المبحث الثَّالِثُ: مَكانَةُ عِلمِ اللُّغةِ بين العُلومِ الحَديثةِ الإنْسانيَّةِ والطَّبيعيَّةِ
ليست اللُّغةُ بمَعزِلٍ عن العُلومِ الأُخرى؛ فلها (ارتباطٌ وثيقٌ بعُلومِ الطَّبيعةِ؛ فإنَّ أصواتَ لُغةِ الكلامِ تُنتَجُ وتُستقبَلُ عن طريقِ أجهزةِ الجِسمِ الإنسانيِّ. وتركيبُ هذه الأجهزةِ ووظائفُها جزءٌ من عِلمِ وظائِفِ الأعضاءِ، وكذلك فإنَّ انتقالَ الصَّوتِ على شَكلِ مَوجاتٍ صَوتيَّةٍ عَبرَ الهواءِ يدخُلُ في اختصاصِ عِلمِ الطَّبيعةِ، وبخاصَّةٍ ذلك الفَرعُ المعروفُ بعِلمِ الصَّوتِ، ولكِنَّ اللُّغةَ من ناحيةٍ أُخرى لها علاقةٌ وثيقةٌ بعِلمِ الإنسانِ وعِلمِ الاجتِماعِ باعتِبارِها نِتاجَ عَلاقةٍ اجتماعيَّةٍ، ووسيلةَ نَقلِ الثَّقافةِ التي تُعَدُّ من وجهةِ نَظَرِ عِلمِ الإنسانِ مجموعةَ تقاليدِ الشَّعبِ، وأوجُهَ استِعمالاتِه للُغتِه. وبالنَّظَرِ إلى وظيفةِ اللُّغةِ كتعبيرٍ عن الفِكرِ يمكِنُ اعتبارُ اللُّغةِ جُزءًا من عِلمِ النَّفسِ)
[43] ((أسس علم اللغة)) لأحمد مختار عمر (ص:42). .
فـ(اللُّغةُ نَشاطٌ اجتماعيٌّ من حيثُ إنَّها استجابةٌ ضروريَّةٌ لحاجةِ الاتِّصالِ بَينَ النَّاسِ جميعًا؛ ولهذا السَّبَبِ يتَّصِلُ عِلمُ اللُّغةِ اتِّصالًا شديدًا بالعلومِ الاجتماعيَّةِ، وأصبحَت بعضُ بحوثِه تُدرَسُ في عِلمِ الاجتماعِ، فنشأ لذلك فرعٌ منه يُسَمَّى (عِلمَ الاجتماعِ اللُّغَويَّ)، يحاوِلُ الكَشفَ عن العَلاقةِ بَينَ اللُّغةِ والحياةِ الاجتماعيَّةِ، وبَينَ أثَرِ تلك الحياةِ الاجتماعيَّةِ في الظَّواهِرِ اللُّغَويَّةِ المُختَلِفةِ)
[44] ((المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي)) رمضان عبد التواب (ص: 125). .
هذا عن اللُّغةِ عُمومًا، أمَّا عن العَرَبيَّةِ خُصوصًا فقد نزل القرآنُ المجيدُ على قَلبِ النَّبيِّ الكريمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ، ومنذ إشراقةِ فَجْرِ هذا التنزُّلِ انكبَّ المسلِمون على هذا الكتابِ المُعجِزِ، وعلى بيانِ رَسولِ اللهِ وما أُوتيَ من جوامِعِ الكَلِمِ، يلتَمِسون الفَهمَ والتَّفسيرَ والإفادةَ والنَّهلَ مِن مَعينِ الوَحيِ الشَّريفِ؛ فكان لا بدَّ من تملُّكِ أدواتِ هذا الفَهمِ، ووسائِلِ ذلك التَّحصيلِ، وأوَّلُ هذه الأدواتِ وأهمُّ هذه الوسائِلِ كانت لغةَ العَرَبِ التي شَرُفت بنُزولِ الوَحيِ بها؛ فـ(لقد كان الاشتغالُ بعُلومِ اللُّغةِ أداةً لفَهمِ العُلومِ الدِّينيَّةِ، وهذا ما يُبرِزُ لنا اهتِمامَ العُلَماءِ والمُصنِّفين بعلومِ اللُّغةِ في إطارِ الحضارةِ الإسلاميَّةِ)
[45] يُنظَر: ((علم اللغة مقدمة للقارئ العربي)) لمحمود السعران (ص: 54 - 56). . باعتبارِ اللُّغةِ وِعاءَ الإسلامِ، ومُستودَعَ ثقافتِه، ومادَّةَ أكثَرِ ما كُتِبَ عنه على مدى القُرونِ؛ ولذلك (شَغَلت العلومُ الدِّينيَّةُ حيِّزًا كبيرًا من الاهتمامِ العِلميِّ في مجالِ الحَضارةِ الإسلاميَّةِ، وكان الاهتمامُ بعُلومِ اللُّغةِ جُزءًا من الدِّراسةِ الهادِفةِ إلى التعمُّقِ في الدِّينِ، وظَلَّ هذا الارتباطُ قائِمًا في الدَّوائِرِ العِلميَّةِ على مدى القُرونِ. وظهَر هذا بصفةٍ خاصَّةٍ عندَ المؤَلِّفين المُسلِمين من غيرِ العَرَبِ، مِثلُ: الثَّعالبيِّ، وأبي حاتمٍ الرَّازيِّ، والخَوارِزميِّ، والتَّهانويِّ)
[46] يُنظَر: ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص:54- 55). ؛ فالثَّعالبيُّ يقولُ: (العَربيَّةُ خيرُ اللُّغاتِ والألسِنةِ، والإقبالُ على تفهُّمِها من الدِّيانةِ؛ إذ هي أداةُ العِلمِ، ومِفتاحُ التَّفَقُّهِ في الدِّينِ، وسَبَبُ إصلاحِ المَعاشِ والمَعادِ، ثمَّ هي لإحرازِ الفَضائِلِ والاحتواءِ على المروءةِ وسائِرِ أنواعِ المناقِبِ كاليَنبوعِ للماءِ، والزَّندِ للنَّارِ، ولو لم يكُنْ في الإحاطةِ بخصائِصِها، والوُقوفِ على مجارِيها ومصارِفِها، والتبَحُّرِ في جلائِلِها ودقائِقِها، إلَّا قُوَّةُ اليقينِ في معرفةِ إعجازِ القرآنِ، وزيادةُ البصيرةِ في إثباتِ النُّبُوَّةِ التي هي عُمدةُ الإيمانِ؛ لكفى بها فضلًا)
[47] يُنظَر: ((فقه اللغة وسر العربية)) لأبي منصور الثعالبي (ص:1). .
وابنُ القُوطيَّةِ يُقدِّمُ لكِتابِه (الأفعال) بأنَّها: أصولُ مباني أكثَرِ الكلامِ... وبعِلمِها يُستدَلُّ على أكثَرِ عِلمِ القُرآنِ والسُّنَّةِ
[48] يُنظَر: ((كتاب الأفعال)) لابن القوطية (ص: 1). ، وقد عدَّ
ابنُ خَلدونَ مَعرفةَ علومِ اللِّسانِ العَرَبيِّ ضروريَّةً على أهلِ الشَّريعةِ؛ إذ مأخَذُ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ كُلِّها من الكتابِ والسُّنَّةِ، وهي بلُغةِ العَرَبِ، ونَقَلَتُها من الصَّحابةِ والتَّابعين عَرَبٌ، وشَرحُ مُشكِلاتِها من لُغاتِهم
[49] يُنظَر: ((تاريخ ابن خلدون)) (1/ 753). . فعلومُ اللُّغةِ عِندَه من العُلومِ الآليَّةِ؛ باعتبارِ أنَّها مجرَّدُ وسيلةٍ لفَهمِ العُلومِ الشَّرعيَّةِ
[50] يُنظَر: ((تاريخ ابن خلدون)) (1/ 739)، وقد ردَّد هذه الفكرةَ حُسَين المرصفيُّ في ((الوسيلة الأدبية للعلوم العربية)) (1/ 106). . وهذا ما عبَّر عنه التَّهانويُّ بقولِه: (الأصلُ هو العلمُ بكتابِ اللهِ تعالى، وسُنَّةِ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإجماعِ الأمَّةِ، وآثارِ الصَّحابةِ... والتعَلُّمُ بعِلمِ اللُّغةِ التي هي آلةٌ لتحصيلِ العِلمِ بالشَّرعيَّاتِ... كُلُّها من فُروضِ الكفايةِ)، وأساسُ تصنيفِ التَّهانويِّ للعلومِ هو اعتبارُ الدُّنيا مرحلةً إلى الآخِرةِ، وأنَّ العَمَلَ من أجْلِ الآخرةِ هو طريقُ الصَّلاحِ في الدُّنيا، وأنَّ الآخِرةَ سَبَبُ استقامةِ الدُّنيا
[51] يُنظَر: ((كشاف اصطلاحات الفنون)) للتهانوي، (1/ 66)، وقول محقِّق كتاب ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 55). .
وانطلاقًا من هذا الارتباطِ بَينَ عُلومِ اللُّغةِ وبَينَ علومِ الدِّينِ على امتدادِ تاريخِ المُسلِمين، يوضِّحُ د. محمود فهمي حجازي الفارقَ الأساسيَّ بَينَ مكانةِ علومِ اللُّغةِ في التُّراثِ العَرَبيِّ ومكانةِ عِلمِ اللُّغةِ بَينَ العُلومِ الحديثةِ، فيقولُ: (إذا كانت مدارِسُ عِلمِ اللُّغةِ المتتابِعةُ عَبْرَ القرونِ تختَلِفُ في مناهجِ التحليلِ اختلافًا كبيرًا؛ فإنَّ الفرقَ الأساسيَّ بَينَ عِلمِ اللُّغةِ في التُّراثِ العَرَبيِّ وعِلمِ اللُّغةِ الحديثِ يَنبُعُ من مكانِ عِلمِ اللُّغةِ بَينَ العلومِ... ولكِنَّ التقَدُّمَ العِلميَّ في العصرِ الحديثِ أدَّى إلى اتِّساعِ مجالاتِ المعرفةِ عِندَ الإنسانِ، وفَرْضِ التَّخَصُّصِ على مَن يريدُ المُشارَكةَ في البحثِ العِلميِّ، وهنا أخذ عِلمُ اللُّغةِ يستقِلُّ بنفسِه، شأنُه في هذا شأنُ فروعِ المعرفةِ الأُخرى، وإذا كان ثمَّةَ ضرورةٌ لتصنيفِ العلومِ في العصرِ الحديثِ فإنَّ عِلمَ اللُّغةِ يشغَلُ في التَّصنيفِ العَشريِّ لدِيُوي مكانًا وسَطًا بَينَ عِلمِ الاجتماعِ والعُلومِ الطبيعيَّةِ. وفي هذا إدراكٌ واضحٌ لمكانِ عِلمِ اللُّغةِ الحديثِ بَينَ العلومِ والمعارِفِ الحديثةِ)
[52] يُنظَر: ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 54- 56)، وقد نَقَل عن كتاب ((((Decimal Classification لديوي. .
انظر أيضا:
عرض الهوامش