الفَصْلُ الأوَّلُ: المَوهِبةُ أو الطَّبْعُ
وهي الاستِعدادُ الفِطْريُّ الَّذي يساعِدُ الإنسانَ على تَفَهُّمِ حقائِقِ الأشياءِ والقُدرةِ على إصابةِ المعاني والتَّعبيرِ عنها بأحسَنِ العِباراتِ وأبلَغِها وأبيَنِها.
والطَّبْعُ (المَوهِبةُ) أوَّلُ الأدواتِ وأكثَرُها أهمِّيَّةً؛ فإنَّ سائِرَ العُلومِ مُترَتِّبةٌ عليه، فكم من عالِمٍ أفنى عُمُرَه في مُطالَعةِ كُتُبِ اللُّغةِ والأدَبِ والبَلاغةِ، غَيرَ أنَّه مُنحَطٌّ عن مراتِبِ الكُتَّابِ والمُنْشِئينَ! وعلى العَكْسِ ربَّما تقاعس البَعْضُ عن تحصيلِ العُلومِ وقصَّر في اكتِسابِ الموادِّ، إلَّا أنَّه مَطبوعٌ على تأليفِ الكَلامِ وتَنْميقِه، فتراه يَلحَقُ بأوساطِ أهْلِ الصَّنعةِ! (وذلك أنَّ الطَّبْعَ يَخُصُّ اللهُ تعالى به المَطبوعَ دونَ المتَطَبِّعِ، والمناسِبَ بغَريزتِه للصِّناعةِ دونَ المتَصَنِّعِ، ولا سَبيلَ إلى اكتِسابِ سُهولةِ الطَّبْعِ، بل هو مَوهِبةٌ تُخَصُّ ولا تَعُمُّ، وتُوجَدُ في الواحِدِ وتُفْقَدُ في الآخَرِ)
[26] يُنظر: ((مواد البيان)) لعلي بن خلف الكاتب (ص: 270). .
قال ضِياءُ الدِّينِ ابنُ الأثيرِ: (اعلَمْ أنَّ صِناعةَ تأليفِ الكَلامِ مِنَ المَنظومِ والمَنثورِ تفتَقِرُ إلى آلاتٍ كَثيرةٍ، وقد قيل: يَنْبَغي للكاتِبِ أن يتَعَلَّقَ بكُلِّ عِلمٍ، حتَّى قيلَ: كُلُّ ذي عِلْمٍ يَسوغُ له أن يَنسُبَ نفْسَه إليه، فيَقولَ: فُلانٌ النَّحْويُّ، وفُلانٌ الفَقيهُ، وفُلانٌ المُتكَلِّمُ، ولا يَسوغُ له أن يَنسُبَ نَفْسَه إلى الكِتابةِ، فيَقولَ: فُلانٌ الكاتِبُ؛ وذلك لِما يَفتَقِرُ إليه مِنَ الخَوضِ في كُلِّ فَنٍّ.
ومِلاكُ هذا كُلِّه الطَّبْعُ؛ فإنَّه إذا لم يَكُنْ ثَمَّ طَبعٌ فإنَّه لا تُغْني تلك الآلاتُ شَيئًا، ومِثالُ ذلك كمَثَلِ النَّارِ الكامِنةِ في الزِّنادِ والحَديدةِ الَّتي يُقدَحُ بها؛ ألَا ترى أنَّه إذا لم يَكُنْ في الزِّنادِ نارٌ لا تُفيدُ تلك الحَديدةُ شَيئًا؟!)
[27] يُنظر: ((المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)) لابن الأثير (1/ 27). .
وأكبَرُ آيةٍ على ذلك أنَّ الخَليلَ بنَ أحمَدَ الفَراهيديَّ صاحِبَ أوَّلِ مُعجَمٍ (العَيْن) وواضِعَ الموازينِ العَروضِيَّةِ لم يَكُنْ يَتهَيَّأُ له التَّأليفُ والنَّظْمُ إلَّا بصُعوبةٍ ومَشَقَّةٍ، ويقولُ: (يأباني جَيِّدُه، وآبى رَديئَه)!
وقيلَ للمُفَضَّلِ الضَّبِّيِّ: لمَ لا تقولُ الشِّعْرَ وأنت أعلَمُ النَّاسِ به؟! فقال: عِلْمي به يمنَعُني مِن قَوْلِه. وأنشد:
أبى الشِّعْرُ إلَّا أن يَفيءَ رَديئُهُ
عليَّ ويأبى منه ما كان مُحْكَمَا
فيا لَيْتَني إذ لم أُجِدْ حَوْكَ وَشْيِهِ
ولم أَكُ مِن وُشَّائِهِ كُنْتُ مُفْحَمَا
وأنشَدَ أبو عُبَيدةَ مَعْمَرُ بْنُ المُثَنَّى خَلَفًا الأحمَرَ شِعْرًا له، ثمَّ قال: اخبَأْ هذا كما تَخْبَأُ السِّنَّوْرةُ حاجتَها
[28] يُنظر: ((مواد البيان)) لعلي بن خلف الكاتب (ص: 270، 271). !
ويُحكى عن
أبي العَبَّاسِ المُبَرِّدِ أنَّه قال: (لا أحتاجُ إلى وَصْفِ نَفْسي؛ لأنَّ النَّاسَ يَعْلَمونَ أنَّه ليس أحَدٌ بَيْنَ الخافِقَينِ تختَلِجُ في نَفْسِه مَسألةٌ مُشكِلةٌ إلَّا لَقِيَني بها وأعَدَّني لها؛ فأنا عالِمٌ ومُعَلِّمٌ، وحافِظٌ ودارِسٌ، ولا يخفى عَلَيَّ مُشتَبِهٌ مِنَ الشِّعرِ والنَّحْوِ، والكَلامِ المَنثورِ والخُطَبِ والرَّسائِلِ، ولرُبَّما احتَجْتُ إلى اعتِذارٍ مِن فَلْتةٍ، أو التَِّماسِ حاجةٍ، فأجعَلُ المعنى الَّذي أقصِدُ نُصْبَ عَينيَّ ثمَّ لا أجِدُ سَبيلًا إلى التَّعبيرِ عنه بيَدٍ أو لِسانٍ!)
[29] يُنظر: ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) لأبي هلال العسكري (1/154). .
وفي هذا يقولُ ميخائيل نعيمة في مَقالةٍ له عُنوانُها
((مَجْدُ القَلَمِ)): (إنَّ الأُدَباءَ يُخلَقونَ ولا يُصنَعونَ، والفَرْقُ بَيْنَ الأديبِ المخلوقِ والأديبِ المصنوعِ كالفَرْقِ بَيْنَ العَينِ الطَّبيعيَّةِ والعَينِ الزُّجاجِيَّةِ، ومَن كان مُعَدًّا للأدَبِ كان في غِنًى عمَّن يَدُلُّه على طَريقِه؛ ففي داخِلِه ومِن خارِجِه حوافِزُ لا تَتْرُكُه يَستريحُ حتَّى يَتِمَّ التَّزاوُجُ ما بَيْنَ عَقْلِه وقَلْبِه وذَوْقِه، وبَيْنَ القَلَمِ والمِدادِ والقِرْطاسِ، وهو عن وَعْيٍ وغَيرِ وَعْيٍ لا يَنْفَكُّ يَلتَهِمُ التِهامًا كُلَّ ما يتَّصِلُ به مِن آثارٍ أَدَبيَّةٍ، ثمَّ لا يَنْفَكُّ يُسَوِّدُ الأوراقَ بما يتولَّدُ في نَفْسِه مِن أحاسيسَ وأفكارٍ وانطِباعاتٍ؛ إن أغمَضَ عيْنَيه في اللَّيلِ فعلى كاتِبٍ أو مَقالٍ، وإنْ فتَحَهما في الصَّباحِ فعلى شاعِرٍ أو قَصيدةٍ، فكَأنَّ كُلَّ ما فيه وكُلَّ ما هو إليه يَدفَعُ به دائِمًا إلى تحقيقِ حِلْمِه، بأن يُدرِكَ اليَومَ الَّذي ينطَبِعُ اسمُه على شِفاهٍ كثيرةٍ، وتَغْدو مُؤَلَّفاتُه نُجْعةً لجَيشٍ مِنَ القُرَّاءِ والأقلامِ)
[30] يُنظر: ((المعجم الميسر في القواعد والبلاغة والإنشاء)) لمحمد أمين ضناوي (ص: 299). .
ويَظهَرُ مِن تلك المقالةِ أنَّ المطبوعَ لا يُغْنيه طبْعُه عن سائِرِ أدواتِ الإنشاءِ، بل الطَّبعُ والمَوهِبةُ بمثابةِ الإناءِ الَّذي يَستطيعُ فيه جَمْعَ سائِرِ الأدواتِ وتَحْويرَها إلى لَونٍ إنشائيٍّ بَديعٍ، وإلَّا فما يُغْني إناءٌ فارِغٌ بَيْنَ جِفَانِ كِبارِ الأُدَباءِ ودِلائِهم؟!
على أنَّ الطَّبْعَ قد يكونُ في مجالٍ دونَ أخيه؛ فقد ترى الإنسانَ مُبَرِّزًا في الشِّعرِ دونَ النَّثرِ، نِحْريرًا في الخَطابةِ عَيِيًّا في الكِتابةِ، مُبدِعًا في الرَّوِيَّةِ دونَ البَديهةِ، بل رُبَّما كان مَطبوعًا مَوهوبًا في بَعْضِ مَقاصِدِ الفَنِّ الواحِدِ دونَ غَيرِه؛ فتَجِدُه أحدَّ النَّاسِ سَليقةً في الهِجاءِ دونَ المَدْحِ، أو أقدَرَ النَّاسِ على الوَصْفِ والتَّشبيبِ والغَزَلِ دونَ الاعتِذارِ والبُكاءِ على الأطلالِ؛ ولهذا قيل: (أشعَرُ النَّاسِ امْرُؤُ القَيْسِ إذا رَكِب، وزُهَيرٌ إذا رَغِب، والنَّابِغةُ إذا رَهِب، وعَنْترةُ إذا كُلِب
[31] أي: ذهب عقله. يُنظر: ((تاج العروس)) للزبيدي (4/ 172). ، والأعشى إذا طَرِب)
[32] يُنظر: ((تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر)) لابن أبي الإصبع (ص: 418). .
وكذلك فُنونُ النَّثْرِ والكِتابةِ؛ فإنَّه رُبَّما كان الرَّجُلُ أديبًا في نَوعٍ مِن أنواعِ الكِتابةِ كالرَّسائِلِ والمُكاتَباتِ الرَّسْميَّةِ دونَ القِصَصِ والرِّواياتِ والمقاماتِ، بل رُبَّما كان في النَّوعِ الواحِدِ مُتفاوِتًا في أغراضِه، ومن أعجَبِ ذلك ما يُرْوى أنَّ الحَريريَّ صاحِبَ المقاماتِ الشَّهيرَ لَمَّا دخل بَغْدادَ وانتَشَرت مقاماتُه بَيْنَ الخَلْقِ، قالوا: هذا رَجُلٌ يستطيعُ أن يتولَّى ديوانَ الإنشاءِ، فأُحضِرَ وكُلِّف كِتابةَ كِتابٍ فأُفحِمَ، ولم ينطِقْ ببِنْتِ شَفَةٍ، وما كَتَبَت أنامِلُه سَوداءَ في بَيضاءَ! فقال فيه بَعْضُهم:
شَيْخٌ لنا مِنْ رَبيعةِ الفَرَسِ
يَنتِفُ عُثْنُونَه مِنَ الهَوَسِ
أنطَقَه اللهُ بالمَشَانِ وقد
ألجَمَه في بَغْدادَ بالخَرَسِ
قال ابنُ الأثيرِ مُعَلِّقًا: (لا عَجَبَ؛ لأنَّ المقاماتِ مَدارُها جميعًا على حِكايةٍ تخرُجُ إلى مَخْلَصٍ، وأمَّا المكاتَباتُ فإنَّها بَحْرٌ لا ساحِلَ له؛ لأنَّ المعانيَ تتجدَّدُ فيها بتجَدُّدِ حوادِثِ الأيَّامِ، وهي متجَدِّدةٌ على عَدَدِ الأنفاسِ، ألَا ترى أنَّه إذا خَطَب الكاتِبُ المُفْلِقُ عن دَولةٍ مِنَ الدُّوَلِ الواسِعةِ الَّتي يكونُ لسُلْطانِها سَيفٌ مَشهورٌ وسَعْيٌ مذكورٌ، ومَكَث على ذلك بُرْهةً يَسيرةً لا تبلُغُ عَشْرَ سِنينَ؛ فإنَّه يُدَوَّن عنه مِنَ المكاتَباتِ ما يزيدُ على عَشَرةِ أجزاءٍ، كُلُّ جُزءٍ منها أكبَرُ من مَقاماتِ الحريريِّ حَجْمًا؟!)
[33] يُنظر: ((المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)) لابن الأثير (1/ 28). .
وقد أكَّد ابنُ أبي الإصبَعِ على أهميَّةِ الطَّبعِ بقَولِه: (يجِبُ على من كان له مَيْلٌ إلى عَمَلِ الشِّعْرِ وإنشاءِ النَّثْرِ أن يعتَبِرَ أوَّلًا نَفْسَه، ويمتَحِنَها بالنَّظَرِ في المعاني وتدقيقِ الفِكْرِ في استِنباطِ المُختَرَعاتِ، فإذا وَجَد لها فِطرةً سَليمةً، وجِبِلَّةً مَوزونةً، وذكاءً وقَّادًا، وخاطِرًا سَمْحًا، وفِكْرًا ثاقِبًا، وفَهْمًا سَريعًا، وبَصيرةً مُبصِرةً، وألْمَعِيَّةً مُهَذَّبةً، وقُوَّةَ حافِظةٍ، وقُدرةً حاكيةً، وهِمَّةً عاليةً، ولَهْجةً فَصيحةً، وفِطنةً صَحيحةً- أخذ حينَئذٍ في العَمَلِ، وإن كانت بَعْضُ هذه الأوصافِ غَيرَ لازِمةٍ لرَبِّ الإنشاءِ، ولا يُضطَرُّ إليها أكثَرُ الشُّعَراءِ، لكِنَّها إذا كمَلَت في الشَّاعِرِ والكاتِبِ كان مَوْصوفًا في هذه الصِّناعةِ بكَمالِ الأوصافِ النَّفْسِيَّةِ)
[34] يُنظر: ((تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر)) لابن أبي الإصبع (ص: 406). .