المَطلَبُ الثَّاني: نِسْبَةُ الكِتابِ إلى الخَليلِ
اخْتَلفتِ الآراءُ حول نِسْبةِ كِتابِ العَينِ للخَليلِ بنِ أحْمَدَ اخْتِلافًا كَبيرًا، يَتلخَّصُ هذا الاخْتِلافُ في خَمْسةِ آراءٍ:
1- الخَليلُ لم يُؤلِّفْ كِتابَ العَينِ، ولا صِلةَ له بهفأمَّا الَّذين لم يَعْترفوا بكِتابِ العَينِ فيَذكُرُ لنا
السُّيوطيُّ بعضًا منهم؛ مِثلُ أبي عليٍّ القالي، وأسْتاذِه أبي حاتِمٍ.
واعْتَمد القائِلون بِهذا على أنَّ الكِتابَ ليس له إسْنادٌ، وأنَّه لم يكُنْ مَعْروفًا لتَلاميذِ الخَليلِ بعد مَوتِه، وأنَّ اللُّغويِّين في البَصْرةِ الَّتي نشَأ فيها الخَليلُ لم يَقْتَبسوا مِن كِتابِ العَينِ في كُتُبِهم.
2- الخَليلُ لم يَضَعْ نصَّ كِتابِ ((العَين))، ولكنَّه صاحِبُ الفِكْرَةِ في تَأليفِهوعلى رأسِ هؤلاء الأزْهَريُّ صاحِبُ
((التَّهْذيب))، وقدِ افْتَرض الأزْهَريُّ هذا الفَرْضَ، ثمَّ أخَذ يُؤيِّدُه بمُختَلِفِ الحُجَجِ الَّتي تُرضيه هو؛ فنَجدُ أنَّه في مُقدِّمةِ كِتابِه قد ذكَر اسْتِعراضًا لِلُّغويِّين الَّذين قسَّمهم إلى مَجْموعتَينِ: الثِّقاتِ، وغيرِ الثِّقاتِ، وقال عنِ المَجْموعةِ الثَّانيةِ: إنَّهم قد خلَطوا في كُتُبِهم بَيْنَ الصَّحيحِ والفاسِدِ، لدَرَجةِ أنَّه يَصعُبُ التَّمييزُ بَيْنَ النَّوعَينِ. وقد عدَّ الأزْهَريُّ في قائِمةِ هؤلاء اللَّيثَ الَّذي وصَفه بأنَّه وضَع كِتابَ العَينِ، ونسَبه للخَليلِ بنِ أحْمَدَ.
وزِيادةً على ذلك فإنَّ الأزْهَريَّ قد ذكَر الخَليلَ في قائِمةِ اللُّغويِّين الثِّقاتِ، ولكنَّه عندَما أخَذ يُترجِمُ لكلٍّ منهم لم يُوفِ الخَليلَ حقَّه في ذلك، معَ أنَّه اضْطرَّ إلى ذِكْرِه عَرَضًا عند التَّرْجمةِ لتَلامِيذِه؛ فقد ذكَر مَثلًا عند
سِيبَوَيهِ أنَّه جالَسَ الخَليلَ بنَ أحْمَدَ، وأخَذ عنه مَذاهِبَه في النَّحْوِ، كما ذكَر عند تَرْجمةِ النَّضْرِ بنِ شُمَيلٍ أنَّه كان مِن أبْرَعِ تَلاميذِ الخَليلِ.
والأكْثَرُ مِن هذا أنَّ الأزْهَريَّ كتب لنا ضِمْنَ مَراجِعِه في مُقدِّمتِه أنَّ كِتابَ العَينِ مِن بَيْنِ هذه الكُتُبِ، ولكنَّه سيَقْتبِسُ منه بشيءٍ مِنَ التَّحفُّظِ نَظَرًا لوُجودِ بعضِ الأخْطاءِ فيه!
3- الخَليلُ لم يَنْفرِدْ بتَأليفِ كِتابِ العَينِ، ولكنْ قدِ اشْتَرك معَه غيرُه فيهوأصْحابُ هذا الرَّأيِ مال أغْلَبُهم إلى أنَّ اللَّيثَ هو الَّذي ساعد في إتْمامِ الكِتابِ، ولكنَّ أصْحابَ هذا الرَّأيِ يَخْتلِفون فيما بَيْنَهم في تَفْسيرِ اشْتِراكِ اللَّيثِ معَ الخَليلِ، وإلى أيِّ مدًى عاوَنَ اللَّيثَ في تَأليفِ الكِتابِ.
فذهَب بعضُهم إلى أنَّ اللَّيثَ أعاد وَضْعَ الكِتابِ، ويُنسَبُ هذا الرَّأيُ إلى ابنِ المُعْتَزِّ الخَليفةِ الشَّاعِرِ.
وذهَب بعضُهم إلى أنَّ الخَليلَ وضَع كِتابَ العَينِ، واللَّيثَ أكْمَلَه، ونُسِب هذا الرَّأيُ إلى أبي الطَّيِّبِ اللُّغويِّ.
وذهَب بعضُهم إلى أنَّ الخَليلَ رتَّب أُصولَ الكِتابِ، ثمَّ وضَع النَّصَّ مِن بَعدِه. وأشْهَرُ مَنْ قال بذلك
أبو بَكْرٍ الزُّبَيديُّ مِنَ المُتقدِّمين، وتَبِعه في هذا عالِمانِ مُعاصِرانِ هما يُوسُف العش، والمُسْتشرِقُ الألْمانيُّ أهلوارت.
4- الخَليلُ عَمِل مِن كِتابِ العَينِ أُصولَه، ورتَّب أبْوابَه، وصنَّف مَوادَّه، ولكنَّ غيرَه حشا المُفرَداتِ.
5- الخَليلُ عَمِل كِتابَ العَينِ؛ بمَعْنى أنَّه ألَّفه، ثمَّ رُوِي عنه. وصاحِبُ هذا القولِ هو السِّيرافيُّ
[70] ينظر: ((المَعاجِم العَربيَّة مع اعتناء خاص بمُعجَم "العَين" للخليل بن أحمد)) لعبد الله درويش (ص: 48). .
مُناقَشةُ الآراءِ
[71] ينظر: ((المَعاجِم العَربيَّة مع اعتناء خاص بمُعجَم "العَين" للخليل بن أحمد)) لعبد الله درويش (ص: 55). :
الرَّأيُ الأوَّلُ يُعزَى إلى أبي عليٍّ القالي؛ فإنَّه لم يَعْترِفْ بكِتابِ العَينِ، سواءٌ أكان مِن عَمَلِ الخَليلِ أو مِن عَمَلِ غيرِه؛ بِناءً على أنَّه ليس للكِتابِ إسْنادٌ، وقد ذكَر لنا الرُّواةُ أنَّ القالي أخَذ هذا الرَّأيَ عن أبي حاتِمٍ الَّذي قرَّر أنَّ الكِتابَ لم يَكُنْ مُنْتشِرًا بَيْنَ العُلَماءِ في عَهْدِه.
والغَريبُ في هذا الأمرِ أنَّ فِعلَ القالي قد ناقَضَ قولَه؛ فقدِ اعْتَرفَ بكِتابِ العَينِ، وبأنَّ مُؤلِّفَه الخَليلُ، وذلك عندَما:
1- اقْتَبسَ منه كَثيرًا في كِتابِ البارِعِ تحت عِبارةِ: (وقال الخَليلُ).
2- ما رُوِي أنَّ القالي عندَما رحَل مِنَ المَشْرقِ إلى الأنْدلُسِ، واتَّصَل بالخَليفةِ الحَكَمِ الثَّاني، ألَّف له كِتابَ البارِعِ الَّذي كان فَخورًا بأنْ يَبُزَّ
ومِن ناحِيةٍ أخرى فإنَّ عَدَمَ مَعْرفةِ أبي حاتِمٍ بانْتِشارِ الكِتابِ في عَهْدِه لا يدُلُّ على عَدَمِ نِسبةِ الكِتابِ إلى الخَليلِ، كما أنَّ مَسألَةَ الإسْنادِ -على فَرْضِ عَدَمِ مَعْرفةِ أبي حاتِمٍ بسِلْسِلةِ رِوايةِ العَينِ- لا تَنْفي نِسبةَ الكِتابِ للخَليلِ.
أمَّا الرَّأيُ الثَّاني: فنَرى أنَّ الأزْهَريَّ في تَهْذيبِه حينَما لم تُسعِفْه الأمورُ بما يَرمي به الخَليلَ -كما فعَل ب
ابنِ دُرَيدٍ وغيرِه- رأى أنْ يَتَحاشى أنْ يُتَرجِمَ للخَليلِ حتَّى لا يَتَعرَّضَ لذِكْرِ العَينِ تحت اسْمِه أبدًا، وعندَما نَرى في مُقدِّمتِه ذِكْرَ الخَليلِ، فإنَّما كان ذلك عَرَضًا عند الكَلامِ على آخَرينَ كتَلامِيذِه مَثلًا، ولم يَكُنْ تَعصُّبُ الأزْهَريِّ فقطْ ضِدَّ كِتابِ العَينِ أو
ابنِ دُرَيدٍ الَّذي رأى أنَّ العَينَ تَأليفُ الخَليلِ، بل تَعدَّاه هذا إلى كلِّ مَنْ ألَّف في المَعاجِمِ مِن قبلِه. وعلى سَبيلِ المِثالِ قد عَرَضَ الأزْهَريُّ في مُقدِّمتِه لاثْنَينِ مِنَ اللُّغويِّين أصْحابِ المَعاجِمِ الَّذين اعْتَبرَهم غيرَ ثِقاتٍ، وهما الخَزْرَجيُّ صاحِبُ
((تَكْملة العَينِ))، وأبو الأزْهَرِ البُخاريُّ صاحِبُ
((الحَواصِل)).
وهذا الرَّأيُ مُضْطَرِبٌ ويَظهَرُ فيه التَّعصُّبُ؛ لسَببَينِ:1- أنَّه رَغمَ الحَمْلةِ العَنيفةِ الَّتي قام بها الأزْهَريُّ، فإنَّنا نَجدُه كَثيرًا ما يَقْتبِسُ منه، ويَنقُلُ الرِّواياتِ اقْتِباسًا ونَقْلًا يُشعِرانِ القارِئَ أنَّه ثِقَةٌ.
2- لَجأ الأزْهَريُّ إلى مُقدِّمةِ كِتابِ العَينِ يَنقُلُ منها بالحَرْفِ الواحِدِ الشَّيءَ الكَثيرَ، والغَريبُ أنَّه اعْتَرف أنَّ هذا التَّرْتيبَ البَديعَ قد اتَّفَق جَميعُ اللُّغويِّين على أنَّه للخَليلِ بنِ أحْمَدَ.
أمَّا ما قيل: إنَّ الخَليلَ لم يَنْفرِدْ بتَأليفِ الكِتابِ لكنِ اشْتَرك غيرُه معَه، فقد أَومأ أغْلَبُهم إلى أنَّ اللَّيثَ هو الَّذي ساعَدَ في إتْمامِ الكِتابِ.
ورَوَى بعضُهم أنَّ الكِتابَ ليس للخَليلِ، وإنَّما هو للَّيثِ بنِ المظفَّرِ بنِ نَصرِ بنِ سيَّارٍ الخُراسانيِّ، عَمِل هذا الكِتابَ، ونسَبه للخَليلِ ليُرغِّبَ النَّاسَ فيه. فهذه الآراءُ لا دَليلَ يُؤيِّدُها؛ فمنْها ما هو ناتِجٌ عن تَعصُّبٍ واتِّباعِ رَأيٍ، ومنْها ما هو ناتِجٌ عنِ اجْتِهادٍ، والمُجْتهِدُ يُصيبُ ويُخطِئُ.
وراجِحُ الأقوالِ: أنَّ الخَليلَ هو الَّذي وضَع الكِتابَ وألَّفه، ومِن أكْبَرِ الأدِلَّةِ على ذلك:
1- أنَّ الجَوَّ الَّذي عاش فيه الخَليلُ، وتَتلمَذَ على
أبي عَمْرِو بنِ العَلاءِ -وهو إمامٌ مِن أئِمَّةِ القِراءاتِ القُرآنيَّةِ بما تَحويه هذه القِراءاتُ مِن ظَواهِرَ صَوتيَّةٍ- كانت سَببًا في اهْتِمامِ الخَليلِ بالدِّراساتِ الصَّوتيَّةِ.
2- عَقْليَّةُ الخَليلِ بنِ أحْمَدَ الرِّياضيَّةُ الَّتي كانت سَببًا في ابْتِكارِه طَريقةً تَحصُرُ المَوادَّ حَصْرًا دَقيقًا.
3- ما حَبَا اللهُ به الخَليلَ مِن مَوهِبةٍ فَذَّةٍ، ومَلَكةٍ سَليمةٍ، وقَريحَةٍ صافِيةٍ، جعَلتْه يَنْفرِدُ عن بَني جِنْسِه وعُلَماءِ عَصْرِه في اتِّخاذِ طَريقةٍ لم يُسبَقْ إليها، وابْتِكارِه مَنهَجًا يكونُ فيه إمامًا.
بِدايةُ الكِتابِ الَّتي بَدأتْ بالإسْنادِ شأنُها شأنُ الكُتُبِ اللُّغويَّةِ الأُولى: (قال أبو مُعاذٍ عبدُ اللهِ بنُ عائِذٍ: حدَّثني اللَّيثُ بنُ المُظَفَّرِ بنِ نَصْرِ بنِ سَيَّارٍ، عنِ الخَليلِ بجَميعِ ما في هذا الكِتابِ. قال اللَّيثُ: قال الخَليلُ: كلَامُ العَرَبِ مَبْنيٌّ على أرْبَعةِ أصْنافٍ: على الثُّنَائِيِّ والثُّلَاثِيِّ...)
[72] ((العَين)) للخليل ابن أحمد (1/48). .