العربُ تُقدِمُ عليها توسُّعًا واقتدارًا واختصارًا ثِقةً بفَهمِ المخاطَبِ، كما قال عزَّ ذِكرُه:
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن: 26]، أي: مَن على الأرضِ...)
[60] ((فقه اللغة وسر العربية)) للثعالبي (ص: 222). ، ويَذكُرُ في هذا المجالِ كذلك عِلَّةَ التَّسميةِ، كقولِه بأنَّ (العربَ تُسمِّي الشَّيءَ باسمِ غيرِه إذا كان مُجاوِرًا له، أو كان منه بسَببٍ، كتَسميتِهم المطرَ بالسَّماءِ؛ لأنَّه منها يَنزِلُ)
[61] ((فقه اللغة وسر العربية)) للثعالبي (ص: 225). .
وممَّا اكتَفى فيه بعَرضِ الأسلوبِ قولُه بأنَّ العرَبَ تُقِيمُ المصدَرَ مُقامَ الفاعلِ، فتقولُ: رجُلٌ عدْلٌ: أي عادِلٌ
[62] يُنظر: ((فقه اللغة وسر العربية)) للثعالبي (ص: 230). ، ثمَّ ذكَرَ في هذا القسمِ بعضَ الحروفِ واستِعمالاتِها، ووُقوعَ بعضِ حُروفِ المعنى مَواقِعَ بعضٍ
[63] يُنظر: ((فقه اللغة وسر العربية)) للثعالبي (ص: 248). ، كما تعرَّضَ في هذا القسمِ على عجَلٍ للنَّحتِ، والإبدالِ، والقلْبِ، والتَّضادِّ، والإتباعِ
[64] يُنظر: ((فقه اللغة وسر العربية)) للثعالبي (ص: 263) وما بعدها. .
ومِن الجديرِ بالذِّكرِ أنَّ
ابنَ جِنِّي قدْ عقَدَ في كِتابِه ((الخَصائص)) بابًا في: (تَلاقي المعاني على اختلافِ الأُصولِ والمَباني)، واستَهلَّه بقولِه: (هذا فَصلٌ مِن العربيَّةِ حَسنٌ كثيرُ المنفعةِ، قَويُّ الدَّلالةِ على شَرفِ هذه اللُّغةِ؛ وذلك أنَّكَ تَجِدُ للمَعنى الواحدِ أسماءَ كثيرةً، فتَبحَثُ عن أصلِ كلِّ اسمٍ منها، فتَجِدُه مُفْضِي المعنى إلى صاحبِه، وذلك كقولِهم: (خُلُق الإنسانِ) فهو (فُعُل) مِن خلَقتُ الشَّيءِ، أي ملَّسْتُه، ومنه صَخرةٌ خَلْقاءُ؛ للمَلْساءِ، ومعناه: أنَّ خُلُقَ الإنسانِ هو ما قُدِّرَ له ورُتِّبَ عليه، فكأنَّه أمرٌ قدِ استَقرَّ وزال عنه الشَّكُّ... والخليقةُ فَعيلةٌ منه، وقد كَثُرت فَعيلةٌ في هذا الموضعِ، وهو قولُهم: (الطَّبِيعة)، وهي مِن طبَعْتُ الشَّيءَ، أي: قَرَّرْتُه على أمرٍ ثَبَت عليه، كما يُطبَعُ الشَّيءُ كالدِّرهمِ والدِّينارِ، فتَلزَمُه أشكالَه، فلا يُمكِنُه انصرافُه عنها ولا انتقالُه... ومنها الغريزةُ... إلخ)
[65] ((الخصائص)) لابن جني (2/115-116). .
وضَرَب
ابنُ جِنِّي أمثلةً كثيرةً مُؤيِّدًا بها ما ذهَبَ إليه مِن تَلاقي المعاني على الرَّغمِ مِن اختلافِ الأصولِ، ثمَّ قال: (فالتَّأتِّي والتَّلطُّفُ في جميعِ هذه الأشياءِ، وضَمُّها، ومُلاءمةُ ذاتِ بيْنها؛ هو خاصُّ اللُّغةِ وسِرُّها وطَلاوتُها الرَّائقةُ وجَوهرُها)
[66] ((الخصائص)) لابن جني (2/ 127). ، ثمَّ ذكَرَ أمثلةً أُخرى على النَّهجِ المذكورِ، وأتْبَعها بقولِه: (وهذا مَذهبٌ في هذه اللُّغةِ طَريفٌ، غَريبٌ لَطيفٌ، وهو فِقهُها، وجامعُ مَعانيها، وضامُّ نَشرِها... وهذا بابٌ إنَّما يجمَعُ بيْن بعضِه وبعضٍ مِن طَريقِ المعاني مُجرَّدةً عن الألفاظِ، وليس كالاشتقاقِ الَّذي هو مِن لَفظٍ واحدٍ، فكأنَّ بعضَه مُنبِّهةٌ على بعضٍ، وهذا إنَّما يَعتنِقُ فيه الفكرُ المعانيَ)
[67] ((الخصائص)) لابن جني (2/ 135). .
ف
ابنُ جِنِّي يُلاحِظُ أنَّ في اللُّغةِ ألفاظًا كثيرةً تَتوافَقُ في مَعانيِها، على الرَّغمِ مِن تَبايُنِ الموادِّ التي تَنتسِبُ إليها هذه الألفاظُ، ويُشيرُ إلى أنَّ الوُصولَ إلى ذلك ليْس هيِّنًا، وإنَّما يَحتاجُ إلى إعمالِ الفِكرِ، وجَودةِ النَّظرِ، وخُلاصةُ الأمرِ أنَّ عِبارةَ (فِقهُ اللُّغةِ) أتَتْ في كلامِ
ابنِ جِنِّي بمعنَى جمعِ المعاني المُتلائمةِ ذاتِ الموادِّ المختلفةِ بلُطْفٍ وتُؤدَةٍ.
وفي نِهايةِ البابِ قال
ابنُ جِنِّي: (وقد همَمتُ غيرَ دفعةٍ أنْ أُنشِئَ في ذلك كتابًا أتقَصَّى فيه أكثَرَها، والوقتُ يَضِيقُ دونَه... وكان أبو علِيٍّ رَحِمه الله يَستحسِنُ هذا الموضعَ جِدًّا، ويُنبِّهُ عليه، ويُسَرُّ بما يُحضِرُه خاطرُه منه)
[68] ((الخصائص)) لابن جني (2/ 135). .