المبحث الأوَّلُ: النَّبْرُ
النَّبْرُ لُغةً: يَعْني الرَّفْعَ.
نَبَرتُ الشَّيءَ أنْبِرُه نَبْرًا: رَفَعتُه. ومنه سُمِّي المِنْبَرُ. ونَبْرَةُ المُغَنِّي: رَفْعُ صوتِه عن خَفْضٍ
[437] يُنظَر: ((الصحاح)) للجوهري (2/821). . ويقولُ ابنُ الأنْباريِّ: النَّبْرُ عند العَربِ ارْتِفاعُ الصَّوتِ. يُقالُ: نبَر الرَّجلُ نَبْرةً: إذا تكلَّم بكَلِمةٍ فيها عُلُوٌّ
[438] يُنظَر: ((لسان العَرب)) لابن منظور (5/189). .
وهذا المَعْنى اللُّغويُّ قَريبٌ مِنَ المَعْنى الاصْطِلاحيِّ في عِلمِ الأصْواتِ الحَديثِ؛ فقد عرَّف المُسْتشرِقُ الفَرنسيُّ جاك كانتينو النَّبْرَ بأنَّه: (إشْباعُ مَقطَعٍ مِنَ المَقاطِعِ بأن تُقوِّيَ إمَّا ارْتفاعَه المُوسيقيَّ، أو شِدَّتَه أو مَداه، أو عَددًا مِن هذه العَناصِرِ معًا)
[439] ((دروس في علم أصوات العربية)) لجاك كانتينو، ترجمة صالح القرمادي (ص194). .
ويعرِّفُه الدُّكتورُ تمَّام حسَّان بأنَّه: وُضوحٌ نِسبيٌّ لصوتٍ أو مَقطَعٍ إذا قُورِن ببَقيةِ الأصْواتِ والمَقاطِعِ في الكَلامِ
[440] يُنظَر: ((مناهج البحث في اللغة)) لتمام حسان (ص160). . فهو يَعْني: الضَّغطَ على مَقطَعٍ خاصٍّ مِن كلِّ كَلِمةٍ؛ ليَجعَلَه بارِزًا أوضَحَ في السَّمْعِ ممَّا عداه مِن مَقاطِعِ الكَلِمةِ
[441] يُنظَر: ((المدخل إلى علم اللغة)) لرمضان عبد التواب (ص103). .
يأتي النَّبْرُ عندَ القُدَماءِ بمعنى الهَمْزةِ، ويأتي النَّبْرُ عندَ المعاصِرينَ بمعنى ارتفاعِ شِدَّةِ الصَّوتِ ونَغْمَتِه؛ ممَّا يؤدِّي إلى وضوحٍ نِسبيٍّ لصوتٍ أو مقطَعٍ بَينَ الأصواتِ والمقاطِعِ المجاوِرةِ له على مُستوى الكَلِمةِ؛ فالصَّوتُ المَنبورُ أو المقطَعُ المَنبورُ يتطَلَّبُ عندَ النُّطقِ به طاقةً أكبَرَ من بقيَّةِ الأصواتِ أو المقاطِعِ داخِلَ الكَلِمةِ.
ولعَلَّ إشاراتِ القُدَماءِ بُمصطَلَحِ (مَطْلِ الحَرَكةِ) الذي ورد عندَ
ابنِ جِنِّي [442] ((الخصائص)) ابن جني (3/ 126). ، وأطلَقَ عليه
سيبَوَيهِ: (إشباعَ الحرَكةِ)
[443] ((الكتاب)) لسيبويه (4/ 202). قريبةٌ بوجهٍ ما من دلَالةِ النَّبْرِ عندَ المعاصِرينَ. وتُفيدُنا دراساتُ اللُّغَويِّين المعاصِرين أنَّ النَّبْرَ في العربيَّةِ مُرتَبِطٌ ببِنيةِ الكَلِمةِ؛ حيثُ يرتَبِطُ بالمقطَعِ؛ فالكَلِمةُ المكوَّنةُ من مقطَعٍ واحِدٍ لا يُحالُ فيها للحديثِ عن مقطَعٍ مَنبورٍ وآخَرَ غيرِ مَنبورٍ، فالمَقطَعُ الواحِدُ مَنبورٌ دائِمًا، ولكِنَّ قواعِدَ النَّبْرِ نحتاجُها في الكَلِمةِ التي تحتوي على مقطَعَينِ فأكثَرَ.
ويمكِنُ ملاحظةُ مَوقِعِ النَّبْرِ داخِلَ الكَلِمةِ من خلالِ الضَّوابِطِ التَّاليةِ:1- إذا توالَت عِدَّةُ مقاطِعَ مَفتوحةٍ، يكونُ الأوَّلُ فيها منبورًا؛ ففي كَلِمةِ "كَتَبَ" نجِدُ ثلاثةَ مقاطِعَ قَصيرةٍ مفتوحةٍ، أوَّلُها منبورٌ.
2- إذا ضَمَّت الكَلِمةُ مقطعًا طويلًا واحِدًا، يكونُ النَّبْرُ على هذا المقطَعِ الطَّويلِ، كما في كَلِمةِ "كِتاب" بنَبْرِ المقطَعِ الثَّاني.
3- إذا ضَمَّت الكَلِمةُ مقطَعينِ طويلَينِ، يكونُ النَّبْرُ على أوَّلِهما، كما في كَلِمةِ: كاتِب، نجِدُ مَقطَعَينِ طويلَينِ، أوَّلُهما مفتوحٌ، والثَّاني مُغلَقٌ، والنَّبْرُ على المقطَعِ الأوَّلِ
[444] ((اللغة وعلم اللغة الحديث)) محمد داود ( 131- 132). .
وللنَّبْرِ قَواعِدُ تَخْتلِفُ مِن لُغةٍ إلى أخرى، وقد تَخْتلِفُ مِن لَهْجةٍ إلى لَهْجةٍ في اللُّغةِ الواحِدةِ؛ ففي اللُّغةِ التِّشيكيَّةِ والفِنْلنديَّةِ مَثلًا يَقعُ النَّبْرُ غالِبًا على أوَّلِ مَقطَعٍ في الكَلِمةِ، ويَقعُ في اللُّغة الفَرنسيَّةِ والبُولنديَّةِ على المَقطَعِ الأخيرِ
[445] يُنظَر: ((دِراسة الصوت اللُّغوي)) لأحمد مختار عمر (ص222). . بل يُوجَدُ اخْتِلافٌ بَينَ اللُّغاتِ في القوَّةِ الَّتي يُنطَقُ بها المَقطَعُ المَنْبورُ بالنِّسبةِ للمَقطَعِ غيرِ المَنْبورِ، فنَجدُ في الفَرنسيَّةِ الفَرْقَ ضَعيفًا بَينَ الاثنَين، لكنْ في اللُّغاتِ الجَرمانيَّةِ يكونُ المَقطَعُ المَنْبورُ قويًّا جدًّا إذا قُورِن بغيرِ المنبورِ.
أمَّا النَّبْرُ في اللُّغةِ العَربيَّةِ فقد رأى الدَّارِسون أنَّ المُتقدِّمين مِن عُلَماءِ العَربيَّةِ والتَّجْويدِ لم يَتعرَّضوا له في كُتُبِهم، ولم يَهتمُّوا بتَسْجيلِ تلك الظَّاهِرةِ، ربَّما لأنَّها لا تَدخُلُ في تَغْييرِ المَعْنى، حتَّى ادَّعى المُسْتشرِقُ براجشتراسر أنَّ الضَّغطَ لم يُوجَدْ في العَربيَّةِ، ومِثْلُه المُسْتشرِقُ الفَرنسيُّ هنري فليش؛ حيثُ قال: «نَبْرُ الكَلِماتِ كان مَجْهولًا تَمامًا لدى النُّحاةِ العَربِ، بل لم نَجِدْ له اسمًا في مُصْطلَحاتِهم.. لأنَّ نَبْرَ الكَلِماتِ لم يُؤدِّ دَورًا في عِلمِ العَروضِ العَربيِّ».
ويُمكِنُ القولُ بأنَّ النَّبْرَ قد لا يكونُ له دَورٌ واضِحٌ في اللُّغةِ بحيثُ يَحمِلُ العُلَماءَ على مُلاحَظتِه وتَدْوينِ قَواعِدِه، لكنَّهم لم يَغفُلوا عنه كما جاء في نَصِّ ابنِ الأنْباري السَّابِقِ: أنَّ النَّبْرَ عند العَربِ ارْتِفاعُ الصَّوتِ، فهو له اسمٌ عندَهم.
وقد بدأ تَسْجيلُ قَواعِدِ النَّبْرِ في العَربيَّةِ عند المُسْتشرِقين، وأهمُّهم بروكلمان الَّذي يقولُ: (في اللُّغةِ العَربيَّةِ القَديمةِ يَدخُلُ نَوعٌ مِنَ النَّبْرِ، تَغلِبُ عليه المُوسيقيَّةُ، ويَتوقَّفُ على كمِّيَّةِ المَقطَعِ، فإنَّه يَسيرُ مِن مُؤخِّرةِ الكَلِمةِ نَحْوَ مُقدِّمتِها، حتَّى يُقابِلَ مَقطَعًا طَويلًا، فيَقفَ عندَه، فإذا لم يكنْ في الكَلِمةِ مَقطَعٌ طَويلٌ، فإنَّ النَّبْرَ يَقعُ على المَقطَعِ الأوَّلِ منها)
[446] ((فقه اللُّغات السامية)) لكارل بروكلمان (ص45). .
وللباحِثين العَربِ جُهودٌ في صِياغةِ قَواعِدِ النَّبْرِ بالاعْتِمادِ على مُلاحَظاتِ المُسْتشرِقين، وأوَّلُ مَنْ فصَّل ذلك الدُّكتورُ إبراهيم أنيس الَّذي وضَع قَواعِدَه بِناءً على ما يَنطِقُ به القُرَّاءُ في مِصرَ، ويُمكِنُ تَلخيصُ ما قال بما يَأتي
[447] يُنظَر: ((الأصوات اللُّغويَّة)) لإبراهيم أنيس (ص171 وما بعدها). :
1- لمَعْرِفةِ مَوضِعِ النَّبْرِ يُنظَرُ إلى المَقطَعِ الأخيرِ فإنْ كان مِنَ النَّوعِ الرَّابِعِ أو الخامِسِ أو السَّادسِ كما في: نَسْتعين - مُستقر كان هو مَوضِعَ النَّبْرِ.
2- فإنْ لم يكنْ نظَرنا إلى المَقطَعِ الَّذي قبلَ الأخيرِ، فإنْ كان مِنَ النَّوعِ الثَّاني أوِ الثَّالِثِ أوِ الرَّابِعِ كما في: أخوك كان هو مَوضِعَ النَّبْرِ.
3- أمَّا إذا كان هذا المَقطَعُ مِنَ النَّوعِ الأوَّلِ نُظِر إلى ما قبلَه، فإنْ كان مِنَ النَّوعِ الأوَّلِ مِثله كما في: كَتَبَ، حاسَبَكَ كان النَّبْرُ على المَقطَعِ الثَّالِثِ.
4- وإذا لم يكنِ المَقطَعُ الثَّالِثُ مِن آخِرِ الكَلِمةِ مِنَ النَّوعِ الأوَّلِ كما في: قاتَلَ فإنَّ النَّبْرَ يَقعُ على المَقطَعِ قبلِ الأخيرِ.
5- لا يكونُ النَّبْرُ على المَقطَعِ الرَّابِعِ حين نَعُدُّ مِنَ الآخِرِ إلَّا في حالةٍ واحِدةٍ، وهي أن تكونَ المَقاطِعُ الثَّلاثةُ قبلَ الأخيرِ مِنَ النَّوعِ الأوَّلِ كما في: حَرَكَةٌ.
وهنا يَنْبغي الإشارةُ إلى أنَّ إغْفالَ عُلَمائِنا المُتقدِّمين لمَوضوعِ النَّبْرِ لا يَجعَلُنا نَسْتنتِجُ أنَّهم عجَزوا عن إدْراكِ الظَّاهِرةِ، أو أنَّها غيرُ مَوجودةٍ في العَربيَّةِ، فكِلاهما اسْتِنتاجٌ خَطَأٌ، فخُلاصَةُ الأمرِ أنَّ النَّبْرَ في العَربيَّةِ مِنَ النَّوعِ الَّذي لا يكونُ له تَأثيرٌ في المَعْنى
[448] يُنظَر: ((المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللُّغوي)) لرمضان عبد التواب (ص241). .