الفَصْلُ الثَّاني عشَرَ: حَرَكةُ التَّعْريبِ في العَصْرِ العبَّاسيِّ
اتَّصَلَ العَربُ قَديمًا بالأُمَمِ المُجاوِرةِ واقْتَبَسوا مِن لُغاتِها كَثيرًا مِن الألْفاظِ الَّتي دَخَلَتِ اللِّسانَ العَربيَّ، وعُدَّتْ مِن صَحيحِ الكَلِمِ، ولمَّا جاءَ الإسْلامُ واتَّسَعَتْ حَرَكةُ الفُتوحاتِ احْتَاجَ المُسْلِمونَ إلى مُصْطلَحاتِ الإدارةِ والسِّياسةِ، فاقْتَبَسوا بعضَ الألْفاظِ الأعْجَميَّةِ، مِثلُ: الدِّيوانِ، والبَريدِ، وتَوَسَّعوا في دَلالةِ ألْفاظٍ أُخرى لتَفيَ بالغَرَضِ، مِثلُ الدَّوْلةِ والشُّرْطةِ
[304] يُنظر: ((المصطلحات العلمية)) لمصطفى الشهابي (ص: 17). .
وقدْ بَدَأَتْ حَرَكةُ التَّرْجمةِ في عَصْرِ بَني أمَيَّةَ؛ إذْ بَدَأَها خالِدُ بنُ يَزيدَ بنِ مُعاوِيةَ، فتَرْجَمَ كُتُبًا في الطِّبِّ والكيمياءِ إلى العَربيَّةِ؛ قالَ ابنُ النَّديمِ: (كانَ خالِدُ بنُ يَزيدَ بنِ مُعاوِيةَ يُسمَّى حَكيمَ آلِ مَرْوانَ، وكانَ فاضِلًا في نفْسِه، وله هِمَّةٌ ومَحبَّةٌ للعُلومِ، خَطَرَ ببالِه الصَّنْعةُ، فأمَرَ بإحْضارِ جَماعةٍ مِن فَلاسِفةِ اليونانيِّينَ مِمَّن كانَ يَنزِلُ مَدينةَ مِصْرَ، وقدْ تَفصَّحَ بالعَربيَّةِ، وأمَرَهم بنَقْلِ الكُتُبِ في الصَّنْعةِ مِن اللِّسانِ اليونانيِّ والقِبْطيِّ إلى العَربيِّ، وهذا أوَّلُ نَقْلٍ كانَ في الإسْلامِ مِن لُغةٍ إلى لُغةٍ)
[305] ((الفهرست)) لابن النديم (ص: 300). .
وعُرِّبَتْ كُتُبٌ في الطِّبِّ في عَهْدِ
عُمَرَ بنِ عبْدِ العَزيزِ، وتُرْجِمَتْ كُتُبُ الإدارةِ الفارِسيَّةُ في عَهْدِ
هِشامِ بنِ عبْدِ المَلِكِ، وكانَ أكْثَرَ المُهْتَمِّينَ بأمْرِ
التَّعْريبِ والتَّرْجمةِ الخَليفةُ
عبْدُ المَلِكِ بنُ مَرْوانَ [306] يُنظر: ((الترجمة والتَّعْريب بين العصرين العباسي والمملوكي)) لسمير الدروبي (ص: 14). ، ولا شَكَّ أنَّ تَعْريبَ الدَّواوينِ في عَهْدِ
عبْدِ المَلِكِ بنِ مَرْوانَ كانَ خُطوةً بالِغةَ الأهمِّيَّةِ في تَعْريبِ العُلومِ؛ لأنَّها جَعَلَتِ العَربيَّةَ في مَحَلِّها الصَّحيحِ، لتَكونَ لُغةً للدَّوْلةِ، ودَفَعَتِ المُتَطلِّعينَ إلى الوَظائِفِ العامَّةِ أو المُتَّصِلينَ بالدَّوْلةِ إلى تَعلُّمِ العَربيَّةِ وإتْقانِها، فقدْ كانَ ديوانُ العِراقِ بالفارِسيَّةِ، والقائِمونُ عليه مِن الفُرْسِ، فنَقَلَه للعَربيَّةِ صالِحُ بنُ عبْدِ الرَّحْمنِ الَّذي أتْقَنَ الفارِسيَّةَ والعَربيَّةَ جَميعًا، وأمَرَ
عبْدُ المَلِكِ بنُ مَرْوانَ سُلَيْمانَ بنَ سَعْدٍ بتَعْريبِ ديوانِ الشَّامِ، وكانَ بالرُّوميَّةِ، وكانَ عليه سَرْجونُ بنُ مَنْصورٍ الرُّوميُّ
[307] يُنظر: ((الفهرست)) لابن النديم (ص: 300 – 302)، ((التَّعْريب في القديم والحديث)) لمحمد حسن عبد العزيز (ص: 89). .
لكنَّ حَرَكةَ التَّرْجمةِ فِي العَصْرِ الأمَوِيِّ لم تَكُنْ حَرَكةً عامَّةً شامِلةً كالَّتي في العَصْرِ العبَّاسيِّ، إنَّما كانَت مُحاوَلاتٍ مُنفَرِدةً لا تَنْضَوي تحتَ حَرَكةٍ عامَّةٍ للتَّرْجمةِ
[308] يُنظر: ((الترجمة في العصر العباسي)) لمريم سلامة كار، ترجمة: نجيب غزاوي (ص: 12). .
بيْنَ مُصْطلَحَيِ التَّرْجمةِ والتَّعْريبِ:مُصْطلَحُ التَّرْجمةِ يَخْتلِفُ عن مُصْطلَحِ
التَّعْريبِ؛ فالتَّعْريبُ هو أن تَتَفوَّهَ العَربُ باللَّفْظِ الأعْجَميِّ سَواءٌ أصَقَلَتْه على أوْزانِها أم لا، أمَّا التَّرْجمةُ فهي تَفْسيرُ الكَلامِ بلِسانٍ آخَرَ، أو نَقْلُ الكَلامِ مِن لُغةٍ إلى أُخرى، والتَّرْجُمانُ: هو الَّذي يُتَرجِمُ الكَلامَ
[309] يُنظر: ((لسان العَرب)) لابن منظور (12/ 66). ، وقدْ جاءَ في "الكَشْكولِ" أنَّ ثَمَّةَ طَريقَينِ للتَّرْجمةِ:
الطَّريقُ الأُولى: أن يُنظَرَ في كلِّ كَلِمةٍ مُفرَدةٍ مِن الكَلِماتِ المُرادِ تَرْجمتُها، وما تَدُلُّ عليه مِن المَعْنى، فيَأتي بكَلِمةٍ مِن العَربيَّةِ تَحمِلُ نفْسَ الدَّلالةِ، ثُمَّ يَنْتقِلُ إلى الأُخرى، وهكذا، حتَّى يَأتيَ على ما يُريدُ تَعْريبَه، وهذه الطَّريقةُ رَديئةٌ لوَجْهَينِ؛ الأوَّلُ: أنَّه لا يُوجَدُ كَلِماتٌ في العَربيَّةِ تُقابِلُ كلَّ الكَلِماتِ في اللُّغةِ الأُخرى، والثَّاني: أنَّ خَواصَّ التَّرْكيبِ والإسْنادِ لا تَتَطابَقُ بيْنَ اللُّغاتِ، وكَثيرًا ما يُسْتعمَلُ المَجازُ في كلِّ اللُّغاتِ، فيُؤدِّي -مِن ثَمَّ- إلى وُقوعِ الخَلَلِ.
الطَّريقُ الثَّانيةُ: هي أن يَتَمثَّلَ في ذِهْنِه مَعْنى الجُمْلةِ، فيُعبَّرَ عنها في اللُّغةِ الأُخرى بجُمْلةٍ تُطابِقُ مَعْناها، سَواءٌ أخالَفَتِ الألْفاظَ أم ساوَتْها، وهذه الطَّريقُ الأجْوَدُ
[310] يُنظر: ((الكشكول)) للعاملي (1/ 294)، نقلًا عن الصلاح الصفدي. .
وقدِ اشْتَمَلَتْ حَرَكةُ نَقْلِ العُلومِ على الوَسيلتَينِ معًا: التَّرْجمةِ و
التَّعْريبِ.
مَراحِلُ نَقْلِ العُلومِ في العَصْرِ العَبَّاسيِّ:مَرَّتْ حَرَكةُ نَقْلِ العُلومِ في العَصْرِ العَبَّاسيِّ بثَلاثِ مَراحِلَ:
المَرْحلةُ الأُولى:تَبدَأُ مِن خِلافةِ
المَنْصورِ حتَّى وَفاةِ
هارونَ الرَّشيدِ.
وقدْ نَبَغَ في هذا العَصْرِ عَدَدٌ مِن النَّقَلةِ المُبرِّزينَ في كلِّ عِلمٍ، لا سيَّما عُلومِ الطِّبِّ والرِّياضةِ والفَلْسفةِ، مِنهم عبْدُ اللهِ بنُ المُقَفَّعِ كاتِبُ أبي جَعْفَرٍ
المَنْصورِ، وقدْ تَرْجمَ كَثيرًا مِن كُتُبِ أَرِسْطُوطاليسَ المَنْطقيَّةِ، وكِتابَ كَليلةَ ودِمْنةَ الهِنْديَّ، وجُورجِيُوس بنُ بَخْتَيْشوعَ، وعيسى بنُ شَهْلاثا، وقدْ نَقَلا مِن اليونانيَّةِ إلى العَربيَّةِ، ونُوبَخْتُ المُنجِّمُ، وقدْ نَقَلَ كُتُبَ اليونانِ في عِلمِ حَرَكاتِ النُّجومِ، ويَحْيى بنُ البِطْريقِ، وغيْرُهم.
ورُويَ أنَّ رَجُلًا مِن الهِنْدِ قَدِمَ على
المَنْصورِ ومعَه كِتابٌ في حَرَكةِ النُّجومِ، فأمَرَ
المَنْصورُ بتَرْجمتِه إلى العَربيَّةِ، وأن يُؤلَّفُ مِنه كِتابٌ بالعَربيَّةِ تَتَّخِذُه العَربُ أصْلًا في حَرَكاتِ الكَواكِبِ، فتَولَّى ذلك الأمْرَ مُحمَّدُ بنُ إبْراهيمَ الفَزاريُّ، وأخْرَجَ كِتابًا يُسمِّيه المُنَجِّمونَ "السِّند هِند" الكَبيرَ
[311] يُنظر: ((إخبار العلماء بأخبار الحكماء)) للقفطي (ص: 205). .
وفي عَهْدِ
الرَّشيدِ أنْشَأَ خِزانةَ الحِكْمةِ، وأوْكَلَ أمْرَها إلى يوحَنَّا بنِ ماسَوَيْهِ، ووَلَّاه
الرَّشيدُ تَرْجمةَ الكُتُبِ الطِّبِّيَّةِ القَديمةِ الَّتي وَجَدَها المُسلِمونَ حينَ افْتَتَحوا بِلادَ الرُّومِ، ورَتَّبَ له
الرَّشيدُ كُتَّابًا حُذَّاقًا يَكتُبونَ بيْنَ يَدَيْه، وكانَ للبَرامِكةِ عِنايةٌ خاصَّةٌ بالتَّرْجمةِ؛ فقدْ ذَكَرَ ابنُ النَّديمِ أنَّ أوَّلَ مَن اهْتَمَّ بتَفْسيرِ كِتابِ "المَجَسْطِي" لبَطْلَيموسَ كانَ يَحْيى بنَ خالِدِ بنِ بَرْمَكٍ
[312] يُنظر: ((الفهرست)) لابن النديم (ص: 329). ، وفي هذا العَهْدِ تَرجَمَ عبْدُ المَسيحِ بنُ ناعِمةَ أرْبَعَ مَقالاتٍ مِن كِتابِ السَّماعِ الطَّبيعيِّ لأَرِسْطو
[313] يُنظر: ((الفهرست)) لابن النديم (ص: 310)، ((التهذيب في أصول التَّعْريب)) لأحمد بك عيسى (ص: 104، 105)، ((التَّعْريب في القديم والحديث)) لمحمد حسن عبد العزيز (ص: 89، 90). .
المَرْحلةُ الثَّانيةُ:تَبدَأُ برُقِيِّ
المَأمونِ كُرْسيَّ الخِلافةِ عامَ 198هـ حتَّى عامِ 300 هـ، وهي أزْهى مَراحِلِها،
ومِن أشْهَرِ النَّقَلةِ في هذه المَرْحلةِ:- حُنَيْنُ بنُ إسْحاقَ، وهو مِن أكْبَرِ أعْلامِ التَّرْجمةِ، كانَ مُتْقِنًا للِّسانِ العَربيِّ والسُّرْيانيِّ واليونانيِّ، أمَّا عن طَريقِه في التَّرْجمةِ فقدْ كانَ يَتْبَعُ الطَّريقَ الأجْوَدَ في التَّرْجمةِ، وهو أن يَتَمثَّلَ في ذِهْنِه مَعْنى الجُمْلةِ، فيُعبِّرُ عنها في اللُّغةِ الأُخرى بجُمْلةٍ تُطابِقُ مَعْناها، سَواءٌ أخالَفَتِ الألْفاظَ أم ساوَتْها؛ لِهذا لم تَحْتَجْ كُتُبُ حُنَيْنِ بنِ إسْحاقَ إلى تَهْذيبٍ إلَّا في العُلومِ الرِّياضيَّةِ؛ لأنَّه لم يَكُنْ مُتْقِنًا لها، بخِلافِ كُتُبِ الطِّبِّ والمَنطِقِ والطَّبيعيَّاتِ والإلهيَّاتِ؛ فإنَّ الَّذي عَرَّبَه مِنها لم يَحْتَجْ لإصْلاحٍ
[314] يُنظر: ((الكشكول)) للعاملي (1/ 294)، نقلًا عن الصلاح الصفدي. .
- ثابِتُ بنُ قُرَّةَ، وله كُتُبٌ ورَسائِلُ عِدَّةٌ، مِثلُ: كِتابِ حِسابِ الأهِلَّةِ، ورِسالةٍ في اسْتِخْراجِ المَسائِلِ الهَنْدسيَّةِ، وغيْرِ ذلك
[315] يُنظر: ((الفهرست)) لابن النديم (ص: 333). .
- وقَسْطا بنُ لوقا، وهو -كما يَقولُ عنه ابنُ النَّديمِ- فَصيحٌ باللِّسانِ اليونانيِّ والسُّرْيانيِّ والعَربيِّ
[316] يُنظر: ((الفهرست)) لابن النديم (ص: 303). ، وكانَ بارِعًا في عُلومٍ كَثيرةٍ، مِنها الطِّبُّ والفَلْسفةُ والهَنْدَسةُ والموسيقا
[317] يُنظر: ((الفهرست)) لابن النديم (ص: 357). .
- عيسى بنُ يحيى، وهو مِن تَلاميذِ حُنَيْنِ بنِ إسْحاقَ، وله تَرْجماتٌ لبعضِ كُتُبِ أبُقْراطَ، مِثلُ كِتابِ الأخْلاطِ، وكِتابِ الأمْراضِ الحادَّةِ بتَفْسيرِ جالينوسَ، وبعضِ مُصَنَّفاتِ جالينوسَ، مِثلُ كِتابِ رَداءةِ التَّنَفُّسِ، وكِتابِ الأدْويةِ المُقابِلةِ للأدْواءِ
[318] يُنظر: ((الفهرست)) لابن النديم (ص: 349). .
وكانَ
المَأمونُ قائِدًا لتلك الحَرَكةِ العِلميَّةِ، وذَكَرَ ابنُ النَّديمِ أنَّ سَبَبَ ذلك أنَّ
المَأمونَ رأى أَرِسْطو في مَنامِه، وجادَلَه في مَسْألةٍ كَلاميَّةٍ، وتَمْضي الرِّوايةُ لتَدُلَّ على أنَّ تلك الرُّؤْيا كانَت مِن أوْكَدِ الأسْبابِ لإخْراجِ الكُتُبِ.
وأرْسَلَ
المَأمونُ إلى مَلِكِ الرُّومِ يَسْألُه إنْفاذَ ما يَخْتارُ مِن العُلومِ القَديمةِ المَخْزونةِ في بِلادِ الرُّومِ، فأجابَه بعْدَ امْتِناعٍ، فأوْكَلَ
المَأمونُ الأمْرَ إلى جَماعةٍ، مِنهم الحَجَّاجُ بنُ مَطَرٍ، وابنُ البِطْريقِ، وسَلَمٌ صاحِبُ بَيْتِ الحِكْمةِ، فاخْتاروا كُتُبًا مِمَّا وَجَدوها، ثُمَّ أمَرَهم
المَأمونُ بنَقْلِها، وقدْ عَمِلَ
المَأمونُ على تَطْويرِ خِزانةِ الحِكْمةِ الَّتي أنْشَأَها
الرَّشيدُ [319] ذكر ابنُ النديمِ في ((الفهرست)) (ص: 335) ما يُشيرُ إلى أنَّ هارونَ الرَّشيدَ كان قد أنشَأَ خِزانةَ الحِكمةِ، وذكر أنَّ أبا سهلٍ الفَضْلَ بنَ نوبَخْتَ كان من النَّقَلةِ فيها، وربط بين بَيتِ الحِكمةِ وبين المأمونِ؛ فقال: (... سَهلُ بنُ هارونَ صاحِبُ بَيتِ الحِكمةِ للمأمونِ ...). يُنظر: ((الفهرست)) لابن النديم (ص: 158). ، فجَعَلَها مُؤَسَّسةً عِلميَّةً عُرِفَتْ باسمِ "بَيْتِ الحِكْمةِ"، شأنُه شأنُ مَكْتبةِ الإسْكَندريَّةِ، وقدْ كانَ مُجْتمَعًا للعُلَماءِ؛ فقدِ اهْتَمَّ فَريقٌ مِنهم بنَقْلِ العُلومِ إلى العَربيَّةِ، وفَريقٌ آخَرُ اهْتَمَّ بالرَّصْدِ، وفَريقٌ آخَرُ اهْتَمَّ بالبَحْثِ والتَّأليفِ.
وقدْ تَبارى رِجالُ الدَّوْلةِ ووُجَهاؤُها في عَهْدِ
المَأمونِ في جَمْعِ الكُتُبِ وإجْراءِ الأرْزاقِ والعَطايا على النَّقَلةِ، فكانَ مِمَّن ذَهَبَ إلى بِلادِ الرُّومِ في تلك المَرْحلةِ الأبْناءُ الثَّلاثةُ لموسى بنِ شاكِرٍ المُنَجِّمِ؛ مُحَمَّدُ وأحْمَدُ والحَسَنُ، وأوْفَدوا حُنَينَ بنَ إسْحاقَ وغيْرَه إلى بِلادِ الرُّومِ، فجاؤوهم بطَرائِفِ الكُتُبِ وغَرائِبِ المُصنَّفاتِ في الفَلْسفةِ والهَنْدَسةِ والموسيقا والأَرْثَماطِيقَا والطِّبِّ
[320] يُنظر: ((الفهرست)) لابن النديم (ص: 301). ، وكانَ بَنو المُنَجِّمِ يُجْرونَ الأرْزاقَ على جَماعةٍ مِن النَّقَلةِ؛ مِنهم: حُنَيْنُ بنُ إسْحاقَ، وثابِتُ بنُ قُرَّةَ، وغيْرُهما، ويُعْطونَهم خَمْسَمِئةِ دينارٍ شَهْريًّا للنَّقْلِ والمُلازَمةِ
[321] يُنظر: (الفهرست)) لابن النديم (ص: 301، 302)، ((التَّعْريب في القديم والحديث)) لمحمد حسن عبد العزيز (ص: 90 – 92). .
المَرْحلةُ الثَّالِثةُ:تَبدَأُ مِن سَنَةِ 300هـ حتَّى مُنْتصَفِ القَرْنِ الرَّابِعِ الهِجْريِّ، وكانَ النَّقَلةُ في هذه المَرْحلةِ مُهْتَمِّينَ بنَقْلِ كُتُبِ المَنطِقِ والطَّبيعةِ.
ومِن كِبارِ النَّقَلةِ في هذه المَرْحلةِ متَّى بنُ يونُسَ، ومِن نُقولِه كِتابُ الكَوْنِ والفَسادِ بتَفْسيرِ الإسْكَنْدَرِ، وكِتابُ البُرْهانِ، وكِتابُ الشِّعْرِ، وغيْرُ ذلك، ومِنهم سِنانُ بنُ ثابِتِ بنِ قُرَّةَ، وكانَ طَبيبَ الخَليفةِ المُقْتَدِرِ، وإليه أوْكَلَ اخْتِبارَ الأطِبَّاءِ قبْلَ أن يُمارِسوا مِهْنةَ الطِّبِّ، وأشارَ على المُقْتدِرِ أن يُنشِئَ بيمارِسْتانًا، فأنْشَأَ المُقْتدِرُ البيمارِسْتانَ المُقْتدِريَّ، وله نُقولٌ ومُؤَلَّفاتٌ جَيِّدةٌ في عُلومِ الهَيْئةِ والنُّجومِ وأصولِ الهَنْدَسةِ
[322] يُنظر: ((التَّعْريب في القديم والحديث)) لمحمد حسن عبد العزيز (ص: 92). .
نَتائِجُ حَرَكةِ التَّرْجمةِ:أدَّتْ حَرَكةُ التَّرْجمةِ في العَصْرِ العبَّاسيِّ إلى وُجودِ مُصْطلَحاتٍ عِلميَّةٍ جَديدةٍ دَخَلَتِ اللُّغةَ العَربيَّةَ وأصْبَحَتْ مِن جُمْلةِ ألْفاظِها، وكانَت هذه المُصْطلَحاتُ صالِحةً للتَّعْبيرِ عن عُلومِ القُدَماءِ إجْمالًا، وهي اليَوْمَ تَصلُحُ لتُعبِّرَ عن بعضِ مَواضيعِ العُلومِ الحَديثةِ؛ فقدْ سَمَّوا بعضَ الأمْراضِ في الطَّبِّ، فقالوا: السَّرَطانُ، والذَّبْحةُ، والرَّبْوُ، والاسْتِسْقاءُ، والبَواسيرُ، ووَضَعوا أسْماءً عَديدةً لأعْيانِ المُفرَداتِ الطِّبِّيَّةِ مِمَّا لم تَعرِفْه العَربُ، فتَرْجَموا بعضَ الأسْماءِ الأعْجَميَّةِ بمَعانيها، مِثلُ: لِسانِ الثَّوْرِ، وأنْفِ العِجْلِ، وغيْرِ ذلك، وعَرَّبوا كَثيرًا مِن تلك الأسْماءِ، مِثلُ: الخِيارِ والباذِنْجانِ.
أمَّا في مَجالِ العُلومِ الرِّياضيَّةِ -كالجَبْرِ والهَنْدَسةِ والمُثَلَّثاتِ- فقدِ اتَّسَعَتِ العَربيَّةُ لجَميعِ مُصْطلَحاتِها، كالدَّائِرةِ والقُطْرِ والمُثَلَّثِ والمُرَبَّعِ، واتَّسَعَتْ لمُصْطلَحاتِ عِلمِ الطَّبيعةِ (الفيزياء)، وعَرَّبوا أسْماءَ بعضِ النُّجومِ، فنَقَلَها عُلَماءُ الفَلَكِ الأوْروبِّيُّونَ إلى لُغاتِهم، كما نَقَلوا أسْماءً عَربيَّةً كَثيرةً لنُجومٍ أُخرى.
وفي مَجالِ العُلومِ الفَلْسَفيَّةِ، فإنَّ العَربَ عنْدَما نَقَلوا كُتُبَ الفَلْسَفةِ والمَنطِقِ اليونانيَّةَ وَضَعوا لها ألْفاظًا اصْطِلاحيَّةً؛ الكَثْرةُ الكاثِرةُ مِنها عَربيٌّ، والقِلَّةُ مِنها مُعرَّبٌ، فكَلِمةُ (فَلْسَفةٍ) نفْسُها كَلِمةٌ مُعرَّبةٌ، واشْتَقُّوا مِنها فِعْلًا وهو: فَلْسَفَ، وكَلِماتُ: الأزَلِ والأبَدِ، والعِلَّةِ والمَعْلولِ، والكُلِّيِّ والجُزْئيِّ، كلُّها كَلِماتٌ عَربيَّةٌ، لها في الفَلْسَفةِ مَعانٍ اصْطِلاحيَّةٌ مَحْدودةٌ.
فإذا كانَتْ مُصْطلَحاتُ العُلومِ النَّقْليَّةِ -كالفِقْهِ والحَديثِ والتَّفْسيرِ وغيْرِها- جاءَت فَصيحةً ومَأخوذةً مِن صُلْبِ اللُّغةِ؛ لأنَّ واضِعيها كانوا على مَعْرِفةٍ تامَّةٍ بأسْرارِ اللُّغةِ العَربيَّةِ، مِثلُ مُصْطلَحاتِ: النَّحْوِ والصَّرْفِ والعَروضِ والبَديعِ والبَيانِ وغَيْرِ ذلك، إذا كانَ الأمْرُ كذلك بالنِّسْبةِ للعُلومِ النَّقْليَّةِ، فلم يكنِ الأمْرُ على هذه الشَّاكِلةِ في العُلومِ الدَّخيلةِ أو المَنْقولةِ مِن غيْرِ العَربِ؛ فكَثيرٌ مِن هذه العُلومِ كانَ مَجْهولًا، وكانَ يَصعُبُ إيجادُ ألْفاظٍ عَربيَّةٍ لمَوْضوعاتِها المُخْتلِفةِ، وهذا أدَّى إلى أنَّ نَقَلةَ العُلومِ عَرَّبوا كَثيرًا مِن الألْفاظِ الأعْجَميَّةِ؛ إمَّا لضَعْفِهم بالعَربيَّةِ، وإمَّا لاسْتِسْهالِهم
التَّعْريبَ، وإمَّا للأمْرَينِ معًا، فنَلحَظُ أنَّهم عَرَّبوا في البَدْءِ ألْفاظَ (أَرْثَماطيقيٍّ، وفِيزِيقيٍّ، وقاطِيغُورياسَ، وأُسْطُقُسٍّ)، وأشْباهِها، ثُمَّ لمَّا حَسُنَ اطِّلاعُهم على العَربيَّةِ، وتَعَمَّقوا في العُلومِ المَنْقولةِ، وزادوها مِن بُحوثِهم، اسْتَطاعوا إيجادَ المُقابِلِ العَربيِّ لها، قالوا: (الحِسابُ، والطَّبيعةُ، والمَقولاتُ، والعُنْصُرُ).
وكانَت لهم مَذاهِبُ في وَضْعِ المُصْطلَحاتِ العِلميَّةِ:- مُقابَلةُ اللَّفْظِ الأعْجَميِّ بلَفْظٍ عَربيٍّ يُؤدِّي مَعْناه دونَ تَغْييرٍ.
- تَحْويرُ المَعْنى اللُّغويِّ القَديمِ للكَلِمةِ العَربيَّةِ وتَضْمينُها المَعْنى العِلميَّ الجَديدَ.
- تَرْجمةُ المُصْطلَحِ الأعْجَميِّ بكَلِمةٍ أو عِبارةٍ عَربيَّةٍ تُؤدِّي مَعْناه.
- اشْتِقاقُ كَلِماتٍ جَديدةٍ مِن أصولٍ عَربيَّةٍ أو مُعرَّبةٍ للدَّلالةِ على المَعْنى الجَديدِ.
- تَعْريبُ المُصْطلَحِ الأعْجَميِّ
[323] يُنظر: ((المصطلحات العلمية)) لمصطفى الشهابي (ص: 19 - 24). .
مَذاهِبُ المُعرِّبينَ في تَعْريبِ الألْفاظِ الأعْجَميَّةِ:1- إخْضاعُ الأسْماءِ الأعْجَميَّةِ للأوْزانِ العَربيَّةِ:لمَّا كانَ إخْضاعُ الأسْماءِ الأعْجَميَّةِ للأوْزانِ العَربيَّةِ يَتَطلَّبُ إحْداثَ تَغْييراتٍ في بِنْيتِها تُبعِدُها عن أصْلِها، ولمَّا لم تَكُنْ ثَمَّةَ حاجةٌ كَبيرةٌ للمُعرِّبينَ أن يَشْتَقُّوا مِنها، فقدْ آثَروا الاحْتِفاظَ بصورتِها المَنْقولةِ معَ الاحْتِفاظِ بالحُروفِ العَربيَّةِ، ومُراعاةِ أمْرَينِ: ألَّا تَبدَأَ الكَلِمةُ بساكِنٍ، وألَّا يَتوالى ساكِنانِ في كَلِمةٍ، وتَسامَحوا في تَجاوُزِ الحَدِّ المَسْموحِ به للكَلِمةِ العَربيَّةِ، وهو سَبْعةُ أحْرُفٍ، مِثلُ: أُسْطُوخُودُسَ، وهِيُوفِسْطِيداسَ، وغيْرِ ذلك، بلْ إنَّ بعضَها كانَ نَقْلًا صَوْتيًّا لتَرْكيبٍ أعْجَميٍّ؛ مِثلُ: بُوش دَرَبَنْدِي الوارِدةِ عنْدَ ابنِ البَيْطارِ.
2- افْتِراضُ أصولٍ للألْفاظِ الأعْجَميَّةِ:إنَّ افْتِراضَ أُصولٍ للألْفاظِ الأعْجَميَّةِ -وإن كانَ فيه تَعَسُّفٌ- له مُسَوِّغاتُه عنْدَ عُلَماءِ الصَّرْفِ؛ ذلك أنَّ الكَلِمةَ الأعْجَميَّةَ إمَّا أن يُحْتفَظَ لها بصورتِها في لُغتِها الأصْلِ، ومِن ثَمَّ فلن تَخضَعَ لعَمليَّةِ الاشْتِقاقِ أو التَّصْريفِ، وإمَّا أن يُتَصرَّفَ فيها بصَقْلِها على الأوْزانِ العَربيَّةِ، وحينَئذٍ يُشتَقُّ مِنها ويُتَصرَّفُ فيها.
والمُعَرِّبونَ -غالِبًا- أخْضَعوا الألْفاظَ الَّتي أرادوا الاشْتِقاقَ مِنها لصيغتَيْ (فَعَّل) و(فَعْلَل)، مِثلُ: فَلْسَفَ، وهَنْدَسَ، وهَنْدَمَ، وبَلْوَرَ، وزَيْبقَ، وغيْرِ ذلك.
والمُلاحَظُ أنَّه قَلَّما لَجَأ المُعرِّبونَ في العَصْرِ العَبَّاسيِّ إلى الاشْتِقاقِ مِن أسْماءِ الأعْيانِ الأعْجَميَّةِ.
3- تَرْتيبُ المَداخِلِ المُعرَّبةِ:جَمَعَ
ابنُ سينا المُصْطلَحاتِ الخاصَّةَ بالأعْيانِ النَّباتيَّةِ والحَيوانيَّةِ والمَعدِنيَّةِ، وصَنَعَ مِنها مُعجَمًا في الجُزْءِ الأوَّلِ مِن كِتابِه
((القانون))، وأفْرَدَ ابنُ البَيْطارِ كِتابًا لِهذه الأعْيانِ، وهو كِتابُ
((الجامِع في مُفرَداتِ الأدْويةِ والأغْذِيةِ))، وإذا نَظَرْنا إلى ما فَعَلَه
ابنُ سينا -مَثَلًا- في مُعالَجةِ الألْفاظِ الأعْجَميَّةِ، نَراه خِلافَ ذلك؛ إذْ عَدَّ حُروفَ الكَلِمةِ الأعْجَميَّةِ كلَّها أصولًا، ولم يُلحِقْها بجُذورٍ عَربيَّةٍ، أو يَفْترِضْ لها أصْلًا مِن لَفْظِها؛ كطَريقةِ المُعجَميِّينَ والصَّرْفيِّينَ؛ ف
ابنُ سينا وَزَّعَ المَداخِلَ في ثَمانيةٍ وعِشْرينَ حَرْفًا مُرَتَّبًا تَرْتيبَ (أبْجَدْ هَوَّز ...)، لكنَّه وَقَفَ عنْدَ هذا الحَدِّ ولم يُرَتِّبِ الكَلِماتِ في كلِّ فَصْلٍ أيَّ تَرْتيبٍ
[324] يُنظر: ((التَّعْريب في القديم والحديث)) لمحمد حسن عبد العزيز (ص: 155 – 158). .
فائِدةٌ:اضْطَرَبَ المُعرِّبونَ في رَسْمِ (كِتابةِ) الكَلِماتِ الأعْجَميَّةِ، ويَرجِعُ هذا الاضْطِرابُ إلى أسْبابٍ؛ مِنها:
1- أنَّهم لم يَتَواطَؤوا على مَنهَجٍ مُحدَّدٍ في رَسْمِ الكَلِماتِ الأعْجَميَّةِ.
2- أنَّ النَّاسِخينَ لم يُراعوا الدِّقَّةَ المَطْلوبةَ في النَّسْخِ، فحَرَّفوا كَثيرًا مِن هذه الأسْماءِ.
3- اسْتِخْدامُ النَّقْط أو عَلاماتِ الشَّكْلِ لم يَكُنْ مُطَّرِدًا
[325] يُنظر: ((التَّعْريب في القديم والحديث)) لمحمد حسن عبد العزيز (ص: 155). .