المَطلَبُ السَّادِسُ: الاعْتِذارُ
بدَأ شِعْرُ الاعْتِذارِ على اسْتِحياءٍ في العَصْرِ الجاهِليِّ؛ إذ كانَ العَربيُّ يَأنَفُ أن يَعْتذِرَ عمَّا بَدَرَ مِنه، وكانَتِ القَبيلةُ تُطيقُ حَرْبًا ضَروسًا لا هَوادةَ فيها، ولا تُطيقُ أن تكونَ في مَوقِفِ المُعْتذِرِ الذَّليلِ، وإنَّما ابْتَكَرَ ذلك الغَرَضَ مِن الشِّعْرِ النَّابِغةُ الذُّبْيانيُّ؛ إذ كانَ نَديمَ المُلوكِ، وكانَ يَتَكسَّبُ بشِعْرِه، وقدْ كانَتْ له عنْدَ المَلِكِ النُّعْمانِ بنِ المُنذِرِ حُظْوةٌ ومَكانةٌ، لولا ما بَدَرَ مِنه أو أُشيعَ عنه؛ ولِهذا سارَعَ في الاعْتِذارِ وطَلَبِ المُسامَحةِ.
ولمَّا قَوِيَ الإسْلامُ واشْتدَّ عودُه وصارَتْ له شَوْكةٌ تَقرَعُ، عَلِمَ الشُّعَراءُ أنَّ هذا الإسْلامَ إلى انْتِشارٍ، وأنَّه ليس في مَصْلحتِهم أن يَسْتمِرُّوا على مُجابَهتِه ومُعاداتِه، وأنَّه ما مِن شاعِرٍ هَجا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلَّا قُتِلَ شَرَّ قِتلةٍ؛ لِهذا بادَرَ الشُّعَراءُ إلى الدُّخولِ في كَنَفِ الإسْلامِ وأمْنِه، والتَّقدُّمِ بالاعْتِذارِ بيْنَ يَدَيِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كما فَعَلَ
كَعْبُ بنُ زُهَيْرٍ رَضيَ اللهُ عنه في قَصيدتِه الَّتي فيها:
أُنْبِئْتُ أنَّ رَسولَ اللهِ أوْعَدَني
والعَفْوُ عنْدَ رَسولِ اللهِ مَأمولُ
مَهْلًا! هَداك الَّذي أعْطاك نافِلةَ الْ
قُرآنِ فيها مَواعيظٌ وتَفْصيلُ
لا تَأخُذَنِّي بأقْوالِ الوُشاةِ، وَلم
أُذنِبْ وإن كَثُرَتْ فيَّ الأقاويلُ
لقدْ أقومُ مَقامًا لو يَقومُ بهِ
أرى وأسْمَعُ ما لو يَسمَعُ الفيلُ
لَظَلَّ يُرعَدُ إلَّا أنْ يكونَ لهُ
مِنَ النَّبيِّ بإذنِ اللهِ تَنْويلُ
حتَّى وَضَعْتُ يَميني لا أُنازِعُهُ
في كَفِّ ذي نَقَماتٍ قِيلُهُ القِيلُ
لذاك أهْيَبُ عندي إذ أُكلِّمُه
وقيلَ: إنَّك مَنْسوبٌ ومَسْؤولُ
[358] ((ديوان كعب بن زهير)) (ص: 60). كما أنَّ الإسْلامَ أرْسى في دَعائِمِ مُتَّبِعيه أنَّ الرُّجوعَ إلى الحَقِّ خَيْرٌ مِن التَّمادي في الباطِلِ، وأنَّ
((كلَّ ابنِ آدَمَ خَطَّاءٌ، وخَيْرُ الخَطَّائينَ التَّوَّابونَ )) [359] أخرجه الترمذي (2499)، وأحمد .(13049) ، فليس عَيْبًا أن يَعْتذِرَ أحَدٌ عمَّا بَدَرَ مِنه، بلْ إنَّ مِن التَّوْبةِ أن يَرُدَّ التَّائِبُ الحَقَّ إلى أهْلِه، ومِن رَدِّ الحَقِّ أن يَعْتذِرَ لمَن هَجاه أو آذاه.
ومِن هذا قَوْلُ حسَّانَ بنِ ثابِتٍ رَضيَ اللهُ عنه في اعْتِذارِه ل
أمِّ المُؤْمنينَ عائِشةَ رَضيَ اللهُ عنها؛ إذ كانَ ممَّن أشاعَ الفاحِشةَ في حادِثةِ الإفْكِ:
حَصانٌ رَزانٌ ما تُزَنُّ بِريبةٍ
وتُصبِحُ غَرْثَى مِن لُحومِ الغَوافِلِ
عَقيلةُ حَيٍّ مِن لُؤَيِّ بنِ غالِبٍ
كِرامِ المَساعي مَجْدُهُم غَيْرُ زائِلِ
مُهَذَّبةٌ قد طَيَّبَ اللهُ خِيمَها
وطَهَّرَها مِن كُلِّ سوءٍ وباطِلِ
فإِن كنْتُ قد قُلْتُ الَّذي قد زَعَمْتُمُ
فلا رَفَعَتْ سَوْطي إليَّ أنامِلي
فكيف ووُدِّي ما حَييتُ ونُصْرتي
لآلِ رَسولِ اللهِ زَيْنِ المَحافِلِ
لهُ رَتَبٌ عالٍ على النَّاسِ كُلِّهم
تَقاصَرُ عنهُ سَورةُ المُتَطاوِلِ
فإنَّ الَّذي قد قيلَ ليس بِلائِطٍ
ولكنَّهُ قَوْلُ امْرِئٍ بِيَ ماحِلِ
[360] ((ديوان حسان بن ثابت)) (ص:190).