الفَصلُ السَّابع: أبو زَكَرِيَّا الفَرَّاء (ت: 207 هـ)
أبو زَكَرِيَّا يَحْيَى بن زِياد بن عبد الله بن مَنْظُور، الأَسَدِي مَوْلاهُم، الكُوفِي، النَّحْويُّ اللُّغَويُّ، المفسِّر، صاحِبُ التصانيفِ، صَاحِبُ
الكِسَائِي.
مِن مشايخِه:عليُّ بنُ حَمْزة الكِسَائِي، والقاسمُ بنُ معن، و
سفيانُ بنُ عيينة، وقَيْس بن الرَّبِيع، ومَنْدَل بن عليٍّ، وأبو الأَحْوَص، وأبو بكرِ بنُ عيَّاشٍ.
ومِن تَلامِذَتِه:سَلَمَةُ بنُ عَاصِم، ومُحَمَّدُ بنُ الجَهْم السِّمَّرِي، وعمرُ بن بكير.
سَبَبُ تَسْمِيَتِه بالفَرَّاء:سُمِّي بذلك؛ لأنه كان يُحْسِنُ نَظْمَ المسَائِل؛ فَشُبِّه بالخَارِز الذي يَخْرُز الأديمَ -الجِلد-. وقيل: لأنَّه كان يَفْري -يَقْطَع- خُصُومَه في المُنَاظَرَة والكَلَام، أو لأَنَّهُ كان يَفْرِي الكَلامَ
[126] تَقُولُ العَرب: تَركْته يَفْرِي الفَرِيَّ: إِذَا عَمل العَمل فأجادَه. يُنظر: ((النهاية في غريب الحديث)) (3/ 442). .
مَنزِلتُه ومكانتُه:كان الفَرَّاءُ إمامًا في العَرَبيَّة، عالِمًا بأيَّامِ العَرَب وأخْبَارِها وأشْعَارِها، فقيهًا، عارفًا بالطِّبِّ والنُّجُوم، وقد لُقِّب بأميرِ المؤمنين في النَّحْو؛ لعِظَم مَكَانَتِه ومَنْزِلَتِه بيْن عُلَمَاء اللُّغَة؛ قيل فيه: (لولا الفَرَّاءُ لَمَا كانت عربيَّةٌ!)؛ لأنَّ الفَرَّاء هَذَّبَها وضَبَطَها.
ومِن أقواله المَشْهُورَة: (أموت وفي نفسي شيءٌ من «حتَّى»؛ لأنَّها تخفِضُ وتنصِبُ وترفَعُ).
عَقيدتُه:كان الفَرَّاءُ مُتكلِّمًا يَميل إلى الاعْتِزَالِ، ولم تكنْ طريقتُه في تَفْسِيرِ القرآنِ محمودةً؛ فكان
الإمامُ أحمَدُ بنُ حَنبَلٍ رحمه الله يُنكِرُ ذلك على الفَرَّاءِ ومَن كان على طريقتِه، حتى قال
الإمامُ أحمدُ: (كنتُ أحْسَبُ الفَرَّاءَ رَجُلًا صَالِحًا حتى رأيتُ كِتَابَه في معاني القُرآنِ)
[127] ينظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (16/ 155). .
وقدِ اضطَرَب كَلامُ الفَرَّاءِ في تفسيرِه بينَ إثباتِ الصِّفاتِ وتأويلِها؛ فمَّما أثبَتَه مِن الصِّفاتِ مَجيءُ اللهِ سُبحانه يومَ القيامةِ؛ قال في تفسيرِه لِقَولِه تعالى:
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ [الأنعام: 158] : (تَأتِيَهم الملائكةُ لقَبضِ أرواحِهم، أو يأتِيَ ربُّكَ: القيامة، أو يأتِيَ بعضُ آياتِ ربِّك: طُلوعُ الشَّمسِ مِن مَغرِبها)
[128] ينظر: ((معاني القرآن)) للفراء (1/ 366). ، وذكَر في تفسيرِ قولِه تعالى:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس: 26] أثرًا عن
أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ t أنَّه فسَّرها برُؤيةِ وَجهِ الرَّبِّ تبارَك وتعالَى
[129] ينظر: ((معاني القرآن)) للفراء (1/ 461). .
وقال
السَّمعانيُّ في تَفسيرِ قولِه تعالى:
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء: 164] : (قال الفرَّاءُ وثَعلبٌ: إنَّ العَرَبَ تُسَمِّي ما تَوصَّلَ إلى الإنسانِ: كَلامًا، بأيِّ طَريقٍ وصَل إليهِ، ولكنْ لا تُحَقِّقه بالمَصْدرِ، فإذا حُقِّقَ الكلامُ بالمَصْدَرِ، لم تكُنْ إلَّا حقيقةُ الكلامِ، وهذا كالإرادةِ، يُقالُ: أراد فُلانٌ إرادةً، فيكونُ حَقيقةَ الإرادةِ، ولا يُقالُ: أرادَ الجِدارَ أنْ يَسقُطَ إرادةً، وإنَّما يُقالُ: أرادَ الجِدارَ، مِن غيرِ ذِكرِ المصدَرِ؛ لأنَّه مَجازٌ، فلمَّا حقَّق اللهُ كَلامَه مُوسَى بالتَّكليمِ، عُرِف أنَّه حَقِيقةُ الكلامِ مِن غيرِ واسِطةٍ. قال ثَعْلبٌ: وهذا دَليلٌ مِن قَولِ الفرَّاءِ أنه ما كان يقولُ بخَلقِ القُرآنِ)
[130] ينظر: ((تفسير السمعاني)) (1/ 503). .
وممَّا خالَفَ فيه مَذهَبَ السَّلَفِ تَفسيرُه قولَه سبحانه:
وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى[نوح: 4] ، قال: (مُسَمًّى عندَكم تَعرِفونَه، لا يُميتُكم غَرَقًا ولا حَرَقًا ولا قَتْلًا، وليس في هذا لأهلِ القَدَرِ حُجَّةٌ؛ لأنَّه إنما أراد مُسَمًّى عِندَكم)
[131] ينظر: ((معاني القرآن)) للفراء (3/187). ، وقال في قولِه عزَّ وجلَّ:
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام: 61] : (كلُّ شيءٍ قَهَر شيئًا فهو مُسْتَعلٍ عليهِ)
[132] ينظر: ((معاني القرآن)) للفراء (1/329). .
مُصنَّفاتُه:مِن مُصَنَّفَاتِه: كتاب: ((اللُّغَات))، كتاب: ((المقصور والممدود))، كتاب: ((المذكَّر والمؤنَّث))، كتاب: ((مُشْكِل اللُّغَة الكَبِير))، وكتاب: ((المُشْكِل الصَّغِير))، وكتاب: ((اختلافُ أهلِ الكوفةِ والبَصرةِ والشَّام في المصاحِفِ))، وكتاب: ((المصادِر في القُرآنِ))، وكتاب: ((الوقف والابتداء))، وكتاب: ((الجمع والتثنية في القرآن))، وكتاب: ((النَّوادر))، وكتاب: ((يافع ويافعة))، وكتاب: ((الحدود)) -ألَّفه بأمرِ
الخليفةِ المأمون-، وكتاب: ((معاني القرآن))؛ وكان سَبَبَ إملائه له: أنَّ أحَدَ أصحابِه -وهو عُمَر بن بكير- كان يَصْحَب الحَسَن بن سَهْل، فكتب إلى الفَرَّاء: (إنَّ الأميرَ الحَسَنَ لا يزالُ يسألُني عن أشياءَ من القرآنِ لا يحضُرُني عنها جوابٌ، فإن رأيت أن تجمَعَ لي أصولًا وتجعَلَ ذلك كِتَابًا يُرْجَع إليه فعلتَ. ففَعَل).
وفاتُه:تُوفِّي سنة (207 هـ) سبع ومائَتَينِ وهو في طريقِه للحَجِّ، وقد بلغ ثلاثًا وستين سنةً
[133] يُنظَر: ((طبقات النحويين واللغويين)) لمحمد بن الحسن الزُّبَيدي (ص 131)، ((تاريخ العلماء النحويين)) للتَّنُوخي (ص 187)، ((نزهة الألباء في طبقات الأدباء)) لكمال الدين الأنباري (ص 81)، ((معجم الأدباء)) لياقوت الحَمَوي (6/ 2812)، ((إنباه الرواة على أنباه النحاة)) للقِفْطي (4/ 7)، ((وفيات الأعيان)) لابن خَلِّكان (6/ 176)، ((مجموع الفتاوى)) (16/ 155)، ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (5/ 141)، ((البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة)) للفيروزابادي (ص 313) .