الفَصلُ الرَّابعُ: جُهودُ عُلَماءِ العَربيَّةِ في عِلمِ الأصْواتِ
كان عِلمُ الأصْواتِ أحدَ العُلومِ الَّتي اعْتَنى بها عُلَماءُ العَربيَّةِ، وبلَغوا في ذلك جُهدًا عَظيمًا للحِفاظِ على القُرآنِ الكَريمِ مِنَ اللَّحْنِ والتَّحْريفِ، لا سيَّما بعد انْتِشارِ الإسْلامِ في بِقاعِ الأرضِ المُختلِفةِ، فخَشُوا أنْ تَتأثَّرَ أصْواتُ العَربيَّةِ بأصْواتِ تلك اللُّغاتِ الأخرى، وكانتِ الدِّراساتُ الصَّوتيَّةُ في أوَّلِـها مُخْتلِطةً بغيرِها مِنَ الدِّراساتِ اللُّغويَّةِ؛ كالنَّحْوِ والصَّرفِ والمُعجَمِ وغيرِها.
ويُجمِعُ الباحِثون اللُّغويُّون على أنَّ العَربَ ومعَهم الهُنودُ كانوا مِن أقْدَمِ الشُّعوبِ الَّتي كان لها جُهدٌ بارِزٌ في عِلمِ الأصْواتِ؛ يقولُ المُسْتشرِقِ برجشتراسر: لم يَسبِقِ الغَربيِّين في هذا العِلمِ إلَّا قَومانِ مِن أهْلِ الشَّرقِ: الهُنودُ والعَربُ
[365] يُنظَر: ((التطور النَّحوي)) لبرجشتراسر (ص11). .
ومِن أشْهَرِ العُلَماءِ في العَصْرِ الأوَّلِ الخَليلُ بنُ أحْمَدَ الفَراهيديُّ (ت 175هـ) اهتمَّ كَثيرًا بدِراسةِ الأصْواتِ ومُوسيقا اللُّغةِ، فوضَع أوزانَ الشِّعرِ، واسْتَخرج بُحورَه وقَوافيَه، ووضَع مُعجَمَ (العَينِ) الَّذي رتَّبه على مَخارِجِ الأصْواتِ؛ فبَدأ بأصْواتِ الحَلْقِ، وجعَلها أقْسامًا، ثمَّ أصْواتِ أقْصَى الفَمِ، ثمَّ أوسَطِ الفَمِ، ثمَّ أدْنى الفَمِ، ثمَّ الشَّفتَين، فجاء تَرْتيبُه للأصْواتِ اللُّغويَّةِ في العَربيَّةِ، على النَّحْوِ التَّالي:
ع ح هـ خ غ/ ق ك/ ج ش ض/ ص س ز/ ط د ت/ ظ ذ ث/ ر ل ن/ ف ب م/ وا ي.
وكان الخَليلُ أسْبَقَ مَنْ ذاق الحُروفَ، ليَتعرَّفَ مَخارِجَها، يقولُ عنه تِلميذُه اللَّيثُ بنُ المُظفَّرِ: وإنَّما كان ذَواقُه إيَّاها أنَّه كان يَفتَحُ فاهُ بالألِفِ، ثمَّ يُظهِرُ الحَرْفَ، نَحْوُ: أب، أت، أح، أع، أغ، فوجَد العَينَ أدْخَلَ الحُروفِ في الحَلْقِ، فجعَلها أوَّلَ الكِتابِ.
وهذا مَعْناه تَجرِبةُ النُّطْقِ بالصَّوتِ ساكِنًا، لِئلَّا يَختلِطَ بغيرِه، ويَلتَبِسَ على النَّاطِقِ مَعْرِفةُ كَيفيَّةِ صُدورِه، ومَخْرجِه الدَّقيقِ. وهذه الطَّريقةُ تَقرُبُ ممَّا يَدْعو إليه المُحدَثون مِن عُلَماءِ الأصْواتِ
[366] يُنظَر: ((المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللُّغوي)) لرمضان عبد التواب (ص15). .
ثم جاء بعدَه سِيبَوَيهِ (ت 180هـ)، فذكَر عَددَ الحُروفِ العَربيَّةِ ومَخارِجَها وصِفاتِها، فذكَر المَجْهورَ والمَهْموسَ، وبَيانَ اخْتِلافِهما، كما عرَض لظَواهِرَ صَوتيَّةٍ مُختلِفةٍ في كِتابِه، مِثلُ: أحْكامِ الهَمْزِ مِن تَحْقيقٍ وتَسْهيلٍ، والإمالةِ والفَتْحِ، وما يَتعلَّقُ بهما مِن أحْكامٍ، والإعْلالِ والإبْدالِ والتَّعليلِ الصَّوتيِّ لهما، وغيرِ ذلك.
ورتَّب
سِيبَوَيهِ الأصْواتَ العَربيَّةَ حسَبَ مَخارِجِها على النَّحْوِ التَّالي مُخالِفًا في بعضِه تَرْتيبَ الخَليلِ:
ء اهـ ع غ خ/ ق ك/ ج ش ي ض/ ل ر ن/ ط د ت/ ص ز س/ ظ ذ ث/ ف ب م و
[367] يُنظَر: ((الكتاب)) لسيبويه (4/434-435). .
وارْتَضى
ابنُ جنِّي بعدَه هذا التَّرْتيبَ، فقال: (فهذا هو تَرْتيبُ الحُروفِ على مَذاقِها وتَصعُّدِها… ممَّا رتَّبه
سِيبَوَيهِ، وتَلاه أصْحابُه عليه، وهو الصَّوابُ الَّذي يَشهَدُ التَّأمُّلُ له بصِحَّتِه)
[368] ((سر صناعة الإعراب)) لابن جني (1/59). .
وقد جعَل مَخارِجَ الحُروفِ سِتَّةَ عشَرَ مَخرَجًا مُوزَّعةً بَينَ الحَلْقِ واللِّسانِ والشَّفتَين والخَيشومِ، وسار عليه مَنْ جاء بعدَه واعْتَمدوه؛ يقولُ
أبو عَمْرٍو الدَّاني: اعْلَموا أنَّ قُطْبَ التَّجْويدِ ومِلاكَ التَّحقيقِ مَعْرِفةُ مَخارِجِ الحُروفِ وصِفاتِها الَّتي بها يَنْفصِلُ بعضُها مِن بعضٍ، وإنِ اشْتَرك في المَخرَجِ، وأنا أذْكُرُ ذلك على مَذهَبِ
سِيبَوَيهِ خاصَّةً؛ إذْ هو الصَّحيحُ المُعوَّلُ عليه، إن شاء اللهُ تعالى
[369] يُنظَر: ((التحديد في الإتقان والتجويد)) لأبي عمرو الداني (ص104). .
ثمَّ قسَّم أصْواتَ العَربيَّةِ مِن حيثُ الصِّفاتُ على أقْسامٍ؛ بعضُها عامٌّ، كالجَهْرِ والهَمْسِ، والشَّديدِ والرِّخْوِ، وبعضُها خاصٌّ ببعضِ الأصْواتِ، كالأصْواتِ المُطْبَقةِ والأصْواتِ اللَّيِّنةِ، والأصْواتِ ذاتِ الاسْتِطالةِ والتَّفشِّي، والأصْواتِ المُنحَرِفةِ والمُكرَّرةِ
[370] يُنظَر: ((الكتاب)) لسيبويه (4/431). .
ويُشيدُ المُسْتشرِقُ الألْمانيُّ شاده بدَورِ
سِيبَوَيهِ في وَصْفِ المَخارِجِ، فيقولُ: نُشاهِدُ غايةَ التَّفْصيلِ مَثلًا في تَقْسيمِه للأسْنانِ، وقد قسَّمها إلى الثَّنايا والرَّباعِيَاتِ والأنْيابِ والأضْراسِ، ويُخالِفُ هذا التَّدقيقَ مُعامَلتُه للحَلْقِ؛ فإنَّ
سِيبَوَيهِ وإن قسَّمه إلى أقْصى الحَلْقِ، وأوسَطِ الحَلْقِ، وأدْنى الحَلْقِ، لم يكنْ يَعرِفُ الحَنْجَرةَ ولا أجْزاءَها كالمِزْمارِ، والأوتارِ الصَّوتيَّةِ، وسَببُ هذا الاخْتِلافِ واضِحٌ؛ فإنَّ الأسْنانَ مَكْشوفةٌ للرُّؤيةِ، وأمَّا الحَنْجَرةُ وأجْزاؤُها وعَمَلُها فتَقْتضي مُلاحَظتُها إلى التَّشْريحِ...
[371] يُنظَر: ((علم الأصوات عند سيبويه)) شاده (ص5) نقلًا عن ((علم الأصوات العربية)) لمحمد جواد النوري (ص32). .
وكان ل
ابنِ جنِّي (ت 392هـ) بعدَه دَورٌ كَبيرٌ في الدَّرسِ الصَّوتيِّ؛ حيثُ ألَّف كِتابًا مُسْتقِلًّا في عِلمِ الأصْواتِ هو: ((سِرُّ صِناعةِ الإعْرابِ))، تأثَّر فيه كَثيرًا بكَلامِ
سِيبَوَيهِ في تَعدادِ المَخارِجِ وصِفاتِ الحُروفِ، لكنَّه يُضيفُ إلى ذلك وَسيلةً لإيضاحِ حُدوثِ الأصْواتِ بما لم يَهْتدِ إليه
سِيبَوَيهِ، فيُشبِّهُ مَجْرى النَّفَسِ في أثْناءِ النُّطْقِ بالمِزْمارِ، كما يُشبِّهُ مَدارِجَ الحُروفِ ومَخارِجَها بفَتَحاتِ هذا المِزْمارِ الَّتي تُوضَعُ عليها الأصابِعُ، أو بوَتَرِ العُودِ وأثَرِ الأصابِعِ، فيقولُ: (شبَّه بعضُهم الحَلْقَ والفَمَ بالنَّايِ، فإنَّ الصَّوتَ يَخرُجُ فيه مُسْتطيلًا أمْلَسَ ساذَجًا، كما يَجْري الصَّوتُ في الألِفِ غُفْلًا بغيرِ صَنعةٍ، فإذا وضَع الزَّامِرُ أنامِلَه على خُروقِ النَّايِ المَنْسوقةِ، وراوَحَ بَينَ أنامِلِه، اخْتَلفتِ الأصْواتُ، وسُمِع لكلِّ خَرْقٍ منها صَوتٌ لا يُشبِهُ صاحِبَه، فكذلك إذا قُطِع الصَّوتُ في الحَلْقِ والفَمِ، باعْتِمادٍ على جِهاتٍ مُختلِفةٍ، كان سَببَ اسْتِماعِنا هذه الأصْواتَ المُختلِفةَ)
[372] ((سر صناعة الإعراب)) لابن جني (1/21-22). .
وتَحدَّث
ابنُ جنِّي عن طَبيعةِ الأصْواتِ الصَّائِتةِ من خِلالِ إبْرازِ العَلاقةِ بَينَ الحَرَكاتِ وحُروفِ المدِّ، وأنَّها مِن طَبيعةٍ واحِدةٍ، فيقولُ: اعْلَمْ أنَّ الحَرَكاتِ أبْعاضُ حُروفِ المدِّ واللِّينِ، وهي الألِفُ والياءُ والواوُ، فكما أنَّ هذه الحُروفَ ثَلاثةٌ، فكذلك الحَرَكاتُ ثَلاثٌ، وهي الفَتْحةُ، والكَسْرةُ، والضَّمَّةُ؛ فالفَتْحةُ بعضُ الألِفِ، والكَسْرةُ بعضُ الياءِ، والضَّمَّةُ بعضُ الواوِ
[373] يُنظَر: ((سر صناعة الإعراب)) لابن جني (1/33). .