المَبحَثُ الأوَّلُ: أثَرُ الإسْلامِ في الشِّعْرِ
عَرَفَ العَربُ قبْلَ الإسْلامِ فُنونًا وألْوانًا مِن الحَقِّ والباطِلِ؛ حيثُ عُرِفَتِ الجاهِليَّةُ ببُعْدِها عن الدِّينِ، وسَفْكِ الدِّماءِ، وعِبادةِ الأوْثانِ، واسْتِباحةِ الفُروجِ، والعُكوفِ على الخُمورِ، واسْتِحلالِ أكْلِ الأمْوالِ بالباطِلِ، كما ألِفَتْ بعضًا مِن صَنائِعِ المَعْروفِ، كإكْرامِ الضِّيفانِ، والوَفاءِ بالعُهودِ، ومُراعاةِ حُقوقِ الجارِ، ونَحْوِ ذلك. فحَضَّ الإسْلامُ على تلك الشِّيَمِ الحَسَنةِ، وأقرَّهم عليها، واسْتَحسَنَ ذلك مِنهم، ونَهاهم عنِ الرَّذائِلِ والقَبائِحِ والفُجورِ وسَيِّئِ الأخْلاقِ.
ولِهذا لمَّا سألَ هِرَقْلُ أبا سُفْيانَ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وبماذا يَأمُرُهم، قال:
((يقولُ: اعْبُدوا اللهَ وَحْدَه ولا تُشْرِكوا به شيئًا، واتْرُكوا ما يقولُ آباؤُكم، ويَأمُرُنا بالصَّلاةِ والزَّكاةِ، والصِّدْقِ والعَفافِ والصِّلةِ )) [320] أخرجه البخاري (7)، ومسلم (1773) عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. .
كما هذَّبَ الإسلامُ بعضًا مِن الأفْعالِ الَّتي اخْتَلطَ الحَلالُ فيها بالحَرامِ، كالنِّكاحِ والبُيوعِ وغيْرِ ذلك، فأقَرَّ ما فيها مِن حَلالٍ، ونَهى عمَّا قارَفَها مِن الحَرامِ، فأحَلَّ البَيْعَ في أصْلِه، وحَرَّمَ ما يَكتَنِفُه مِن
الرِّبا والعِينةِ والغَرَرِ، وحَضَّ على النِّكاحِ، ونَهى عمَّا يُداخِلُه مِن الشِّغارِ والمُحلِّلِ ونَحْوِ ذلك.
وكذلك الشِّعْرُ؛ فإنَّ الإسْلامَ لم يَنْهَ الشُّعَراءَ عن نَظْمِ الشِّعْرِ، ولا مَنَعَ الرُّواةَ مِن إنْشادِ الشِّعْرِ ورِوايتِه، بلْ كانَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَحُضُّ على الأمْرَينِ، وقد كانَ يَسْتنشِدُ أصْحابَه مِن أشْعارِ الجاهِليِّينَ كَثيرًا، قالَ الشَّريدُ بنُ سُوَيدٍ الثَّقَفيُّ:
((اسْتَنشَدَني رسُولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فأنْشَدْتُه بيتًا، فقال: هِيهِ. ثم أنْشَدْتُه بيتًا، فقال: هِيهِ. حتى أنْشَدْتُه مائةَ بيتٍ. إن كاد ليُسْلم )) [321] أخرجه مسلم (2255). وقالَ جابِرُ بنُ سَمُرةَ:
((جالَسْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ أَكْثَرَ مِن مِئةِ مرَّةٍ، فكانَ أصْحابُه يَتَناشَدونَ الشِّعر ويَتَذاكرون أشياءً مِن أمْرِ الجاهِليَّةِ، وهو ساكتٌ فربما تبَسَّم معهم )) [322] أخرجه الترمذي (2850) واللفظ له، وأحمد (21010) والحديث أصله في صحيح مسلم (670) دون ذكر تناشد الشِّعر. .
غيْرَ أنَّ الشِّعْرَ حينَئذٍ كانَ مُتَشبِّعًا بأخْلاقِ الجاهِليِّينَ وعَصبيَّتِهم للقَبيلةِ؛ فكانَ الشَّاعِرُ رُبَّما أجَّجَ نيرانَ الحَرْبِ بقَصيدةٍ يقولُها أو ببَيْتٍ يُنشِدُه، فَضْلًا عن انْحِطاطِ الشِّعْرِ في أواخِرِ العَصْرِ الجاهِليِّ بحيثُ صارَ وَسيلةً للتَّكسُّبِ، فصارَ الشَّاعِرُ يَمدَحُ الرَّجُلَ بما ليس فيه، ويَكذِبُ في شِعْرِه، فَضْلًا عن انْتِشارِ الغَزَلِ في أشْعارِهم، والتَّشْبيبِ بالنِّساءِ وذِكْرِ أوْصافِهنَّ ومَفاتِنِهنَّ، بما يُخالِفُ الأمْرَ القُرآنيَّ:
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أوْ آبَائِهِنَّ أوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أوْ أبْنَائِهِنَّ أوْ أبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أوْ إِخْوَانِهِنَّ أوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أوْ بَنِي أخَوَاتِهِنَّ أوْ نِسَائِهِنَّ أوْ مَا مَلَكَتْ أيْمَانُهُنَّ أوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 30، 31].
اسْتَوْعبَ الإسْلامُ تلك الأمورَ، فأباحَ مِن الشِّعْرِ ما خالَفَ تلك الأمورَ الَّتي جاءَ الإسْلامُ فهَدَمَها، فلم يَرَ بأسًا بأشْعارِ الحِكْمةِ والرِّثاءِ والحَماسةِ، ومَنَعَ ما يُخالِفُ أصْلَ الدِّينِ مِن التَّغزُّلِ والتَّشْبيبِ، وهذَّبَ بعضَ ما فيه شَوْبٌ مِن الجاهِليَّةِ، كالفَخْرِ؛ إذ جَعَلَ الإسْلامُ الفَخْرَ اللَّائِقَ بالشَّاعِرِ المُسلِمِ هو الفَخْرَ بالدِّينِ لا الفَخْرَ بالآباءِ والأنْسابِ، كما أباحَ المَدْحَ إذا كانَ صادِرًا عن عاطِفةٍ صادِقةٍ، شَريطةَ أن يُمدَحَ الرَّجُلُ بما فيه.
ومِن ناحِيةٍ أخرى فإنَّ القُرآنَ -وهو المُعْجِزةُ البَلاغيَّةُ- قد أفادَ الشُّعَراءَ كَثيرًا مِن جِهةِ نَظْمِه وألْفاظِه ومَعانيه، فهو الَّذي أعْيا البُلَغاءَ أن يأتوا بسورةٍ مِثلِه، وأعْجَزَ الشُّعَراءَ عن مُجاراةِ بعضِه.
فاسْتَعانَ الشُّعَراءُ بألْفاظِ القُرآنِ، كما أفادوا مِنه في سُهولةِ ألْفاظِه ووُضوحِ مَعانيه، فجاءَتْ أشْعارُهم تُحاكي القُرآنَ في نَظْمِه وسَلاستِه
[323] ينظر: ((العمدة)) لابن رشيق (1/65). .
وبذلك تَنفَّسَتْ رُوحُ الإسْلامِ في أبْياتِهم، وانْعَكسَ تَعْليمُ الرَّسولِ لهم في قَوافيهم، ففَرَّغَ الشُّعَراءُ طاقتَهم الشِّعْريَّةَ في خِدمةِ الإسْلامِ والدَّعوةِ إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ، ووَصْفِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وذِكْرِ شَمائِلِه، فكانَ حَسَّانُ بنُ ثابِتٍ يَحُثُّ المُسلِمينَ على القِتالِ، ويُذَكِّرُهم بوَعْدِ اللهِ لهم، ويَهْجو المُشرِكينَ، ويَفرْي أديمَهم بلِسانِه، ويُمجِّدُ الإسْلامَ بقَوْلِه، ويَدفَعُ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بنفْسِه وعِرْضِه، ويَبذُلُ كلَّ ما يَستْطيعُ بَذْلَه، ولا يَخْشى أحَدًا في اللهِ، فهو القائِلُ:
فإنَّ أبي ووالِدَهُ وعِرْضي
لعِرْضِ مُحمَّدٍ مِنكمْ وِقاءُ
[324] ((ديوان حسان بن ثابت)) (ص: 17). فإذا نَظَرْتَ إلى قَوْلِ عبْدِ اللهِ بنِ رَواحةَ:
شَهِدْتُ بأنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ
وأنَّ النَّارَ مَثْوى الكافِرينا
وأنَّ العَرْشَ فوْقَ الماءِ طافٍ
وفوْقَ العَرْشِ رَبُّ العالَمينا
وتَحمِلُه مَلائِكةٌ شِدادٌ
مَلائِكةُ الإلهِ مُقرَّبينا
[325] ((ديوان عبد الله بن رواحة)) (ص:165). وقَوْلِه:وفينا رَسولُ اللهِ يَتْلو كِتابَه
كما انْشَقَّ مَعْروفٌ مِن الفَجْرِ ساطِعُ
أرانا الهُدى بعْدَ العَمى فقُلوبُنا
بهِ موقِناتٌ أنَّ ما قالَ واقِعُ
يَبيتُ يُجافي جَنْبَه عن فِراشِه
إذا أثْقَلَتْ بالمُشرِكينَ المَضاجِعُ
وأعْلَمُ عِلمًا ليس بالظَّنِّ أنَّني
إلى اللهِ مَحْشورٌ هناك فراجِعُ
[326] ((ديوان عبد الله بن رواحة)) (ص:162). وجَدْتَ اتِّفاقَ الأبْياتِ معَ القُرآنِ الكَريمِ في الثَّرْوةِ اللَّفْظيَّةِ وسُهولةِ الأُسلوبِ ووُضوحِ المَعنى.
والقُرآنُ الكَريمُ قد هذَّبَ الطَّبائِعَ وحَسَّنَ الأخْلاقَ، فلم يَتَفحَّشِ الشُّعَراءُ بالقَوْلِ، ولم يأتِ شِعْرُهم كاشِفًا للسَّوْءاتِ مُظهِرًا للعَوْراتِ، وإن هَجا أحَدُهم أحَدًا لم يكنِ الهِجاءُ مُقذِعًا يَتناوَلُ العِرْضَ والأهْلَ، بلْ كانوا أعفَّاءَ في هِجائِهم وفي شِعْرِهم كلِّه، كما هذَّبَ القُرآنُ الكَلِماتِ؛ فابْتَعدَ الشُّعَراءُ عن الكَلِماتِ الوَحْشيَّةِ الغَريبةِ لمَّا رأَوا ألْفاظَ القُرآنِ سَهْلةً مُيسَّرةً يَفهَمُها القَريبُ والبَعيدُ، والعالِمُ والجاهِلُ، وهذَّبَ أغْراضَهم فتَلاشَتْ عنِ الشِّعْرِ بعضُ الأغْراضِ الجاهِليَّةِ والمَوْضوعاتِ المُسْتخدَمةِ في الزَّمَنِ الأوَّلِ، مِثلُ ذِكْرِ الخَمْرِ، والتَّفاخُرِ بالآباءِ، والجَهْرِ بالفُحْشِ والفُجورِ، وهذَّبَ مَعانيَهم فجاءَتْ المَعاني قَريبةَ المَأخَذِ سَهْلةَ المُتَناوَلِ خالِيةً مِن الإغْرابِ والتَّنافُرِ المَعْنويِّ.
والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ أفْصَحَ النَّاسِ وأقْدَرَهم على البَيانِ، وحَباه اللهُ جَوامِعَ الكَلِمِ فكانَ يَنطِقُ بالألْفاظِ القَليلةِ الَّتي تَحمِلُ بيْنَ طِيَّاتِها مَعانيَ جَمَّةً، وجاءَتْ ألْفاظُه ومَعانيه سَهْلةً، مَيْسورةً، قَليلةَ المَباني، كَثيرةَ المَعاني، خالِيةً مِن الإغْرابِ ومِن وَحْشيِّ الكَلامِ، "فلم يَنطِقْ إلَّا عن ميراثِ حِكْمةٍ، ولم يَتكلَّمْ إلَّا بكَلامٍ قد حُفَّ بالعِصْمةِ"
[327] ((البيان والتبيين)) للجاحظ (2/13). ، وجاءَتْ مَعانيه مُحْكَمةَ النَّسْجِ، تامَّةَ السَّبْكِ كأنَّها التِّيجانُ للرُّؤوسِ، والرَّاحةُ للنُّفوسِ، فدارَ الأُدَباءُ والشُّعَراءُ حَوْلَ كَلامِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَقرَعونَ حِلَقَه، ويَرْتَشفونَ ضَرَبَه، ويَتَحسَّسونَ سُبُلَهَ، فجاءَتْ مَعانيهم مُسْتمَدَّةً مِن مَعاني الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وألْفاظُهم تُحاكي ألْفاظَه، وهكذا هذَّبَ القُرآنُ والسُّنَّةُ الشِّعْرَ وأضْفَيا عليه روحَ الإسْلامِ، ونَقلا الشُّعَراءَ مِن التِّيهِ والعَمى إلى الحَقَّ والرُّشْدِ.