في العُصورِ الوُسْطى إبَّانَ انْتِشارِ اللُّغةِ اللَّاتينيَّةِ كان النَّحْوُ أحدَ الفُنونِ السَّبْعةِ (seven liberal arts)، وهي عُلومٌ تَناوَلها التَّدريسُ والشَّرحُ والتَّعْليقُ في كلِّ أنْحاءِ غَربِ أوروبَّا، وهي كالآتي: النَّحْوُ والجَدَلُ والبَلاغةُ -مِن جانِبٍ- والمُوسيقا والحِسابُ والهَنْدسةُ والفَلَكُ -مِنَ الجانِبِ الآخَرِ-، وقد أطْلَق عُلَماءُ العُصورِ الوُسْطى اللَّاتينيَّةِ على العُلومِ الثَّلاثةِ الأُولى: trivium، وعلى العُلومِ الأرْبَعةِ الأخيرةِ: quadrivium، ويَرجِعُ المُصْطلَحانِ كما يَرجِعُ التَّصْنيفُ إلى العالِمِ السِّياسيِّ الرُّومانيِّ boethius في أواخِرِ القَرْنِ الخامِسِ المِيلاديِّ [286] يُنظَر: ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 124). ، وكان كَثيرٌ مِن أبْناءِ المِنطَقةِ الحَضاريَّةِ اللَّاتينيَّةِ مُنْتمين أيضًا إلى بِيئاتٍ لُغويَّةٍ تَخْتلِفُ لُغاتُها عنِ اللَّاتينيَّةِ اخْتِلافًا بَعيدًا، ولا تَمتُّ إليها إلَّا بصِلةِ قَرابةٍ بَعيدةٍ.
اهتمَّ عَددٌ مِنَ المُؤلِّفين المُنْتمين للبِيئاتِ اللُّغويَّةِ الإنْجليزيَّةِ والآيسلنديَّةِ والألْمانيَّةِ ابْتداءً مِنَ القَرْنَين السَّابعِ والثَّامنِ للمِيلادِ بتَأليفِ المَعاجِمِ البَسيطَةِ للُّغةِ اللَّاتينيَّةِ معَ الألْفاظِ المُقابِلةِ بلُغةٍ أخرى، مِثلُ: الإنْجليزيَّةِ القَديمةِ، كما اهْتمُّوا بالتَّأليفِ في النَّحْوِ اللَّاتينيِّ، كان هؤلاء المُؤلِّفون يَتَعامَلون في حَياتِهم اليَوميَّةِ بلُغاتٍ تَخْتلِفُ عنِ اللَّاتينيَّةِ اخْتِلافًا بَعيدًا، ولكنَّها تَمُتُّ إليها بصِلةِ قَرابةٍ بَعيدةٍ، وعلى الرَّغمِ مِن هذا فلم تُؤدِّ مَعْرفتُهم بهذه اللُّغاتِ إلى بَحْثِ بِنْيتِها وبَيانِ أوجُهِ الشَّبَهِ والخِلافِ، أوِ العَلاقاتِ التَّاريخيَّةِ بينَها، وكلُّ ما عرَفه أولئك العُلَماءُ مَجْموعةُ مُلاحَظاتٍ عابِرةٍ للتَّعرُّفِ على عَلاقاتِ القَرابةِ بَينَ اللُّغاتِ في القَرْنِ الرَّابِعَ عشَرَ المِيلاديِّ؛ فقد أدْرَك دانتي (1265-1321م) ببَحْثِ عَددٍ مِنَ المُفرَداتِ في اللُّغاتِ الإسْبانيَّةِ والبرفساليَّةِ والفَرنسيَّةِ والإيطاليَّةِ- أنَّ هذه اللُّغاتِ تَرجِعُ إلى أصْلٍ واحِدٍ، ولكنَّ دانتي لم يَجعَلْ هذه اللُّغاتِ مُتفرِّعةً عنِ اللَّاتينيَّةِ؛ لأنَّها في رأيِه لُغةٌ مَصْنوعةٌ صنَعها العُلَماءُ ليَتعامَلوا بها، وأنَّها لم تكنْ لُغةً حيَّةً طَبيعيَّةً في وقتٍ مِنَ الأوقاتِ.
وإذا كان البَحْثُ العِلميُّ قد أثْبَت خَطأَ هذا الرَّأيِ، وأوضَح أنَّ اللُّغاتِ الرُّومانيةَ المُختلِفةَ إنَّما تَطوَّرتْ عن أصْلٍ واحِدٍ هو اللَّاتينيَّةُ الشَّعْبيَّةُ، أيِ: اللَّاتِينيَّةُ في صُورتِها المَنْطوقةِ- فإنَّ أهمِّيَّةَ رأيِ دانتي تَرجِعُ إلى تَصْنيفِه لهذه اللُّغاتِ في إطارٍ واحِدٍ. وهناك مُحاوَلاتٌ كَثيرةٌ تالِيةٌ لتَصْنيفِ اللُّغاتِ الأوروبِّيَّةِ المُختلِفةِ في مَجْموعاتٍ، ولكنَّ قُصورَ هذه المُحاوَلاتِ يَرجِعُ إلى كَونِها قامت على دِارسةِ المُفرَداتِ، ولم تَقُمْ على دِراسةِ البِنْيةِ الصَّرفيَّةِ والنَّحْويَّةِ، وقد صنَّف سكاليجر (Scaliger) اللُّغاتِ الأوروبِّيَّةَ إلى أرْبعِ مَجْموعاتٍ رَئيسيَّةٍ، وهي المَجْموعةُ الرُّومانيَّةُ، والمَجْموعةُ اليُونانيَّةُ، والمَجْموعةُ الجرمانيَّةُ، والمَجْموعةُ السلافيَّةُ، وأضاف إلى هذه المَجْموعاتِ سَبْعَ مَجْموعاتٍ فَرعيَّةٍ تَدخُلُ فيها باقي لُغاتِ القارَّةِ الأوروبِّيَّةِ. وتَدخُلُ الفِنْلنديَّةُ والمَجَريَّةُ، وهما مِن غيرِ اللُّغاتِ الهِنديَّةِ-الأوروبِّيَّةِ، في هذه المَجْموعاتِ الفَرعيَّةِ، وقد أطلَقَ سكاليجَر على كلِّ مَجْموعةٍ من هذه المجموعاتِ مُصطَلَحَ: Mutteesprache اللُّغةِ الأمِّ، باعتبارِ أنَّها اللُّغةُ الَّتي خرَجَت منها لغاتٌ أُخرى [287] يُنظَر: ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 125)، وأشار إلى: dante de bulgari eloquentia I.  B.E. bidos, handbuch der romanischen sprachwissenchaft, s  R.h. robins, ((A short History of linguistics)) . ولكنَّ نَجاحَ سكالِيجَر ومُؤلِّفي المَعاجِمِ المُتعدِّدةِ اللُّغاتِ في القَرْنِ السَّابعَ عشَرَ لم يَتجاوَزْ مُجرَّدَ التَّصْنيفِ، فلم يَتجاوَزْ هؤلاء تَصْنيفَ المُفرَداتِ، ولم يَبْحثوا المَراحِلَ الأقْدَمَ لِهذه اللُّغاتِ مِنَ الجَوانِبِ الصَّوتيَّةِ والصَّرفيَّةِ والنَّحْويَّةِ؛ ولِذا كان عمَلُهم مُجرَّدَ مُلاحَظاتٍ جُزئيَّةٍ كَثيرةٍ لم يَخرُجوا منها بقَواعِدَ عامَّةٍ أو بقَوانِينَ تُوضِّحُ الفُروقَ بَينَ اللُّغاتِ الأقْدَمِ واللُّغاتِ الأحْدَثِ، وتُفسِّرُ مَسارَ التَّغيُّرِ اللُّغويِّ، وظلَّ هؤلاء المُؤلِّفون أسْرَى الفِكَرِ المَوروثةِ عنِ العَهدِ القَديمِ القائِلةِ بأنَّ العِبْريَّةَ هي أصْلُ لُغاتِ الأرضِ، وهكذا كان الاطْمِئنانُ إلى صِحَّةِ هذه الفِكرةِ مَعوِّقًا أمامَ جُهدِ هؤلاءِ العُلَماءِ في النَّظرِ إلى المَراحِلِ المُوغِلةِ في القِدَمِ في تاريخِ اللُّغاتِ [288] يُنظَر: ((علم اللغة العربية)) لمحمود فهمي حجازي (ص: 124- 126). .