المَطلَبُ الثَّاني: المَدْحُ
كانَ المَدْحُ في أوَّلِ شِعْرِ الجاهِليَّةِ مَدْحًا صادِقًا، ناشِئًا عن عاطِفةٍ صَحيحةٍ، لا يَمدَحُ مَن لا يَسْتحِقُّ المَدْحَ، ولا يَكذِبُ في مَدْحِه فيَمدَحَ الرَّجُلَ بغيْرِ ما هو فيه، بلْ كانَ المَدْحُ أداءً للشُّكْرِ لِمَن هو أهْلُ الإحْسانِ، كما فَعَلَ زُهَيْرُ بنُ أبي سُلْمى معَ هَرِمِ بنِ سِنانٍ والحارِثِ بنِ عَوْفٍ، لكنَّه ما لَبِثَ أن تَحوَّلَ إلى وَسيلةٍ لكَسْبِ المالِ، فصارَ المَدْحُ كَذِبًا مَحْضًا، يَذهَبُ الرَّجُلُ إلى المُلوكِ والأُمَراءِ ليَمدَحَهم فيُفيضوا عليه مِن العَطايا والجَوائِزِ، كما كانَ الحالُ معَ النَّابِغةِ الذُّبْيانيِّ والأعْشى وغيْرِهما.
فلمَّا جاءَ الإسْلامُ اخْتَلفَ الأمْرُ عمَّا كانَ عليه، بلْ يُمكِنُ أن تقولَ: إنَّه رَجَعَ إلى ما كانَ عليه؛ فصارَ المَدْحُ صِدْقًا مَحْضًا لا يَشوبُه كَذِبٌ، فلا حاجةَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصْحابِه إلى المَدَّاحينَ، فَضْلًا عن نَهْيِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن ذلك، وأمْرِه أن نَحْثوَ في وُجوهِ المَدَّاحينَ التُّرابَ، وما ذلك إلَّا أنَّهم ألِفوا الكَذِبَ والنِّفاقَ.
فصارَ المَدْحُ في عَصْرِ صَدْرِ الإسْلامِ مَديحًا خالِصًا، يقولُه الشَّاعِرُ لمَن هو أهْلٌ للمَدْحِ، فيَمدَحُ الرَّجُلُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أو يَمدَحُ جَماعةَ أصْحابِه رِضوانُ اللهِ عليهم، لا يَرْجو مِن ذلك جَزاءً ولا شُكورًا.
ومِن أبْرَزِ أبْياتِ المَدْحِ قولُ كَعْبِ بنِ زُهَيْرٍ في النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصْحابِه:إنَّ الرَّسولَ لنورٌ يُسْتَضاءُ به
مُهنَّدٌ مِن سُيوفِ اللهِ مَسْلولُ
في عُصبةٍ مِن قُرَيشٍ قالَ قائِلُهم
ببَطْنِ مَكَّةَ لمَّا أسْلَموا زولوا
زالوا فما زالَ أنْكاسٌ ولا كُشُفٌ
عنْدَ اللَّقاءِ ولا مِيلٌ مَعازيلُ
شُمُّ العَرانينِ أبْطالٌ لَبوسُهمُ
مِن نَسْجِ داودَ في الهَيْجا سَرابيلُ
لا يَفْرَحون إذا نالَتْ رِماحُهمُ
قَوْمًا وليسوا مَجازيعًا إذا نِيلوا
لا يَقَعُ الطَّعْنُ إلَّا في نُحورِهمِ
وما لهم عن حِياضِ المَوْتِ تَهْليلُ
[341] ((ديوان كعب بن زهير)) (ص: 60). ومِنه قولُ حسَّانَ رَضيَ اللهُ عنه في مَدْحِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصْحابِه [342] ((ديوان حسان بن ثابت)) (ص: 152). :إِنَّ الذَوائِبَ مِن فِهْرٍ وإخْوتَهم
قَد بَيَّنوا سُنَّةً لِلنَّاسِ تُتَّبَعُ
يَرضى بِها كلُّ مَن كانَتْ سَريرتُهُ
تَقوى الإلهِ وبِالأمْرِ الَّذي شَرَعوا
قَوْمٌ إِذا حارَبوا ضَرُّوا عَدُوَّهمُ
أو حاوَلوا النَّفْعَ في أشْياعِهم نَفَعوا
سَجِيَّةٌ تلك مِنهم غَيْرُ مُحدَثةٍ
إِنَّ الخَلائِقَ حَقًّا شَرُّها البِدَعُ
لا يَرقَعُ النَّاسُ ما أوهَتْ أكُفُّهمُ
عِنْدَ الدِّفاعِ ولا يُوهونَ ما رَقَعوا
إنْ سابَقوا النَّاسَ يَوْمًا فازَ سَبْقُهمُ
أو وازَنوا أهْلَ مَجْدٍ بِالنَّدى مَتَعوا
إِن كانَ في النَّاسِ سَبَّاقونَ بَعْدَهمُ
فكُلُّ سَبْقٍ لأدْنى سَبْقِهِم تَبَعُ
ولا يَضَنُّونَ عن مَولًى بفَضْلِهمِ
وَلا يُصيبُهمُ في مَطمَعٍ طَبَعُ
لا يَجهَلونَ وإِن حاوَلْتَ جَهلَهمُ
في فَضْلِ أحْلامِهِم عَن ذاكَ مُتَّسَعُ
أعِفَّةٌ ذُكِرَتْ في الوَحْيِ عِفَّتُهم
لا يَطمَعونَ وَلا يُرْديهمُ الطَّمَعُ
كَمْ مِن صَديقٍ لهُمْ نالوا كَرامتَهُ
ومِن عَدُوٍّ عليهم جاهِدٍ جَدَعوا
أعْطَوا نَبِيَّ الهُدى والبِرِّ طاعَتَهُم
فما وَنى نَصرُهُم عنهُ وما نَزَعوا
إنْ قالَ سيروا أجَدُّوا السَّيْرَ جَهْدَهُمُ
أو قالَ عُوجوا علينا ساعةً رَبَعوا
وقالَ حسَّانُ في النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ:فأجْمَلُ مِنه لم تَرَ قَطُّ عَيْني
وأكْمَلُ مِنه لم تَلِدِ النِّساءُ
خُلِقْتَ مُبَرَّأً مِن كُلِّ عَيْبٍ
كأنَّك قد خُلِقْتَ كما تَشاءُ
[343] ((ديوان حسان بن ثابت)) (ص: 21). وكانَ أبو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضيَ اللهُ عنه إذا رآه يقولُ:أمْينٌ مُصْطفًى بالخَيْرِ يَدْعو
كضَوءِ البَدْرِ زايَلَه الظَّلامُ
[344] ينظر: ((ديوان الصبابة)) لشهاب الدين المغربي (ص:16).