المَطلَبُ الأوَّلُ: الاشتِقاقُ الأصغَرُ
هو أكثَرُها وُرودًا في العَرَبيَّةِ، ويُحتَجُّ به لَدى أكثَرِ عُلَماءِ اللُّغةِ، وقد عَرَّفوه بالتَّعريفِ السَّابِقِ: (أخَذُ صيغةٍ من أُخرى مع اتِّفاقِهما مَعنًى ومادَّةً أصليَّةً وهيئةَ تَركيبٍ لها؛ ليَدُلَّ بالثَّانيةِ على مَعنى الأصليَّةِ بزيادةٍ مُفيدةٍ؛ لأجْلِها اختَلَفا حُروفًا وتَركيبًا؛ كضارِبٍ منَ الضَّربِ، وحَذِرٍ مِنَ الحَذَرِ)، وطَريقةُ مَعرِفَتِه هيَ تَقليبُ تَصاريفِ الكَلمةِ حتى يُرجَعَ منها إلى صيغةٍ هيَ أصلُ الصِّيَغِ كُلِّها، وتَكونَ أقَلَّ دَلالةً وأقَلَّ حُروفًا. كمِثلِ قَولِنا: ضَرْبٌ، فهيَ تَدُلُّ على مُطلَقِ الضَّربِ فقَط، أمَّا ضارِبٌ ومَضروبٌ ويَضرِبُ واضرِبْ: فهيَ أكثَرُ دَلالةً وأكثَرُ حُروفًا.
وأفرادُه هيَ: الفِعلُ الماضي، الفِعلُ المُضارِعُ، فِعلُ الأمرِ، اسمُ الفاعِلِ، اسمُ المَفعولِ، الصِّفةُ المُشَبَّهةُ، اسمُ التَّفضيلِ، اسمُ الزَّمانِ، اسمُ المَكانِ، اسمُ الآلةِ
[172] يُنظر: ((من ذخائر ابن مالك في اللغة مسألة من كلام الإمام ابن مالك في الاشتقاق)) لابن مالك (ص:315: 316). .
مِثالُ: ضَرَبَ، يَضرِب، ضارِبٌ، مضروبٌ، مَضرِبٌ، كُلُّها مُشتَرِكةٌ في (ض ر ب) وفي هيئةِ تركيبِها.
إذا كانتِ الصِّيغةُ المُشتَقَّةُ مُتَّفِقةً مع الصِّيغةِ المُشتَقِّ منها في المادَّةِ الأصليَّةِ وهيئةِ التَّركيبِ، فهيَ تُفيدُ المَعنى العامَّ الذي وُضِعَت له تلك الصِّيغةُ، فالرَّابِطةُ المَعنَويَّةُ العامَّةُ للمادَّةِ مَثَلًا (ع ر ف) تَعني انكِشافَ الشَّيءِ وظُهورَه، تَتَحَقَّقُ في جَميعِ الكَلماتِ الآتيةِ: عَرَفَ، يَعرِفُ، تَعرِفُ، تَعارُفٌ، عَرَّافٌ، تَعريفٌ، عِرْفانٌ، مَعرِفةٌ... وغَيرِ ذلك.
ميزةُ الاشتِقاقِ الأصغَرِ في تَجميعِ الألفاظِ العَربيَّةِ في أصلٍ واحِدٍ: أنَّه يُسَهِّلُ على الباحِثِ التَّمييزَ بَينَ الأصيلِ والدَّخيلِ، مِثلُ كَلِمةِ (سُنْدُس أوِ السُّندُس) وهو: رَقيقُ الدَّيباجِ، وهيَ كلمةٌ ليست عَرَبيَّةً، وإنَّما مُعَرَّبةٌ، ويُقالُ: إنَّها فارِسيَّةٌ
[173] يُنظر: ((المزهر في علوم اللغة وأنواعها)) للسيوطي (1/ 275)، ((التبيين عن مذاهب النحويين)) للعكبري (ص: 144). .
ومنَ الأمثِلةِ على هذا النَّوعِ وتَطبيقِها على القُرآنِ الكَريمِ:- لَفظُ: (آدَمَ).اختَلَفَ اللُّغَويُّونَ في اشتِقاقِ ووزنِ ومَعنى (آدَم)، وأشارَ
البِقاعيُّ إلى اشتِقاقِ هذه اللَّفظةِ عِندَ وُقوفِه لبَيانِ قَولِه تَعالى:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ... [البقرة: 34] ، فذكَرَ: (آدَم منَ الأديمِ، وهو جِلدةُ الأرضِ التي منها جِسمُه، وخُطَّ ما فيه من أديمِ الأرضِ، وهو اسمُه الذي أنبَأَ عنه لَفظُ آدَمَ)
[174] ((نظم الدرر في تناسب الآيات والسور)) للبقاعي (1/ 241). . وقد ذَكَرَ الخَليلُ أنَّ: (أَديمَ كُلِّ شَيءٍ: ظاهِرُ جِلْدِه، وأدمَةُ الأرضِ: وَجْهُها، وقيلَ: سُمِّيَ آدَمَ عليه السَّلامُ؛ لأنَّه خُلقَ من أدمةِ الأرضِ، وقيلَ: بَل من أدمةٍ جُعِلَت فيه)
[175] يُنظر: ((العين)) للخليل (8/ 88)، ((معترك الأقران في إعجاز القرآن)) للسيوطي (2/ 3). . أمَّا
القُرطَبيُّ فيُشيرُ إلى أنَّ آدَمَ من أَديمِ الأرضِ، فيَقولُ: (آدَمُ مُشتَقَّةٌ من أديمِ الأرضِ، قال سعيدُ بن جُبَيرٍ: إنَّما سُمِّيَ آدَمَ؛ لأنَّه من أديمِ الأرضِ)
[176] ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (1/279). . وقد أورَدَ
ابنُ دُرَيد في كِتابِه ((الاشتِقاقِ)) لَفظةَ (آدَم) وقال: (واشتِقاقُ آدَم من شَيئَينِ: إمَّا من قَولهم: رَجُلٌ آدَمُ بَيِّنُ الأُدْمةِ، وهيَ سُمرةٌ كدرةٌ، أو تَكونُ من قَولهم: ظَبيٌّ آدَمُ، وحَمَلٌ آدَمُ، والآدَمُ الظِّباءُ الطَّويلُ القَوائِمِ، والعُنُقُ النَّاصِعُ بَياضِ البَطنِ، المسكيُّ الظَّهرِ، وهيَ ظِباءُ السُّفوحِ، وقد جَمَعوا: آدَمَ الظِّباءِ أُدْمان)
[177] ((الاشتقاق)) لابن دريد (ص: 71). . أمَّا ابنُ الأنباريِّ فقد نَقلَ في ((الزَّاهرِ)) رَأيًا ل
ابنِ عَبَّاسٍ عنِ اشتِقاقِ آدَمَ، قال فيه: (قال
ابنُ عَبَّاسٍ: آدَمُ مَأخوذٌ من أديمِ الأرضِ)
[178] يُنظر: ((الزاهر في معاني كلمات الناس)) للأنباري (1/ 384). .
- لفظُ: (إبليسَ):قال
البِقاعيُّ في قَولِه تعالى:
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ [البقرة: 34] : إنَّ
إبليسَ هو الاسمُ العَلَمُ على ذلك المَخلوقِ الذي هبَطَ إلى الأرضِ بَعدَ أن عَصى رَبَّه
[179] يُنظر: ((التطور الدلالي بين لغة الشعر ولغة القرآن)) عودة خليل (ص: 475). .
وتَجاذَبَ هذه اللَّفظةَ أمرانِ؛ الأوَّلُ يَجعَلُها عَربيَّةً، الثَّاني يَجعَلُها أعجَميَّةً، ويَرى أبو عُبَيدة أنَّها أعجَميَّةٌ، فيَقولُ: (ولَم يُصْرَفْ
إبليسُ؛ لأنَّه أعجَميٌّ)
[180] ((مجاز القرآن)) لأبي عبيدة (1/ 38)، ويُنظر: ((شرح المفصل)) لابن يعيش (1/ 186). ، وهو ما ذَهبَ إليه
الزَّجَّاجُ في قَولِه: (و
إبليسُ لم يُصْرَفْ؛ لأنَّه اسمٌ أعجَميٌّ فيه العُجْمةُ والمَعرِفةُ، فمُنِعَ منَ الصَّرفِ)
[181] ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (1/ 114). .
وأمَّا من جَعلها عَربيَّةً فيرى أنَّها مُشتَقَّةٌ منَ الإبلاسِ، وهو اليَأسُ، ووزنُها على هذا البابِ (إِفْعِيل)
[182] يُنظر: ((العين)) للخليل (7/ 105). ، فنَقلَ
البِقاعيُّ عنِ الحراليِّ أنَّه مُشتَقٌّ (منَ الإبلاسِ، وهو انقِطاعُ سبَبِ الرَّجاءِ الذي يَكونُ عنه اليَأسُ من حيث قَطْعُ ذلك السَّبَبِ)
[183] ((نظم الدرر)) للبقاعي (1/ 256). . وقد ذَهبَ
ابنُ السِّيْدِ البَطَلْيَوسيُّ إلى أنَّه مُشتَقٌّ من أبلَسِ الرَّجُل: إذا يَئِسَ، قال: (أبلَسُ الرَّجُلُ فهو مُبْلِسٌ: إذا يَئِسَ منَ الشَّيءِ، ونَدِمَ على ما فاتَه منه، ومنه اشتُقَّ
إبليسُ)
[184] ((الفرق بين الحروف الخمسة)) ابن السِّيد البَطَلْيَوْسِيُّ (ص: 857). ، وكذلك الأصفهانيُّ
[185] يُنظر: ((المفردات)) للراغب الأصفهاني (ص: 143). ، وقد عَدَّها
السُّيوطيُّ عَرَبيَّةً بقَوله: (
إبْلِيسُ: إفعيلٌ مِن أبلَسَ، أي: يَئِسَ)
[186] ((معترك الأقران في إعجاز القرآن)) للسيوطي (2/ 32). .