المبحث الثَّالثُ: تَعْريفُ مُصْطلَحِ عِلمِ اللُّغةِ عند المُحدَثينَ
إنَّ مُصْطلَحَ (عِلمِ اللُّغةِ) يُعَدُّ تَرْجمةً للمُصْطلَحِ الإنجليزيِّ (Linguistics)، وهناك تَرجَماتٌ أخرى له تضَعُنا أمامَ مُترادِفاتٍ مُختلِفةٍ لِهذا المُصْطلَحِ؛ منها: (علمُ اللُّغةِ العامُّ، عِلمُ اللِّسانِ، اللِّسانيَّاتُ، الألْسُنيَّاتُ، فِقهُ اللُّغةِ، اللُّغويَّاتُ) ولكنَّ ما اشتَهَر مِن تلك المُصْطلَحاتِ هو: عِلمُ اللُّغةِ، خُصوصًا عند اللُّغويِّينَ المِصريِّينَ المُحدَثينَ؛ مِن هؤلاء مَثلًا:
الدُّكتورُ: عليُّ عبد الواحِدِ وافي في كِتابِه: (عِلمُ اللُّغةِ)، والدُّكتورُ: عبدُ الصَّبورِ شاهين في كِتابِه: (في عِلمِ اللُّغةِ العامِّ)، والدُّكتورُ: رَمضانُ عبدِ التَّوَّابِ في كِتابِه: (المَدخَلُ إلى عِلمِ اللُّغةِ ومَناهِجِ البحْثِ اللُّغويِّ)، والدُّكتورُ: مَحْمود فَهْمي حِجازي في كِتابِه: (مَدخَلٌ إلى عِلمِ اللُّغةِ)، ومِنَ المَدرسةِ اللُّغويَّةِ الأزْهريَّةِ الدُّكتورُ: عبدُ الحَميدِ أبو سِكين، بكِتابِه: (المَدخَلُ في عِلمِ اللُّغةِ)، والدُّكتورُ: عبدُ الفتَّاحِ البَركاويُّ في كِتابِه (مَدخَلٌ إلى عِلمِ اللُّغةِ الحَديثِ)، والدُّكتورُ: شَعبانُ عبدِ العَظيمِ بكِتابِه: (شَذَراتٌ مِن عِلمِ اللُّغةِ)، وغيرُهم كثيرٌ، ولعلَّ في عُنوانِ كِتابِ: (المُزهِرُ في عُلومِ اللُّغةِ وأنْواعِها)
للإمامِ السُّيُوطِيِّ إشارةً إلى هذا المُصْطلَحِ، وأرادَ بأغلَبِ مادَّةِ الكِتابِ لُغةً واحِدةً، وهي اللُّغةُ العَربيَّةُ.
وعلى الجانِبِ الآخَرِ يُفضِّلُ لُغَوِيُّو بِلادِ المَغرِبِ العَربيِّ اسْتِخدامَ مُصْطلَحاتِ: عِلمِ اللِّسانِ، أوِ الألْسُنيَّةِ، أوِ اللِّسانيَّاتِ، مِثلَما فعَل الدُّكتورُ: عبدُ السَّلامِ المسدي في كِتابِه: (مَباحِثُ تأسِيسيَّةٌ في اللِّسانيَّاتِ).
ولعِلمِ اللُّغةِ تَعْريفاتٌ مُتعدِّدةٌ، وسنَقفُ هنا أمامَ أهمِّ تَعْريفَينِ له:
التَّعْريفُ الأوَّلُ: هو تَعْريفُ دي سوسير
[11] نظرًا لأهمية دراسات دي سوسير في علم اللغة الحديث فهذه نُبذة عنه: وُلِدَ دي سوسير في سويسرا عام 1857م من أصلٍ فَرنسيٍّ، ودرس في جنيف، ثمَّ أشار إلى أنَّ اللغة يمكِنُ اعتبارها (شيئًا)، وهي ليست فرديةً ولكنها عامَّة، وقد انطلق دي سوسير من هذا المفهومِ منذ مطلَعِ القَرنِ العِشرينَ مع محاضراتِه الَّتي ألقاها على طلبتِه في جنيف وباريس، منذ عام (1881م – 1913م)، وهي الَّتي أصبحت نقطةَ تحوُّلٍ كبرى في مسيرةِ الدِّراسة اللُّغويَّة في أوروبا؛ إذ عارض بها الدِّراساتِ اللُّغويةَ التَّاريخيَّةَ، ودعا إلى دِراسةِ اللغة في حالةِ الثَّباتِ والاستقرارِ، وقد أطلق على هذا المَنهَجِ مُصطَلَح التزامنيِّ، أمَّا المَنهَجُ الوصفيُّ فهو تسميةٌ لاحقةٌ. يُنظَر: ((التفكير اللُّغويُّ بين القديم والحديث)) لكمال بشر (ص: 40)، ((العربية والبحث اللُّغويِّ المعاصر)) لرشيد عبد الرحمن العبيدي (ص: 220) يُنظَر: ((النَّحو العَربيُّ والدَّرس الحديث)) لعبده الراجحي (ص: 26). ، ومُفادُه أنَّ عِلمَ اللُّغةِ يَعْني: (دِراسةَ اللُّغةِ في ذاتِها، ومِن أجْلِ ذاتِها)
[12] يُنظَر: ((علم اللغة العام)) لدي سوسير (ص: 253)، ويُنظَر: ((دروس الألسنيَّة العامَّة)) لدي سوسير (ص: 347)، ((المدارس اللُّغويَّة - التَّطَوُّر والصِّراع)) لجيفري سامبسون (ص: 13)، ((أصول تراثيَّة في اللسانيات الحديثة)) لكريم زكي حسام الدِّين (ص: 36)، ((علم اللغة مقدمة للقارئ العَربي)) لمحمود السعران (ص: 49). .
ويَرِدُ على هذا التَّعْريفِ ثَلاثةُ أسْئلةٍ: ما (اللُّغةُ) الَّتي يَقصِدُها؟ ما مَعْنى (في ذاتِها)؟ ما مَعْنى (مِن أجْلِ ذاتِها)؟
أوَّلًا: اللُّغةُ الَّتي يَدرُسُها عِلمُ اللُّغةِ ليستِ الفَرنسيَّةَ أو الإنْجليزيَّةَ أوِ العَربيَّةَ، ليست لُغةً مُعيَّنةً مِنَ اللُّغاتِ، إنَّما هي (اللُّغةُ) الَّتي تَظهَرُ وتَتَحقَّقُ في أشْكالِ لُغاتٍ كَثيرةٍ، ولَهَجاتٍ مُتعدِّدةٍ، وصُورٍ مُختلِفةٍ مِن صُوَرِ الكَلامِ الإنْسانيِّ، فمعَ أنَّ اللُّغةَ العَربيَّةَ تَختلِفُ عن الإنجليزيَّةِ، وهذه الأخيرَةُ تَفترِقُ عنِ الفَرنسيَّةِ، فإنَّ ثَمَّةَ أصولًا وخَصائِصَ جَوهريَّةً تَجمَعُ ما بين هذه اللُّغاتِ، وتَجمَعُ ما بينَها وما بين سائِرِ اللُّغاتِ وصُوَرِ الكَلامِ الإنْسانيِّ -وهو أنَّ كلًّا منها (لُغةٌ)- أنَّ كلًّا منها نِظامٌ اجْتِماعيٌّ مُعيَّنٌ تَتَكلَّمُه جَماعةٌ مُعيَّنةٌ بعد أنْ تَتَلقَّاه عنِ المُجْتمَعِ، وتُحقِّقَ به وَظائِفَ خاصَّةً، ويَتلقَّاه الجيلُ الجَديدُ عنِ الجيلِ القَديمِ، وهكذا.
فعِلمُ اللُّغةِ يَستَقي مادَّتَه مِنَ النَّظرِ في (اللُّغاتِ) على اخْتِلافِها، وهو يُحاوِلُ أنْ يَصِلَ إلى فَهْمِ الحَقائِقِ والخَصائِصِ الَّتي تَسلُكُ اللُّغاتِ جميعًا في عِقْدٍ واحِدٍ، وكما يَدرُسُ عالِمُ الحَيَوانِ أفْرادَ الحَيَوانِ على اخْتِلافِها ليَصِلَ إلى فَهْمٍ سَليمٍ لحَقيقةِ (الحَيَوانِ)، والدِّراسةُ تُلجِئُه إلى أنْ يُصنِّفَ أفْرادَ الحَيَوانِ على أُسُسٍ مُعيَّنةٍ، وأنْ يُبرِزَ خَصائِصَ كلِّ (صِنفٍ)، وأنْ يُؤرِّخَ للحَياةِ الحَيَوانيَّةِ، ويُحاوِلَ أنْ يُفسِّرَ (نَشْأتَها)- كذلك يَصنَعُ عالِمُ اللُّغةِ باللُّغاتِ.
إذن، اللُّغةُ الَّتي يَدرُسُها هي: اللُّغةُ الإنْسانيَّةُ على وَجْهِ العُمومِ.
ثانيًا: مَعْنى قولِه: (في ذاتِها): هو أنَّه يَدرُسُها مِن حيثُ هي لُغةٌ، يَدرُسُها كما هي، يَدرُسُها كما تَظهَرُ؛ فليس للباحِثِ فيها أنْ يُغيِّرَ مِن طَبيعتِها، كما أنَّه ليس للباحِثِ في مَوضوعِ أيِّ عِلمٍ مِنَ العُلومِ أن يُغيِّرَ مِن طَبيعتِه، فليس له أنْ يَقتَصِرَ في بَحْثِه على جَوانِبَ مِنَ اللُّغةِ مُستحسِنًا إيَّاها، ويُنحِّيَ جَوانِبَ أخرى اسْتِهجانًا لها، أو اسْتِخفافًا بها، أو لغَرَضٍ في نفْسِه، أو لأيِّ سَببٍ آخَرَ مِنَ الأسْبابِ.
ثالثًا: مَعْنى أنَّ عِلمَ اللُّغةِ يَدرُسُ اللُّغةَ (مِن أجْلِ ذاتِها): أنَّه يَدرُسُها لغَرضِ الدِّراسةِ نفْسِها، يَدرُسُها دِراسةً مَوضوعيَّةً تَستهدِفُ الكَشْفَ عن حَقيقتِها؛ فليس مِن مَوضوعِ دِراستِه أنْ يُحقِّقَ أغْراضًا تَربويَّةً مَثلًا، أو أيَّ أغْراضٍ عَمليَّةٍ أخرى، إنَّه لا يَدرُسُها هادِفًا إلى (تَرقيتِها)، أو إلى تَصْحيحِ جَوانِبَ منها أو تَعْديلِ أُخَرَ، إنَّ عمَلَه مَقْصورٌ على أنْ يَصِفَها ويُحلِّلَها بطَريقةٍ مَوضوعيَّةٍ
[13] يُنظَر: ((علم اللغة مقدمة للقارئ العَربي)) لمحمود السعران (ص: 49، 51). .
التَّعْريفُ الثَّاني: أورَده الدُّكتورُ مَحْمود فَهْمي حِجازي بقولِه: عِلمُ اللُّغةِ Linguistics في أبْسَطِ تَعْريفاتِه هو: (دِراسةُ اللُّغةِ على نَحْوٍ عِلميٍّ)
[14] ((مدخل إلى علم اللغة)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 17). .
ويَرِدُ عليه سُؤالٌ أيضًا، هو: ما مَعْنى (على نَحْوٍ عِلميٍّ)؟
إنَّ دِراسةَ اللُّغةِ ليست دِراسةً عَشْوائيَّةً، وإنَّما هي دِراسةٌ عِلميَّةٌ تَقومُ على أسُسٍ ومَبادِئَ وإجْراءاتٍ؛ لتُفضِيَ في النِّهايةِ إلى نَتائِجَ سَليمةٍ، وقَواعِدَ مُحدَّدةٍ واضِحةٍ.
ومِن هذه الإجْراءاتِ -على سَبيلِ المِثالِ- تَحْليلُ اللُّغةِ إلى مُسْتوياتِها المُخْتلِفةِ: الصَّوتيَّةِ والصَّرفيَّةِ، والنَّحْويَّةِ والدَّلاليَّةِ، تَحْليلًا دَقيقًا يُعْطينا صُورةً واضِحةً عن مُكوِّناتِ هذه اللُّغةِ وخَصائِصِها المُختلِفةِ.
والفَرقُ بين التَّعْريفَينِ أنَّ التَّعْريفَ الأوَّلَ يَجعَلُ دِراسةَ اللُّغةِ مَقْصورةً عليها (في ذاتِها، ومِن أجْلِ ذاتِها)، دون النَّظرِ إلى العَوامِلِ الخارِجيَّةِ الَّتي تُؤثِّرُ فيها، فمِنَ المَعْروفِ أنَّ اللُّغةَ تَتأثَّرُ بالمُجْتمعِ الَّذي يَعيشُ فيه المُتكلِّمونَ بها، كما أنَّها تَتأثَّرُ بالطَّبيعةِ الجُغرافيَّةِ للأماكِنِ الَّتي يَعيشُ بها هؤلاء المُتكلِّمونَ باللُّغةِ، كما تَتأثَّرُ بنَفْسيَّةِ المُتكلِّمينَ وثَقافاتِهم... إلخ.
في حِينِ أنَّ التَّعْريفَ الثَّانيَ لم يَسْتبعِدْ دِراسةَ هذه العَوامِلِ في دِراسةِ اللُّغةِ، فمِنَ المُمكِنِ أنْ أدرُسَ المُجْتمعَ اللُّغويَّ، أو جُغرافيةَ مَكانِ اللُّغةِ، أو نَفْسيَّةَ المُتكلِّمِ بها خِلالَ دِراستي للُّغةِ.
ولعلَّ التَّعْريفَ الثَّانيَ هو الأدَقُّ؛ لأنَّ اللُّغةَ في تَطوُّرِها وتَكْويناتِها ليست بمَعزِلٍ عن هذه العَوامِلِ، وإنَّما تَشكَّلتْ وتَحوَّرتْ وتَطوَّرتْ مِن خِلالِها.
وهذا مِثالٌ تَوضيحيٌّ على ذلك: إنَّ عالِمَ الأحْياءِ البَحْريَّةِ قد يَكْتفي بوُصولِ سَمَكةٍ جَديدةٍ أو غَريبةٍ إلى مَعمَلِه؛ ليَبدأَ في تَشْريحِها وتَحْليلِ مُكوِّناتِها، واسْتِنتاجِ ما يَراه مِن نَتائِجَ ومَعْلوماتٍ عن هذه السَّمَكةِ، في حِينِ أنَّه مِنَ الأفْضَلِ أوِ الأعْمَقِ مِن ناحِيةِ الدِّراسةِ واسْتِخلاصِ النَّتائِجِ إذا انْتَقل هذا العالِمُ إلى البيئةِ الَّتي تَعيشُ فيها هذه السَّمَكةُ ليَدرُسَ طَبيعَةَ العُمْقِ الَّذي تَعيشُ فيه، ودَرَجةَ الحَرارةِ، والتَّغذيةَ، ولا شكَّ أنَّ مُراقَبةَ هذه السَّمَكةِ عن قُرْبٍ تُعْطيه نَتائِجَ مُمْتازةً ومَعْلوماتٍ أكثرَ قِيمةً عن هذا المَخْلوقِ
[15] يُنظَر: ((مدخل إلى اللغة العربية)) لزينب طلعت (ص: 70، 73). .