المَبحَثُ الثَّامِنُ: شَياطينُ الشُّعَراءِ
تَزعُمُ العَربُ أنَّ معَ كلِّ شاعِرٍ فَحْلٍ شَيْطانًا يقولُ على لِسانِه، وكأنَّ في شِعْرِهم أحْرُفًا ناريَّةً، تُلقي بها الجِنُّ على ألْسِنتِهم، وأنَّهم إنَّما يَتَناوَلون مِن الغَيْبِ، فهُمْ فوقَ أن يُعَدُّوا مِن النَّاسِ ودونَ أن يُحْسَبوا مِنَ الجِنِّ
[133] ينظر: ((تاريخ آداب العرب)) للرافعي (3/41). .
وانْتَشرَتْ هذه الخُرافةُ فيما بيْنَهم، وكانَ بعضُ شُعَرائِهم يَفخَرُ بذلِك
قال أبو النَّجْمِ:
إِنِّي وكُلَّ شاعِرٍ مِن البَشَرْ
شَيْطانُه أُنْثى وشَيْطاني ذَكَرْ
[134] يُنظر: ((الحيوان)) للجاحظ (1/198)، ((الشعر والشعراء)) لابن قتيبة (2/588)، ((محاضرات الأدباء)) للراغب الأصفهاني (2/664). وسمَّى العَربُ هذه الشَّياطينَ بأسْماءٍ؛ فزعَموا أنَّ للمُخبَّلِ كَعْبِ بنِ عبْدِ اللهِ القَيْسيِّ شَيْطانًا يُملي عليه الشِّعْرَ اسمُه عُمَرُ، ولامْرِئِ القَيْسِ شَيْطانًا اسمُه لافِظُ بنُ لاحِظٍ، وهَبيدٌ صاحِبُ عَبيدِ بنِ الأبْرَصِ وبِشْرِ بنِ أبي خازِمٍ، وكانوا يقولون: لولا هَبيدٌ ما كانَ عَبيدٌ، وهاذِرُ بنُ ماهِرٍ صاحِبُ النَّابِغةِ الذُّبْيانيِّ، وجُهُنَّامٌ صاحِبُ عَمْرِو بنِ قَطَنٍ، ومُدرِكُ بنُ واغِمٍ صاحِبُ الكُمَيْتِ؛ وأنَّ الأعْشى معَه شَيْطانٌ اسمُه مِسْحَلٌ، وقد ذَكَرَ الأعْشى شَيْطانَه بقولِه:
حَباني أخي الجِنِّيُّ نفْسي فِداؤُهُ
بأفيحَ جَيَّاشِ العَشيَّاتِ مِرجَمِ
[135]بيتٌ مِن الطَّويل للأعشى ميمون بن قيس في ديوانه (ص: 125). ويُنظر: ((الحيوان)) للجاحظ (7/433). وذُكِرَ أنَّ رَجُلًا أتى
الفَرَزْدَقَ فقالَ: إنِّي قلتُ شِعْرًا فانْظُرْه. قالَ: أنْشِدْ، فقالَ:
ومِنهمُ عَمْرٌو المَحْمودُ نائِلُهُ
كأنَّما رَأْسُهُ طينُ الخَواتيمِ
قالَ: فضَحِكَ
الفَرَزْدَقُ ثُمَّ قالَ: يا بنَ أخي، إنَّ للشِّعْرِ شَيَطانينَ؛ يُدْعى أحَدُهما الهَوْبرَ، والآخَرُ الهَوْجَلَ، فمَن انْفَردَ به الهَوْبَرُ جادَ شِعْرُه وصَحَّ كَلامُه، ومَن انْفَردَ به الهَوْجَلُ فَسَدَ شِعْرُه، وإنَّهما قدِ اجْتَمَعا لك في هذا البَيْتِ، فكانَ معَك الهَوْبَرُ في أوَّلِه فأجَدْتَ، وخالَطَك الهَوْجَلُ في آخِرِه فأفْسَدْتَ
[136] ينظر: ((جمهرة أشعار العرب)) لأبي زيد القرشي (ص:63). !
ورَوى بعضُهم أنَّ الجِنِّيَّ (الهَبيدَ) افْتَخرَ بأنَّه يُملي الشِّعْرَ ويَقذِفُه في أفْواهِ الشُّعَراءِ فقالَ:
أنا ابنُ الصَّلادِمِ أُدْعى الهَبيدَ
حَبَوتُ القَوافيَ قَرْمَيْ أسَدْ
عَبيدًا حَبَوتُ بمأْثُورةٍ
وأَنْطَقْتُ بِشْرًا على غيْرِ كَدْ
ولاقى بمُدرِك رَهْط الكُمَيتِ
مَلاذًا عَزيزًا ومَجْدًا وَجَدْ
مَنحناهُمُ الشِّعرَ عن قُدرَةٍ
فهلْ تَشكُرُ اليَومَ هذا مَعَدْ
[137] ينظر: ((طبقات فحول الشعراء)) لابن سلام الجمحي (48). يُريدُ بعَبيدٍ: عَبيدَ بنَ الأبْرَصِ، وبمُدرِكٍ: مُدرِكَ بنَ أسَدٍ، جِنِّيَّ الكُمَيْتِ.
والَّذي حمَلَ الشُّعَراءَ على القولِ بذلِك هو تَوْكيدُ الثِّقةِ والاعْتِدادُ بأنْفُسِهم، وإلى الذَّهابِ بالنَّفْسِ ونُفْرةِ الأَنَفِ؛ فإنَّ عُمومَ النَّاسِ إذا علِموا بذلِك أكْبَروهم، وانْقادوا لشِعْرِهم، وعجَزوا عن مُجاراتِهم أو الاسْتِخفافِ بشِعْرِهم.
وقد أخَذوا تلك الفِكرةَ مِن الكُهَّانِ؛ فإنَّهم كانوا يَزعُمونَ أنَّ لكلِّ كاهِنٍ جِنِّيًّا يُسمَّى الرَّئِيَّ والتَّابِعَ، فاتَّبَعَهم الشُّعَراءُ في ذلك.
ورُبَّما حمَلَتْ طَبيعةُ الشِّعْرِ الشُّعَراءَ على أنَّ يُصدِّقوا ذلِك؛ فإنَّ الشَّاعِرَ غَداةَ يَرهُفُ حِسُّه وتَأتيه مادَّةُ الشِّعْرِ، يَشعُرُ أنَّ تَفاعُلًا رُوحيًّا بيْنَ نفْسِه ونفْسٍ أخرى حادِثٌ، يَشعُرُ به في هذا الوَقْتِ فحسْبُ؛ ولِهذا رُبَّما ظَنَّ أنَّ قُوَّةً خَفيَّةً تُملي عليهم الشِّعْرَ، وأنَّه ليس بمَقْدورِ البَشَرِ أن يَأتوا بمِثلِ هذا النَّوْعِ مِن البَيانِ الرَّفيعِ
[138] ينظر: ((تاريخ آداب العرب)) للرافعي (3/41). .
ولانْتِشارِ الخُرافاتِ في البيئةِ العَربيَّةِ الَّتي لا يَضبِطُها ضابِطٌ دينيٌّ ظنَّ النَّاسُ هذا الظَّنَّ عنْدَما سمِعوا فُحولَ الشُّعَراءِ تَهدِرُ شَقاشِقُهم بأبْلَغِ البَيانِ وتَرمي أفْواهُهم بشَرَرِ السِّحْرِ الحَلالِ، ظنُّوا أنَّ وَراءَ هذا الشِّعْرِ قوَّةً خَفيَّةً تُؤجِّجُ نارَ البَيانِ في أفْواهِ الشُّعَراءِ. والدَّليلُ على بُطلانِ هذا الظَّنِّ أنَّ الإسلامَ قد طمَسَ تلك الاعْتِقاداتِ، وتَلاشَتْ عنْدَ ظُهورِه، ولم يُسمَعْ لها صدى صَوْتٍ فيه.