المَبْحَثُ الثَّالِثُ: الحَلُّ
وهو أن يَعمِدَ الكاتِبُ إلى الأبياتِ مِنَ الشِّعْرِ فيَجعَلَها في صورةِ النَّثْرِ، ويَحُلَّها عن عِقالِ الشِّعْرِ، وذلك عن طريقِ (تَوَخِّي هذا البَيتِ المَنْظومِ وحَلِّ فَرائِدِه مِن سِلْكِه، ثمَّ ترتيبِ تلك الفَرائِدِ وما شابَهَها ترتيبَ مُتمَكِّنٍ لم يحظُرْه الوَزْنُ ولا اضطَرَّتْه القافيةُ، ويُبرِزُها في أحسَنِ سِلْكٍ، وأجمَلِ قالَبٍ، وأصحِّ سَبْكٍ، ويُكمِلُها بما يناسِبُها من أنواعِ البَديعِ إذا أمكَنَ ذلك مِن غَيرِ كُلْفةٍ، ويتخَيَّرُ لها القرائِنَ، وإذا تمَّ معه المعنى المحلولُ في قرينةٍ واحِدةٍ فيَفرِضُ له من حاصِلِ فِكْرِه أو مِن ذَخيرةِ حِفْظِه ما يُناسِبُه)
[70] يُنظر: ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) للقلقشندي (1/ 330). .
وهو على ثلاثةِ أنواعٍ:
النَّثْرُ بلَفْظِه:وهو أسوَأُ أنواعِ الحَلِّ، وهو أن يأخُذَ ألفاظَ البَيتِ الشِّعْريِّ فيُؤخِّرَ فيها ويُقَدِّمَ، أو يَزيدَ بَعْضَ الكَلِماتِ.
فمن ذلك حَلُّ قَولِ
البُحْتُريِّ:
أَطِلْ جَفْوةَ الدُّنيا وتَهْوينَ شَأْنِها
فما الغافِلُ المغرورُ فيها بعاقِلِ
يُرَجِّي الخُلودَ مَعْشَرٌ ضَلَّ سَعْيُهم
ودونَ الَّذي يَرْجونَ غَولُ الغَوائِلِ
إذا ما حَريزُ القَومِ بات وما له
مِنَ اللهِ واقٍ فهو بادي المقاتِلِ
فيُقالُ: (أطِلْ تَهْوينَ شَأنِ الدُّنيا وجَفْوتَها، فما المغرورُ الغافِلُ فيها بعاقِلٍ، ويرجو مَعْشَرٌ ضَلَّ سَعْيُهم الخُلودَ، وغَوْلُ الغوائِلِ دونَ ما يَرْجونَ، وإذا بات حَريزُ القَومِ وما له مِنَ اللهِ واقٍ، فهو بادِي المقاتِلِ)
[71] يُنظر: ((الصناعتين: الكتابة والشعر)) لأبي هلال العسكري (ص: 217). .
النَّثْرُ ببَعْضِ الألفاظِ دونَ بَعْضٍ:وهو أفضَلُ مِنَ النَّوعِ الأوَّلِ، وهو أن يأخُذَ النَّاثِرُ بَعْضَ ألفاظِ الشِّعْرِ ويَتْرُكَ بَعْضَها الآخَرَ، ويأتيَ بما يناسِبُها.
فمن ذلك قَولُ الشَّاعِرِ:
لو كُنْتُ مِن مازنٍ لم تَستَبِحْ إبِلي
بنو اللَّقيطةِ مِن ذُهْلِ بنِ شَيْبانَا
فحلَّها ابنُ الأثيرِ فقال: (لسْتُ ممَّن تَستبيحُ إبِلَه بنو اللَّقيطة، ولا الَّذي إذا همَّ بأمرٍ كانت الآمالُ إليه وَسيطة، ولكنِّي أحمِلُ الهَمَل، وأقَرِّبُ الأَمَل، وأقولُ: سَبَق السَّيْفُ العَذَل)
[72] يُنظر: ((المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)) لابن الأثير (1/ 94). .
النَّثْرُ بغَيرِ ألفاظِه:وهو أعلى تلك الأنواعِ بَلاغةً، وهو الَّذي لا يُعابُ، ويتَبَيَّنُ حَذْقُ الصَّانِعِ في صياغتِه، فإنِ استطاع الزِّيادةَ على المعنى فتلك الدَّرَجةُ العاليةُ، وإلَّا أحسَنَ التَّصَرُّفَ وأتقَنَ التَّأليفَ.
فمِن ذلك حَلُّ قَولِ
أبي الطَّيِّبِ المُتَنبِّي:
لا تَعْذِلِ المُشتاقَ في أشواقِه
حتَّى تَكونَ حَشاك في أحشائِه
حَيثُ حلَّه ابنُ الأثيرِ فقال: (لا تَعْذِلِ المحِبَّ فيما يَهْواه، حتَّى تَطْويَ القَلْبَ على ما طواه)، وقال أيضًا: (إذا اختَلَفَت العينانِ في النَّظَر، فالعَذْلُ ضَرْبٌ مِنَ الهَذَر)
[73] يُنظر: ((المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)) لابن الأثير (1/ 96). .
ففي الحَلَّينِ لم يَستعمِلِ النَّاثِرُ ألفاظَ البَيتِ، وإنَّما أتى بألفاظٍ مِن عِندِه تُوافِقُ ذلك المعنى الَّذي نظَمَه الشَّاعِرُ.
ومن ذلك أيضًا قَولُ أبي تمَّامٍ:
تردَّى ثِيابَ الموتِ حُمْرًا فما أتى
لها اللَّيلُ إلَّا وهي مِن سُنْدُسٍ خُضْرِ
فحلَّه ابنُ الأثيرِ أيضًا فقال: (لم تَكْسُه المنايا نَسْجَ شِفارِها، حتَّى كسَتْه الجنَّةُ نَسْجَ شِعارِها؛ فبدَّل أحمَرَ ثَوْبِه بأخضَرِه، وكأسَ حِمامِه بكَأْسِ كَوْثَرِه)
[74] يُنظر: ((المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر)) لابن الأثير (1/ 97)، ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) للقلقشندي (1/ 329). .