المَطلَبُ الخامِسُ: لَبيدُ بنُ رَبيعةَ
هو لَبيدُ بنُ رَبيعةَ بنِ مالِكِ بنِ جَعْفَرِ بنِ كِلابٍ العامِريُّ، أبو عَقيلٍ، رَضيَ اللهُ عنه، مُخَضْرَمٌ أدْرَكَ الإسلامَ، ورَأى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأسْلَمَ، وهو في الطَّبَقةِ الثَّالِثةِ مِن طَبَقاتِ الشُّعَراءِ الَّتي وَضَعَها ابنُ سَلَّامٍ.
عاشَ لَبيدٌ طَويلًا، وأدْرَكَ النُّبوَّةَ، ووفَدَ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في وَفْدِ بَني كِلابٍ، فأسْلَمَ ورَجَعَ إلى بَلَدِه، ثُمَّ إنَّه خَرَجَ معَ بَنيه إلى الكوفةِ، وظَلَّ فيها إلى أن ماتَ.
امْتَنعَ لَبيدٌ عن قَوْلِ الشِّعْرِ بعْدَ إسْلامِه، وقالَ: أبْدَلَني اللهُ بالشِّعْرِ القُرآنَ، فلم يَقُلْ شيئًا مِن الشِّعْرِ حتَّى ماتَ، وقيلَ: بل قالَ بَيْتًا واحِدًا، اخْتَلفوا فيه، فقيلَ هو:
الحَمْدُ للهِ إذ لمْ يَأتِني أجَلَي
حتَّى كَساني مِن الإسْلامِ سِرْبالا
وقيلَ: بلْ هو:
ما عاتَبَ المَرْءَ الكَريمَ كنَفْسِه
والمَرْءُ يُصلِحُه الجَليسُ الصَّالِحُ
وكانَ لَبيدٌ كَريمًا جَوادًا في الجاهِليَّةِ والإسْلامِ، كانَ قدْ آلى في الجاهِليَّةِ ألَّا تَهُبَّ ريحُ الصَّبا إلَّا أطْعَمَ النَّاسَ حتَّى تَسكُنَ، فهبَّتْ مرَّةً وهو في الكوفةِ، فقامَ الوَليدُ بنُ عُقْبةَ وخَطَبَ في النَّاسِ فقالَ: إنَّ أخاكم لَبيدًا آلى ألَّا تَهُبَّ له الصَّبا إلَّا أطْعَمَ النَّاسَ حتَّى تَسكُنَ، وهذا اليَوْمُ مِن أيَّامِه، فأعينوه وأنا أوَّلُ مَن أعانَه، ونزَلَ فبَعَثَ إليه بمِئةِ بَكْرةٍ، وكتَبَ إليه:
أرى الجَزَّارَ يَشحَذُ شَفْرتَيهِ
إذا هبَّتْ رِياحُ أبي عَقيلِ
أشَمُّ الأنْفِ أصْيَدُ عامِريٌّ
طَويلُ الباعِ كالسَّيْفِ الصَّقيلِ
وَفَى ابنُ الجَعْفريِّ بحَلفَتَيه
على العِلَّاتِ والمالِ القَليلِ
بنَحْرِ الكومِ إذ سُحِبَتْ عليه
ذُيولُ صَبا تُجاوِبُ بالأصيلِ
فلمَّا أتاه الشِّعْرُ قالَ لابْنَتِه: أجيْبيه فقدْ رَأيتُني وما أعْيا بجَوابِ شاعِرٍ، فقالَتْ:
إذا هبَّتْ رِياحُ أبي عَقيلٍ
دَعَوْنا عنْدَ هبَّتِها الوَليدا
أشمَّ الأنْفِ أصْيَدَ عَبْشميًّا
أعانَ على مُروءَتِه لَبيدا
بأمْثالِ الهِضابِ كأنَّ رَكْبًا
عليها مَن بَني حامٍ قُعودا
أبا وَهْبٍ جَزاكَ اللهُ خيْرًا
نَحَرْناها وأطْعَمْنا الثَّريدا
فعُدْ إنَّ الكَريمَ له مَعادٌ
وظَنِّي يا ابنَ أرْوى أن تَعودا
عمَّرَ لَبيدٌ رَضيَ اللهُ عنه طَويلًا، فماتَ سَنَةَ (41هـ) في زَمانِ
مُعاوِيةَ، وكانَ عُمرُه قد جاوَزَ المِئةَ بكَثيرٍ، فقيلَ: مِئةٌ وأرْبعونَ، وقيلَ: مِئةٌ وبِضْعٌ وسِتُّونَ
[240] يُنظر: ((الشعر والشعراء)) لابن قتيبة (1/ 266)، ((الاستيعاب في معرفة الأصحاب)) لابن عبد البر (3/ 1335). .
وكانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ:
((أَصْدَقُ كَلِمةٍ قالَها الشَّاعِرُ كَلِمةُ لَبيدٍ: ألَا كُلُّ شيءٍ ما خَلا اللهَ باطِلُ )) [241] أخرجه البخاري (3841) عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
ومُعلَّقةُ لَبيدٍ ثَمانيةٌ وثَمانونَ بَيْتًا، بدَأَها على عادةِ الشُّعَراءِ الجاهِليِّينَ بالمُقدِّمةَ الطَّلَليَّةِ، وما يَتبَعُ ذلك مِن وَصْفِ الظَّعائِنِ والنَّاقةِ والرِّحلةِ، إلى أن وصَلَ للمَقصَدِ الأصْليِّ مِن المُعلَّقةِ، وهو الفَخْرُ؛ حيثُ يَمزُجُ الفَخْرَ الشَّخْصيَّ بالقَبَليِّ في قَصيدتِه.
ومَطلَعُ القَصيدةِ [242] ((ديوان لبيد بن ربيعة)) (ص: 106). :عَفَتِ الدِّيارُ مَحَلُّها فمُقامُها
بمِنًى تَأبَّدَ غَوْلُها فرِجامُها
فمَدافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّيَ رَسْمُها
خَلَقًا كما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها
دِمَنٌ تَجَرَّمَ بعْدَ عَهْدِ أنيسِها
حِجَجٌ خَلَوْنَ حَلالُها وحَرامُها
رُزِقَتْ مَرابيعَ النُّجُومِ وصابَها
وَدْقُ الرَّواعِدِ جَوْدُها فرِهامُها
مِن كلِّ سارِيةٍ وغادٍ مُدْجِنٍ
وعَشِيَّةٍ مُتجاوِبٍ إرْزامُها
فَعَلا فُروعُ الأيْهُقانِ وأطْفَلَتْ
بالجَلْهتَينِ ظِبَاؤُها ونَعامُها
والعِينُ ساكِنةٌ على أطْلائِها
عُوذًا تَأجَّلُ بالفَضاءِ بِهامُها
ومِنها:أوَلَمْ تكنْ تَدْري نَوارُ بأنَّني
وَصَّالُ عَقْدِ حَبائِلٍ جَذَّامُها
تَرَّاكُ أمْكِنةٍ إذا لمْ أرْضَها
أو يَعْتلِقْ بعضَ النُّفوسِ حِمامُها
بلْ أنتِ لا تَدْرينَ كمْ مِن لَيلةٍ
طَلْقٍ لَذيذٍ لَهْوُها ونِدامُها
قد بِتُّ سامِرَها، وغايةَ تاجِرٍ
وافَيْتُ إذ رُفِعَتْ وعَزَّ مُدامُها
أُغْلي السِّباءَ بكلِّ أدْكَنَ عاتِقٍ
أو جَوْنةٍ قُدِحَتْ وفُضَّ خِتامُها
بصَبوحِ صافِيةٍ وجَذْبِ كَرِينةٍ
بمُوَتَّرٍ تَأتالُهُ إبْهامُها
بادَرْتُ حاجتَها الدَّجاجَ بسُحْرةٍ
لأُعَلَّ مِنها حيْنَ هَبَّ نِيامُها
وغَداةَ ريحٍ قَدْ وَزَعْتُ وَقَرَّةٍ
إذ أصْبَحَتْ بيَدِ الشَّمالِ زِمامُها
ولقدْ حَمَيْتُ الحَيَّ تَحمِلُ شِكَّتي
فُرُطٌ، وِشاحي إذْ غَدَوْتُ لِجامُها
فعَلوتُ مُرْتقِبًا على ذي هَبْوَةٍ
حَرِجٍ إلى أعْلامِهنَّ قَتامُها
وآخِرُها:إنَّا إذا الْتَقَتِ المَجامِعُ لم يَزَلْ
منَّا لِزازُ عَظيمةٍ جَشَّامُها
ومُقَسِّمٌ يُعْطي العَشيرةَ حَقَّها
ومُغَذْمِرٌ لحُقوقِها هَضَّامُها
فَضْلًا، وذو كَرمٍ يُعينُ على النَّدى
سَمْحٌ كَسوبُ رَغاِئبٍ غَنَّامُها
مِن مَعْشَرٍ سَنَّتْ لهمْ آباؤُهمْ
ولكلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وإمامُها
لا يَطْبَعونَ ولا يَبورُ فِعالُهمْ
إذ لا يَميلُ معَ الهَوى أحْلامُها
فاقْنَعْ بما قَسَمَ المَليكُ فإنَّما
قَسَمَ الخَلائقَ بيْنَنا عَلَّامُها
وإذا الأمانةُ قُسِّمَتْ في مَعْشَرٍ
أوْفى بأوْفَرِ حَظِّنا قَسَّامُها
فبَنى لنا بَيْتًا رَفيعًا سَمْكُهُ
فَسَما إليهِ كَهْلُها وغُلامُها
وهُمُ السُّعاةُ إذا العَشيرةُ أُفْظِعَتْ
وهُمُ فَوارِسُها وهُمْ حُكَّامُها
وهُمُ رَبيعٌ للمُجاوِرِ فيهمُ
والمُرْمِلاتِ إذا تَطاوَلَ عَامُها
وهُمُ العَشيرةُ أنْ يُبَطِّئَ حاسِدٌ
أو أن يَميلَ معَ العَدُوِّ لِئامُها