المَطلَبُ الثَّامِنُ: دَواوينُ القَبائِلِ
اهْتمَّ الرُّواةُ والعُلَماءُ بجَمْعِ أخْبارِ القَبائِلِ وأشْعارِ شُعَرائِهم، وما يَتَّصِلُ بذلِك مِن أنْسابٍ وقِصَصٍ وأحاديثَ، فتُجمَعُ آثارُ كلِّ قَبيلةٍ وأشْعارُها على حِدَةٍ، ويُسمَّى ذلك "ديوانًا" أو "كِتابَ أشْعارٍ".
وقد كَثُرَتْ تلك الدَّواوينُ حتَّى عَدَّ ابنُ النَّديمِ في الفِهْرِسْتِ تِسْعةً وعِشرينَ ديوانًا مِن دَواوينِ الشِّعْرِ الجاهِليِّ، جمَعَها كلَّها إلَّا ديوانًا واحِدًا أبو سَعيدٍ السُّكَّريُّ، وجمَعَ ذلِك الدِّيوانَ المُسْتَثْنى خالدُ بنُ كُلْثومٍ الكَلْبيُّ
[119] يُنظر: ((الفهرست)) لابن النديم (ص: 91، 193). .
كما ذَكَرَ الآمِديُّ في كِتابِه "المُؤْتلِف والمُخْتلِف" سِتِّينَ ديوانًا مِن دَواوينِ أشْعارِ القَبائِلِ، لم يُنسَبْ مِنها غيْرُ ديوانِ التَّغْلبيِّينَ لابنِ جُعَيلٍ التَّغْلبيِّ، وديوانِ بَني الرِّبابِ للمُفَضَّلِ الضَّبِّيِّ وحَمَّادٍ.
هذا فَضْلًا عمَّا لم يَذْكُراه وطالَتْه أيادي التَّلَفِ والنِّسيانِ.
بَيْدَ أنَّنا لم نَقِفْ على شيءٍ مِن تلك الدَّواوينِ إلَّا شيئًا يَسيرًا مِن ديوانِ الهُذَليِّينَ، بدَليلِ أنَّ
الشَّافعيَّ كانَ يَحفَظُ مِن أشْعارِ الهُذَليِّينَ عشَرةَ آلافِ بَيْتٍ
[120] يُنظر: ((توالي التأنيس بمعالي ابن إدريس)) لابن حجر (ص: 137). ، وليس في المَوْجودِ مِن الدِّيوانِ ثُلُثُ هذا العَدَدِ
[121] يُنظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (1/ 180)، ((قصة الأدب في الحجاز)) لعبد الله عبد الجبار ومحمد عبد المنعم خفاجي (ص: 373). .
ورَغْمَ هذا كلِّه فقدْ قال
ابنُ قُتَيْبةَ: (والشُّعَراءُ المَعْروفونَ بالشِّعْرِ عنْدَ عَشائِرِهم وقَبائِلِهم في الجاهِليَّةِ والإسلامِ أَكْثَرُ مِن أن يُحيطَ بهم مُحيطٌ، أو يَقِفَ مِن وَراءِ عَدَدِهم واقِفٌ، ولو أنْفَدَ عُمُرَه في التَّنْقيرِ عنهم، واسْتَفْرغَ مَجْهودَه في البَحْثِ والسُّؤالِ، ولا أحسَبُ أحَدًا مِن عُلَمائِنا اسْتَغْرقَ شِعْرَ قَبيلةٍ حتَّى لم يَفُتْه مِن تلك القَبيلةِ شاعِرٌ إلَّا عرَفَه، ولا قَصيدةٌ إلَّا رَواها)
[122] ((الشعر والشعراء)) لابن قتيبة (1/ 61). .
هذا فَضْلًا عنِ المَصادِرِ الَّتي لم تَعمِدْ إلى الحَديثِ عن الشِّعْرِ الجاهِليِّ، وإنَّما جاءَ ذلك عَرَضًا فيها، مِثلُ كُتُبِ التَّاريخِ والبَلاغةِ، والتَّراجِمِ والطَّبَقاتِ واللُّغةِ، وقد سبَقَ الحَديثُ عنها في بَيانِ مَصادِرِ الأدَبِ.
وأيضًا مِن الكُتُبِ الجيِّدةِ -غيْرَ ما سبَقَ- الَّتي تَشتمِلُ على شِعْرٍ جاهِليٍّ الَّذي قيلَ في أيَّامِ العَربِ، وحَذا حَذْوَه مَن كتَبوا في أيَّامِ العَربِ، مِثلُ
ابنِ الأثيرِ في كامِلِه، وكذلك الكُتُبُ التُّراثيَّةُ الجيِّدةُ الَّتي تَحْوي بيْنَ دَفَّتَيها شِعْرًا جاهِليًّا، وهناك كُتُبٌ أُلِّفَتْ في البَصْرةِ، مِثلُ: البَيانِ والتَّبْيينِ للجاحِظِ، والأمالي لأبي عليٍّ القالي، وهناك أشْعارٌ جاهِليَّةٌ في كُتُبِ النَّقْدِ، مِثلُ: نَقْدِ الشِّعْرِ لقُدامةَ، والوَساطةِ بيْنَ
المُتَنبِّي وخُصومِه للقاضي عليِّ بنِ عبْدِ العَزيزِ الجُرجانيِّ، وهناك كُتُبٌ مُتأخِّرةٌ احْتَفظَتْ ببعضِ ما فُقِدَ مِن الرِّواياتِ القَديمةِ؛ مِنها: "خِزانةُ الأدَبِ" لعبْدِ القادِرِ البَغْداديِّ، الكافِيَةِ ل
ابنِ الحاجِبِ، وفيه تَراجِمُ دَقيقةٌ لشُعَراءِ العَصْرِ الجاهِليِّ، وتَعْليقاتٌ على شِعْرِهم معَ الإشارةِ إلى مَصادِرِه التُّراثيَّةِ في كُتُبِ الَّذين سبَقوه مِن العُلَماءِ والرُّواةِ، وقد قامَ على تَحقيقِ هذا الكِتابِ ونَشْرِه بصورةٍ عِلميَّةٍ دَقيقةٍ العالِمُ المُحقِّقُ الشَّيخُ عبْدُ السَّلامِ هارون عليه رَحمةُ اللهِ، وصنَعَ فَهارِسَه بطَريقةٍ تُمكِّنُ الدَّارِسينَ والباحِثينَ مِن الرُّجوعِ إليه عنْدَ الحاجةِ
[123] ينظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (1/181). .