الفَصلُ الثَّالِثَ عَشَرَ: أَبُو المُظَفَّرِ ابنُ هُبَيْرَةَ الوَزِيرُ (ت 560 هـ)
أَبُو المُظَفَّرِ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هُبَيْرَةَ بن سَعِيد بن الحَسَن بن أحمد بن الحَسَن الشَّيْبَانِي، البَغْدَادِيُّ الحَنْبَليُّ، الوَزِيرُ عَوْن الدِّين، الأَدِيبُ، النَّحويُّ، اللُّغَويُّ، المُفَسِّرُ.
مَوْلِدُه:وُلِد بالعِرَاق سَنةَ تِسعٍ وتسعين وأربَعِ مِائة.
مِن مَشَايِخِه:أبو القَاسِم هِبَةُ اللهِ بنُ الحُصَين، وأبو غَالِب ابنُ البَنَّا، وأبو الحُسَين ابن القَاضِي أبي يَعْلى.
مَنْزِلَتُه وَمَكَانَتُه:كان ابنُ هُبَيْرَة رحمه الله مُؤَرِّخًا، فَقِيهًا، عالِمًا باللُّغَة العَرَبِيَّة وعُلُومِها، دَيِّنًا، خَيِّرًا، مُتَعَبِّدًا، عَاقِلًا، وَقُورًا، مُتَوَاضِعًا، جَزْلَ الرَّأي.
دَخَل بَغْدَاد شَابًّا، وتَفَقَّه على مَذْهَب
الإمامِ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ رحمه الله، وسمع الحديثَ، وقرأ القراءاتِ، وكان يعاني من الفَقرِ فعَمِلَ كاتبًا، وتَقَدَّم وتَرَقَّى حتى وَلِي ديوانَ الزمامِ للخَليفةِ المقتفي لأمرِ اللهِ، ثم وَزَرَ له في سَنةَ 544، ووَزَر مِن بَعْدِه لابنِه المُسْتَنْجِد.
وكان رحمه الله من خِيَار الوُزَرَاء وأَحْسَنِهِم سِيرَةً، حَرِيصًا على اتِّبَاع الصَّوَاب، حَذِرًا مِن الظُّلْم، على مَذْهَبِ السَّلَف في الاعْتِقَاد، بارًّا بالعُلَمَاء، مُكِبًّا مع أَعْبَاء الوِزَارَة على العِلْم وتَدْوِينِه.
وكان يُكْثِر مُجَالَسِةَ العُلَمَاء والفُقَرَاء، وَيَبْذُلُ لَهُم الأَمْوَال، فَكَانَت السَّنَة تَدُور وعَلَيْه دُيُون، وكان يقول: (ما وَجَبَتْ عَلَيَّ زَكَاةٌ قَطُّ!).
وكان إذا اسْتَفَاد شَيْئًا مِن العِلْم قال: (أَفَادَنِيهِ فُلَان).
وكان الخليفةُ المقتفي مُعْجَبًا به، وكان يقولُ: (ما وَزَر لبني العبَّاس مِثلُه).
ولَمَّا اسْتُخْلِف المُسْتَنْجِد دَخَل ابنُ هُبَيْرَة عَلَيْه، فَقَال: (يَكْفِي في إخْلَاصِي أَنِّي ما حَابَيْتُك في زَمَنِ أبَيِك. فَقَال له: صَدَقْتَ).
ومِن مَواقِفِه وأخْلَاقِه:- كان يُقْرَأ عِنْده الحَدِيثُ كُلَّ يَوْم بَعْد العَصْر، فَحَضَر فَقِيهٌ مَالِكيٌّ، فَذُكِرت مَسْأَلة، فَخَالَف فيها هذا الفَقِيهُ الجَمِيعَ، وأَصَرَّ على رَأْيِه. فقال له الوَزْيرُ ابنُ هُبَيْرَة: (أحِمَارٌ أَنْت؟! أَمَا تَرَى الكُلَّ يُخَالِفونَك؟! فلمَّا كان مِن الغَدِ قال للجَمَاعَة: إنه جَرَى مَنِّي بَالأَمْسِ في حَقِّ هَذَا الرَّجُلِ ما لَا يَلِيقُ، فَلْيَقُلْ لي كما قُلْتُ لَه، فَمَا أنا إلَّا كَأَحَدِكُم. فَضَجَّ المَجْلِسُ بالبُكَاءِ، واعْتَذَر الفَقِيهُ، فقال: أنا أَوْلَى بالاعْتِذَارِ. وجعل الوَزِيرُ يقولُ: القِصَاصَ القِصَاصَ. فَلَمْ يَزَل كَذَلِك حَتَّى قَال يُوسُفُ الدِّمِشْقِي: إِذْا أَبَى القِصَاصَ فَالفِدَاءُ. فَقَال الوَزِير: لَه حُكْمُه.
فقال الفقيه: نِعَمُك عَلَيَّ كَثِيرَة، فَأْيُّ حُكْمٍ بَقِيَ لِي؟
قال: لا بُدَّ.
قال: عَلَيَّ دَيْنٌ مِائةُ دِينَارٍ.
فَأَعْطَاه مِائتي دِينَارٍ، وقال: مِائةٌ لإبْرَاءِ ذِمَّتِه، ومِائةٌ لإبْرَاء ذِمَّتِي).
ومِن أَقْوَالِه:- ((واللهِ ما نَتْرُكُ أَمِيرَ المؤمنين عَلِيَّ بنَ أبي طالب مع الرَّافِضَة، نَحْن أَحَقُّ به مِنْهُم؛ لأنَّه منَّا ونَحْن منه، ولا نَتْرُكُ
الشَّافِعِيَّ مع
الأَشْعَرِيَّة فإنَّا أحَقُّ به منهم))
[502] ينظر: ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب (2/ 156). .
- (مِن مَكَايد
الشَّيْطَان تَنْفِيره عِبَادَ الله مِن تَدَبُّر القُرْآن؛ لعِلْمِه أنَّ الهُدَى وَاقِعٌ عند التَّدَبُّر).
مُصَنَّفَاتُه:مِن مُصَنَّفَاتِه: كتاب: ((الإفْصَاح عن مَعَانِي الصِّحَاح)) -شَرَح فيه صحيحَي: "
البخاري و
مسلم" في عَشَرةِ مجلَّدات-، وكتاب: ((العبادات على مَذْهَب أحمَدَ بنِ حَنبَلٍ))، وكتاب: ((الإِشْرَاف على مَذَاهِب الأَشْرَاف))، وكتاب: ((تلخيص إصلاح المنطق)) لابن السِّكِّيت، وأرجوزة في "الخَطِّ"، وأرجوزة في "المقصور والممدود".
عَقيدتُه:قال
الذَّهبيُّ: ((وكان مُشَدِّدًا في السُّنَّةِ واتِّباعِ السَّلَفِ))
[503] ينظر: ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (12/ 187). ، ((سَلَفِيًّا أَثَرِيًّا))
[504] ينظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (20/426). .
وقد ظهر في مُصَنَّفاتِه ما يدُلُّ على ذلك، كقَولِه:
((الإجماعُ انعقد على جوازِ روايةِ هذه الأحاديثِ وإمرارِها كما جاءت، مع الإيمانِ بأنَّ اللهَ تعالى ليس كمِثْلِه شيءٌ وهو السَّميعُ البصيرُ، وأنَّه أحدٌ صَمَدٌ، لم يَلِدْ ولم يُولَدْ، ولم يكُنْ له كُفُوًا أحدٌ، وينبغي لكُلِّ مؤمِنٍ أن يكونَ مثبِتًا لله سُبحانَه مِنَ الصِّفاتِ ما أثبَتَه له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ونافيًا عنه مِن مُشابهةِ الأجسامِ ما نفاه القُرآنُ والسُّنَّةُ. والقاعِدةُ في هذا الحديثِ أنَّ السَّمواتِ والأرضَ في يَدِ اللهِ سُبحانَه، وفي قَبضتِه لا يفوتُه منها شيءٌ، ولا يخفى عن عِلْمِه منها شيءٌ، ولا يَعزُبُ عن قُدرتِه منها قليلٌ ولا كثيرٌ)) [505] ينظر: ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) لابن هبيرة (4/ 71). .
وقال أيضًا: ((فأمَّا الإيمانُ فأصلُه التصديقُ وهو دَرَجاتٌ، ومذهَبُ أهلِ السُّنَّةِ أنَّه قولٌ وعَمَلٌ))
[506] ينظر: ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) لابن هبيرة (1/ 323). .
وقال: ((وفيه أيضًا ما يدُلُّ على أنَّ الإنسانَ بمُقارفةِ الذَّنبِ لا يخرُجُ من الإيمانِ))
[507] ينظر: ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) لابن هبيرة (1/ 190). .
ومِن أقوالِه المأثورةِ عنه: ((واللهِ ما نَتْرُكُ أميرَ المؤمِنينَ عَلِيَّ بنَ أبي طالبٍ مع الرَّافِضَةِ، نَحْن أَحَقُّ به مِنْهُم؛ لأنَّه منَّا ونَحْن منه، ولا نَتْرُكُ
الشَّافِعِيَّ مع
الأَشْعَرِيَّة؛ فإنَّا أحَقُّ به منهم))
[508] ينظر: ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب (2/ 156). .
وَفَاتُه:تُوفِّي رحمه الله ببغدادَ سَنةَ ستين وخَمسِ مِائة. وغَسَّله
الإمامُ ابنُ الجَوْزِيِّ رحمه الله. وقَدْ حَضَرَ جِنَازَتَهُ رحمه الله خَلْقٌ كَثِيرٌ جِدًّا، وَغُلِّقَتِ الأَسْوَاق، وَتَبَاكَى النَّاسُ عَلَيْه؛ لِمَا كان يَفْعَلُه مِن البِرِّ والعَدْل، وَدُفِنَ بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي أَنْشَأَهَا بِبَابِ البَصْرَة، وقَدْ رَثَاهُ الشُّعَرَاءُ بِمَرَاثٍ كَثِيرَةٍ
[509] يُنظَر: ((المنتظم في تاريخ الأمم والملوك)) لابن الجوزي (18/ 166)، ((وفيات الأعيان)) لابن خَلِّكان (6/ 230)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (20/ 426)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (16/ 415)، ((ذيل طبقات الحنابلة)) لابن رجب الحنبلي (2/ 156)، ((شذرات الذهب)) لابن العماد الحنبلي (10/ 18)، ((الأعلام)) للزركلي (3/ 238)، ((معجم المؤلفين)) لعمر كحالة (13/ 228). .