المَبحَثُ الأوَّلُ: الدَّعوةُ إلى العاميَّةِ
لَم يَختَلفِ الباحِثونَ والمُؤَرِّخونَ أنَّ ثَمَّةَ مُستَويَينِ منَ اللُّغةِ يَستَعمِلُهما النَّاسُ؛ اللُّغةُ الفُصحى، وهيَ المُستَخدَمةُ في الأدَبِ والشِّعرِ والقِصَصِ وتَدوينِ الأفكارِ والأحداثِ، ولُغةُ الحَديثِ (التَّحَدُّث)، وهيَ التي لا تَخضَعُ لقَواعِدَ مُعَيَّنةٍ، وهيَ المُستَخدَمةُ في الحَديثِ اليَوميِّ.
وقد تَعايَشَ هذانِ المُستَويانِ من قَديمِ الزَّمانِ؛ فقَبائِلُ العَربِ قَديمًا كانت تَعرِفُ اللُّغةَ الرَّسميَّةَ التي تُستَخدَمُ في الأشعارِ والخُطَبِ والرَّسائِلِ ونَحوِها، وهيَ لُغةُ قُرَيشٍ التي تَغَلَّبَت على كافةِ اللَّهَجاتِ الأُخرى حتى صارَتِ الفُصحى عِندَهم؛ بسَبَبِ ما امتازَت به من رِئاسةٍ سياسيَّةٍ ودينيَّةٍ واقتِصاديَّةٍ، وسائِرَ اللُّغاتِ أوِ اللَّهَجاتِ التي تَختَلفُ بَينَ القَبائِل، وتَتَميَّزُ عن بَعضِها بطَريقةِ نُطقِ بَعضِ الكَلماتِ أوِ اختِلافِ دَلالاتِها بَينَ قَبيلةٍ وأُخرى، أو حتى في اختِلافِ قاعِدةٍ نَحويَّةٍ وتَطبيقِها.
وهذا التَّعايُشُ لم يُحدِثْ أيَّ مُشكِلةٍ ولا تَنازُعٍ؛ إذ كان لكُلِّ مُستَوًى منهما مَجالُه المُحَدَّدُ؛ حيث احتَلَّتِ العاميَّةُ ميدانَ التَّعامُلِ في الحَياةِ العاديَّةِ، ولم تَطمَع قَطُّ أن تَكونَ لُغةً رَسميَّةً، وما جاءَ منها في الشِّعرِ أوِ النَّثرِ فخَطَأٌ غَيرُ مَقصودٍ؛ ولهذا جَعله العُلَماءُ من قَبيلِ الشُّذوذِ
[341] يُنظر: ((تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر)) لنفوسة زكريا (ص: 7). .
فالذي يَعنينا هنا هو الدَّعوةُ إلى إحلالِ العاميَّةِ مَحَلَّ اللُّغةِ الفُصحى ومُزاحَمَتِها لها في الحَديثِ الرَّسميِّ والكِتاباتِ، لا أن نَدرُسَ الكَلامَ الدَّارِجَ بَينَ النَّاسِ، وتوسُّعَ النَّاسِ في استِعمال اللُّغةِ العاميَّةِ.
ومن هنا يُمكِنُنا أن نحمِلَ قَولَ القُدَماءِ؛ مِثلَ ما يَزعُمونَ أنَّ القاسِمَ بن مُخَيمرةَ قاله: (النَّحو أوَّلُه شُغلٌ، وآخِرُه بَغْيٌ)
[342] يُنظر: ((عمدة الكتاب)) لأبي جعفر النحاس (ص: 34). ، وهو وإن كان قاله فقد رَجَعَ عنه، كما حَكى ذلك ثعلَبٌ عنه
[343] يُنظر: ((الاعتصام)) للشاطبي (1/ 255). .
وقد بَدَأتِ الدَّعوةُ إلى العاميَّةِ مع بِدايةِ الحَمَلاتِ الصَّليبيَّةِ على بلادِ المُسلِمينَ، حينَ تَبَيَّنَ لهم أنَّ إسقاطَ تلك البِلادِ لا يَكونُ إلَّا إذا سقَطَ الإسلامُ، وأنَّه سِرُّ وحدَتِهم وقوَّتِهم، الذي منه يَستَمِدُّونَ القُدرةَ على المُقاومةِ، ولَمَّا كان القُرآنُ الكَريمُ هو المُشَرِّعَ للإسلامِ، ومَلايينُ المُسلِمينَ في كُلِّ بِقاعِ الأرضِ يَقْرَؤونَه ويُقَدِّسونَ لُغَتَه العَرَبيَّةَ، وَجَبَ على أعداءِ الإسلامِ أن يُسقِطوا ذلك القُرآنَ؛ ولذا أَرسَلوا عليه الحَمَلاتِ الحَملةَ تِلْوَ الأُخرى؛ واحِدةً تَتَناولُ أُسلوبَ القُرآنِ بالنَّقدِ والتَّقبيحِ، وأُخرى تَتَناولُ لُغَتَه من ناحيةِ القَواعِدِ اللُّغَويَّةِ والنَّحْويَّةِ، فيَزعُمونَ أنَّ في القُرآنِ غَلَطاتٍ نَحويَّةً، وأُخرى تَتَناولُ قِصصَه وتَزعُمُ أنَّها أساطيرُ، وأُخرى تَتَناولُ جَمْعَه وتَفسيرَه، وأُخرى تَتَناولُ ما فيه من تَشريعٍ، وأُخرى تَتَناولُ قِراءتَه وتَدريسَه، وهكذا إلى ما لا يُعَدُّ ولا يُحصى منَ الحَمَلاتِ عليه
[344] يُنظر: ((الزحف على القرآن)) لأحمد عبد الغفور عطار (ص: 34). .
وقد بَدَأت تلك الدَّعوةُ إلى العاميَّةِ على يَدِ المُستَشرِق الألمانيِّ "ولهلم سبيتا" الذي عاشَ في مِصرَ طَويلًا، ووضع كِتابَه: ((قَواعِد اللُّغةِ العَربيَّةِ العاميَّةِ في مِصرَ)) سنة 1880م، ودَعا في الكِتابِ صَراحةً إلى نَبذِ اللُّغةِ الفُصحى، واستِخدامِ اللُّغةِ العامِّيَّةِ بَدَلًا منها، ثُمَّ ناصره على ذلك مِجَلةُ (المُقتَطَفِ) برِئاسةِ صاحِبِها يَعقوب صروف، وتَبَنَّى رَأيَه بَعضُ العَرَبِ؛ أمثالُ: مارون غصن، وأنيس فريحة، وسلامة موسى، ولويس عوض، ورفاعة الطَّهطاوي، وسعيد عقل، وأحمد لطفي السَّيِّدِ، وغَيرِهم، إضافةً إلى بَني جِنسِه منَ المُستَشرِقينَ الذينَ لهم نَفسُ الهدَفِ المَرجُوِّ.
وقد دَعا ذلك المُستَشرِقُ إلى إحلال الحُروفِ اللَّاتينيَّةِ مَحَلَّ الحُروفِ العَرَبيَّةِ، بداعِي أنَّ الحُروفَ العَرَبيَّةَ يَختَلِفُ نُطقُها كثيرًا باختِلافِ الحَرَكاتِ ونَحوِ ذلك، بخِلافِ اللَّاتينيَّةِ، التي هيَ ثابِتةٌ -في نَظَرِه- بَعضَ الشَّيءِ.
وقد تظاهرَ هؤُلاءِ بأسبابٍ دَفعَتْهم إلى نَبذِ الفُصحى والدَّعوةِ إلى العاميَّةِ، وهيَ:- صُعوبةُ تَعلُّمِ اللُّغةِ العَربيَّةِ الفُصحى.
- عَجزُها عن تَأديةِ الأغراضِ الأدبيَّةِ والعِلميَّةِ.
وقد نَهضَ المُفَكِّرونَ العَربُ والمُسلِمونَ للرَّدِّ على مِثلِ هذه الدَّعاوى الفاسِدةِ، فأجابوا عن صُعوبَتِها بأنَّ تلك الصُّعوبةَ -وأشَدَّ- كائِنةٌ في الفيزياءِ والرِّياضيَّاتِ والعُلومِ الطَّبيعيَّةِ، أفتَحمِلُنا تلك الصُّعوبةُ على تَركِها وهَجْرِها؟!
وأمَّا كونُ العَرَبيَّةِ عاجِزةً عن تَأديةِ الأغرَاضِ فهيَ دَعوى أكثَرُ بُطْلانًا من سابِقَتِها؛ فإنَّ العَرَبيَّةَ هيَ التي حَفِظَتِ القُرآنَ الكَريمَ والسُّنةَ النَّبَويَّةَ المُطهَّرةَ، واتَّسَعَت لدَقائِقِ التَّشريعِ وبلاغةِ القُرآنِ الكَريمِ، وبِها دوَّنَ العَرَبُ عُلومَهم منَ الكيمياءِ والفيزياءِ والرِّياضيَّاتِ وعُلومِ الفَلَكِ وغَيرِها، التي أخَذَها عنهمُ الأوروبيُّون بَعدَ ذلك، أفتَعجِزُ الآنَ عن تَأديةِ الأغراضِ والمُتَطَلَّباتُ؟! ولذلك قال حافِظ إبراهيم في قَصيدَتِه (اللُّغةُ العَربيَّةُ تَنعي حَظَّها بَينَ أهلِها):
رَمَوني بِعُقمٍ في الشَّبابِ وَلَيتَني
عَقِمتُ فَلَم أَجزَعْ لِقَولِ عُداتي
وَلَدتُ وَلَمَّا لَم أَجِدْ لِعَرائِسي
رِجالًا وَأَكْفاءً وَأَدْتُ بَناتي
وَسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظًا وَغايَةً
وَما ضِقْتُ عَن آيٍ بِهِ وَعِظاتِ
فَكَيفَ أَضيقُ اليَومَ عَن وَصفِ آلَةٍ
وَتَنسيقِ أَسماءٍ لِمُختَرَعاتِ
أَنا البَحرُ في أَحشائِهِ الدُرُّ كامِنٌ
فَهَل سَاءَلوا الغَوَّاصَ عَن صَدَفاتي
[345] يُنظر: ((أباطيل وأسمار)) لمحمود شاكر (1/131-134)، ((تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر)) لنفوسة زكريا (ص: 18)، ((الزحف على لغة القرآن)) لأحمد عبد الغفور عطار (ص:48). إنَّ قَبولَ الدَّعوةِ إلى العاميَّةِ سيُفضي إلى شَرٍّ جَسيمٍ ووبالٍ عَظيمٍ؛ إذ سيُفضي بنا إلى تَرجَمةِ القُرآنِ نَفسِه بالعاميَّةِ، كما زَعَمَ ذلك أحَدُ أنصارِ تلك الدَّعوةِ -وهو لويس عَوض- مُتَحَدِّثًا عن رَفضِ النَّاسِ لهذه الدَّعوةِ؛ (لأنَّ استِخدامَ اللُّغةِ المِصريَّةِ كأداةٍ للكِتابةِ قد يَنتَهي بَعدَ قَرنٍ أو قَرنَينِ إلى تَرجَمةِ القُرآنِ إلى اللُّغةِ المِصريَّةِ بهذه البساطة، كما حَدَثَ للإنجيلِ)
[346] ((أباطيل وأسمار)) لمحمود شاكر (1/ 117). .
لهذا كان واجِبًا على أنصارِ الفُصحى -وُجوبًا شَرعيًّا- رَدَّ مِثلِ تلك الدَّعَواتِ الفاسِدةِ، والذَّبَّ والجِهادَ دِفاعًا عنِ القُرآنِ، حتى يَبقى على أصالَتِه اللُّغَويَّةِ، وأُسلوبِه العَرَبيِّ المُبِينِ المُعْجِزِ؛ لأنَّهم على اعتِقادٍ جازِمٍ بأنَّ عَداوةَ هؤُلاءِ الصَّليبيِّينَ للإسلامِ هيَ التي دَفَعَتْهم إلى هذه الدَّعوةِ الخَبيثةِ؛ ليَقضوا على القُرآنِ الكَريمِ بالقَضاءِ على الفُصحى
[347] يُنظر: ((الزحف على لغة القرآن)) لأحمد عبد الغفور عطار (ص:159). .
إنَّ دُعاةَ العاميَّةِ لم يَكُنْ يحَرِّكُهم إلى دَعوتِهم تلك مُجَرُّدَ التَّيسيرِ أوِ الرَّغبةِ في التَّقَدُّمِ والشَّرفِ، فكَيفَ لأمثالِ لويس عوض ومارون غصن النَّصرانيَّينِ، وأشباه يَعقوب صروف اليَهوديِّ، فضلًا عنِ المُستَشرِقينَ مِثل ولهلم سبيتا أو ولكوكس أو غَيرِهما؛ أن يَكونوا غَيورِينَ على لُغةِ الإسلامِ والقُرآنِ؟! بَل الأمرُ كما يَقولُ الرَّافِعيُّ: (أمَّا اللُّغةُ فهيَ صورةُ وُجودِ الأمَّةِ بأفكارِها ومَعانيها وحَقائِقِ نُفوسِها، وُجودًا مُتَميِّزًا قائِمًا بخَصائِصِه؛ فهيَ قَوميَّةُ الفِكرِ، تَتَّحِدُ بها الأُمَّةُ في صُوَرِ التَّفكيرِ وأساليبِ أخذِ المَعنى منَ المادَّةِ، والدِّقَّةِ في تَركيبِ اللُّغةِ دَليلٌ على دِقَّةِ المَلَكاتِ في أهلِها، وعُمقُها هو عُمقُ الرُّوحِ ودَليل الحُسنِ على مَيلِ الأمَّةِ إلى التَّفكيرِ والبَحثِ في الأسبابِ والعِلَلِ، وكَثرةُ مُشتَقَّاتِها بُرهانٌ على نَزعةِ الحُرِّيَّةِ وطماحِها؛ فإنَّ رُوحَ الاستِعبادِ ضيقٌ لا يَتَّسِعُ، ودَأبُه لُزومُ الكَلمةِ والكَلماتِ القَليلةِ.
وإذا كانتِ اللُّغةُ بهذه المَنزِلةِ، وكانت أمَّتُها حَريصةً عليها، ناهِضةً بها، مُتَّسِعةً فيها، مُكْبِرةً شَأنَها، فما يَأتي ذلك إلَّا من رُوحِ التَّسَلُّطِ في شَعبِها والمُطابَقةِ بَينَ طَبيعَتِه وعَمَلِ طَبيعَتِه، وكَونِه سيِّدَ أمرِه، ومُحَقِّقَ وُجودِه، ومُستَعمِلَ قوَّتِه، والآخِذَ بحَقِّه، فأمَّا إذا كان منه التَّراخي والإهمالُ وتَركُ اللُّغةِ للطَّبيعةِ السُّوقيَّةِ، وإصغارُ أمرِها، وتَهوينُ خَطرِها، وإيثارُ غَيرِها بالحُبِّ والإكبارِ؛ فهذا شَعبٌ خادِمٌ لا مَخدومٌ، تابِعٌ لا مَتبوعٌ، ضَعيفٌ عن تَكاليفِ السِّيادةِ، لا يُطيقُ أن يَحمِلَ عَظمةَ ميراثِه، مُجتَزِئٌ ببَعضِ حَقِّه، مُكتَفٍ بضَروراتِ العَيشِ، يُوضَعُ لحُكمِه القانونُ الذي أكثَرُه للحِرْمانِ وأقَلُّه للفائِدةِ التي هيَ كالحِرْمانِ!)
[348] ((وحي القلم)) للرافعي (3/26-27). .