المَطلَبُ الأوَّلُ: أقْسامُ الخَطابةِ ومَوْضوعاتُها
ذَكَرْنا أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اسْتَعمَلَ الخَطابةَ في شُؤونِ الدِّينِ والدَّوْلةِ كافَّةً؛ فكانَتِ الخُطبةُ داعِيةً إلى اللهِ، ومُحفِّزةً للجِهادِ، وسِياسيَّةً واجْتِماعيَّةً وغيْرَ ذلك، وسارَ على هذا النَّهْجِ خُلَفاؤُه الرَّاشِدونَ، وأصْحابُه المَهْديُّونَ، وانْدَثرَتِ الخُطَبُ الَّتي تَدْعو إلى العَصبيَّاتِ القَبَليَّةِ، مِثلُ المُفاخَراتِ والمُنافَراتِ، والخُطَبُ الَّتي كانَتْ تَدْعو إلى الفَواحِشِ والشِّرْكِ والكَبائِرِ، فاصْطَبغَتِ الخَطابةُ بصِبْغةٍ إسْلاميَّةٍ خالِصةٍ صافِيةٍ مِن كلِّ الشَّوائِبِ الَّتي تُعكِّرُ صَفْوَ الدَّعوةِ إلى اللهِ، وأبْرَزُ مَوْضوعاتِ الخُطبةِ:
1- الخُطَبُ الدِّينيَّةُ:غَلَبَ هذا النَّوْعُ مِن الخُطَبِ على سائِرِ الأنْواعِ الأخرى؛ فقدْ كانَتْ أكْثَرُ الخُطَبِ في عَصْرِ صَدْرِ الإسْلامِ دائِرةً حولَ تَبْصيرِ النَّاسِ بأُمورِ دينِهم، وما يَجوزُ لهم وما يَحرُمُ عليهم، وقد كانَ النَّاسُ حَديثي عَهْدٍ بدينٍ جَديدٍ، فهُمْ مُفْتقِرونَ إلى مَن يُوضِّحُ لهم أحْكامَه وشَرائِعَه، ويُسدِّدُ خُطاهم إذا ضَلُّوا سواءَ السَّبيلِ؛ لِهذا فَرَضَ اللهُ الخُطبةَ كلَّ جُمعةٍ في الأسْبوعِ، فَضْلًا عن تلك الخُطَبِ الَّتي كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَدْعو النَّاسَ إليها إذا فَزَعَه أمْرٌ مِن أُمورِ الدِّينِ والدُّنْيا، ورُبَّما خَطَبَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَوْمًا كامِلًا، كما رَوى أبو عَمْرٍو زيدُ بنُ أخْطَبَ الأنْصاريُّ، قالَ:
((صَلَّى بنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الفَجْرَ، وصَعِدَ المِنبَرَ فخَطَبَنا حتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، فنَزَلَ فصلَّى، ثُمَّ صَعِدَ المِنبَرَ، فخَطَبَنا حتَّى حَضَرَتِ العَصْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ المِنبَرَ، فخَطَبَنا حتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فأخْبَرَنا بما كانَ وبما هو كائِنٌ، فأعْلَمُنا أحْفَظُنا )) [389] أخرجه مسلم (2892) .
وخُطْبةُ الوَداعِ الَّتي ألْقاها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على النَّاسِ قُبَيْلَ وَفاتِه خَيْرُ نَموذَجٍ لخُطَبِ التَّشْريعِ الدِّينيِّ؛ فإنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وَقَفَ على جَبَلِ عَرَفاتٍ يَوْمَ عَرَفةَ في السَّنةِ العاشِرةِ مِن الهِجرةِ، في حَجَّتِه الوَحْيدةِ الَّتي حَجَّها، فخَطَبَ في النَّاسِ وهو واقِفٌ على ناقتِه القَصْواءِ، فقالَ بعْدَ أن حَمِدَ اللهَ وأثْنى عليه:
((إنَّ دِماءَكم وأمْوالَكم حَرامٌ عليكم كحُرْمةِ يَوْمِكم هذا في شَهْرِكم هذا في بَلَدِكم هذا، ألا كُلُّ شيءٍ مِن أمْرِ الجاهِليَّةِ تحتَ قَدَميَّ مَوْضوعٌ، ودِماءُ الجاهِليَّةِ مَوْضوعةٌ، وإنَّ أوَّلَ دَمٍ أضَعُ مِن دِمائِنا دَمُ ابنِ رَبيعةَ بنِ الحارِثِ، كانَ مُسْتَرْضِعًا في بَني سَعْدٍ فقَتلَتْه هُذَيلٌ، ورِبا الجاهِليَّةِ مَوْضوعٌ، وأوَّلُ رِبًا أضَعُ رِبانا رِبا عَبَّاسِ بنِ عبْدِ المُطَّلِبِ، فإنَّه مَوْضوعٌ كلُّه، فاتَّقوا اللهَ في النِّساءِ؛ فإنَّكم أخَذْتُموهنَّ بأمانِ اللهِ، واسْتَحلَلْتُم فُروجَهنَّ بِكَلِمةِ اللهِ، ولكم عليهنَّ أن لا يوطِئْنَ فُرُشَكم أحَدًا تَكرَهونَه، فإنْ فَعَلْنَ ذلك فاضْرِبوهنَّ ضَرْبًا غيْرَ مُبَرِّحٍ، ولهنَّ عليكم رِزْقُهنَّ وكِسْوتُهنَّ بالمَعْروفِ، وقدْ تَرَكْتُ فيكم ما لن تَضِلُّوا بَعْدَه إنِ اعْتَصَمْتُم به؛ كِتابَ اللهِ، وأنتم تُسْألونَ عنِّي، فما أنتم قائِلونَ؟ )).
قالوا: نَشهَدُ أنَّك قد بَلَّغْتَ وأدَّيْتَ ونَصَحْتَ، فقالَ بإِصْبَعِه السَّبَّابةِ يَرفَعُها إلى السَّماءِ ويَنكُتُها إلى النَّاسِ:
((اللَّهُمَّ اشهَدْ، اللَّهُمَّ اشهَدْ)) ثَلاثَ مَرَّاتٍ
[390] أخرجه مسلم (1218) مطولاً من حديث جابر بن عبدالله رضي الله عنهما. .
وبعْدَ وَفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ومعَ اتِّساعِ رُقْعةِ الإسْلامِ، يَتَولَّى أصْحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مُهمَّةَ الدَّعْوةِ إلى اللهِ تعالى، ونَشْرِ تَعاليمِ الإسْلامِ، فيَتَوزَّعُ الصَّحابةُ في أمْصارِ المُسلِمينَ، يُعَلِّمونَ النَّاسَ القُرآنَ وأحْكامَ الدِّينِ.
2- خُطَبُ الجِهادِ والحَضِّ على القِتالِ:وهذا النَّوْعُ مِن الخُطَبِ لم يَبْتكِرْه الإسْلامُ، وإنَّما كانَ مَوْجودًا قبْلَه في خُطَبِ الجاهِليَّةِ؛ حيثُ كانَ خَطيبُ القَبيلةِ يُحرِّضُ النَّاسَ لقِتالِ القَبيلةِ الأخرى والإغارةِ عليها، فلمَّا جاءَ الإسْلامُ كانَ الهَدَفُ مِن الجِهادِ نَشْرَ كَلِمةِ التَّوْحيدِ والدَّعوةَ إلى دينِ اللهِ تعالى، فشَتَّانَ بيْنَ هذا وذاك.
وكانَ مِن طَبيعةِ ذلك أن تَكثُرَ الغَزَواتُ والسَّرايا الَّتي يُرسِلُها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى القَبائِلِ والمُدُنِ، فكانَ يَخطُبُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في النَّاسِ يَجمَعُهم إلى الجِهادِ ويَحُثُّهم عليه، ثُمَّ يَخطُبُ في الجَيْشِ فيَأمُرُه ويَنْهاه، ويُبيِّنُ له فَضْلَ الجِهادِ في سَبيلِ اللهِ، وأنَّه بيْنَ إحْدى حُسنَيَينِ؛ النَّصْرِ أوِ الشَّهادةِ، فتَرْتفعُ الهِمَّةُ في قُلوبِ المُؤْمِنينَ، ويُؤيِّدُهم اللهُ بمَدَدٍ مِن عنْدِه.
وفي زَمانِ الخَليفةِ الأوَّلِ
أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، تَكثُرُ السَّرايا والحُروبُ، فيُحارِبُ
أبو بَكْرٍ رَضيَ اللهُ عنه مانعي الزَّكاةِ والمُرْتدِّينَ بعْدَ وَفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويَسْتَنُّ
الصِّدِّيقُ بسُنَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في ذلك، فيَخطُبُ في الجَيْشِ قبْلَ أن يَنْطلِقَ لهَدَفِه، فمِن خُطَبِه تلك أنَّه لمَّا أرادَ أن يُسَيِّرَ الجُيوشَ لمَقاصِدِها، قامَ في النَّاسِ خَطيبًا فحَمِدَ اللهَ وأثْنى عليه بما هو أهْلُه، ثُمَّ صلَّى على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ قالَ: (ألَا إنَّ لِكلِّ أمْرٍ جَوامِعَ، فمَن بَلَغَها فهي حَسْبُه، ومَن عَمِلَ للهِ كَفاه اللهُ، عليكم بالجِدِّ والقَصْدِ؛ فإنَّ القَصْدَ أبْلَغُ، ألَا إنَّه لا دِينَ لأحَدٍ لا إيْمانَ له، ولا إيمانَ لِمَن لا خَشيةَ له، ولا عَمَلَ لِمَن لا نيَّةَ له، ألَا وإنَّ في كِتابِ اللهِ مِن الثَّوابِ على الجِهادِ في سَبيلِ اللهِ لَما يَنْبغي للمُسلِمِ أن يُحِبَّ أن يُخَصَّ به، هي النَّجاةُ الَّتي دَلَّ اللهُ عليها، ونَجَّى بها مِن الخِزْيِ، وألْحَقَ بها الكَرامةَ في الدُّنْيا والآخِرةِ)
[391] ينظر: ((تاريخ الطبري)) (3/ 390)، ((البداية والنهاية)) لابن كثير (7/6). .
ولم يَكتَفِ الأمْرُ على خُطبةِ الخَليفةِ فحسْبُ، بلْ كانَ أُمَراءُ الجُنْدِ كذلك يَخْطُبونَ في الجَيْشِ قبْلَ بَدْءِ المَعْركةِ، يُثبِّتونَهم ويُؤَكِّدونَ مَوْعودَ اللهِ لهم، ولا نَغْلو إذا قُلْنا: إنَّ بَلَدًا مِن بُلْدانِ الفُرْسِ في العِراقِ وإيرانَ وبُلْدانِ الرُّومِ في الشَّامِ ومِصْرَ لم يُفتَحْ إلَّا بعْدَ أن فَتَحَتْه خُطبةُ أحَدِ هؤلاء القُوَّادِ
[392] ينظر: ((الفن ومذاهبه في النثر العربي)) لشوقي ضيف (ص: 63). ، كخُطبةِ عُتْبةَ بنِ غَزْوانَ يَوْمَ فَتْحِ الأبُلَّةِ، وخُطْبةِ
خالِدِ بنِ الوَليدِ يَوْمَ اليَرْموكِ؛ حيثُ وَجَدَ أمَراءَ الجَيْشِ ك
عَمْرِو بنِ العاصِ وأبي عُبَيْدةَ ويَزيدَ بنِ أبي سُفْيانَ يَنْفرِدُ كلُّ واحِدٍ مِنهم بكَتيبتِه، فلا يُصلِّي خَلْفَ أخيه، ويُريدُ كلُّ واحِدٍ مِنهم أن يكونَ أميرًا، أو يُجاهِدَ بفَيْلقِه وَحْدَه.
فسارَ
خالِدٌ إليهم، فحَمِدَ اللهَ وأثْنى عليه بما هو أهْلُه، ثُمَّ قالَ: (إنَّ هذا يَوْمٌ مِن أيَّامِ اللهِ، لا يَنْبغي فيه الفَخْرُ ولا البَغْيُ، أخْلِصوا جِهادَكم، وأريدوا اللهَ بعَمَلِكم؛ فإنَّ هذا يَوْمٌ له ما بعْدَه، ولا تُقاتِلوا قَوْمًا على نِظامٍ وتَعْبئةٍ على تَسانُدٍ وانْتِشارٍ؛ فإنَّ ذلك لا يَحِلُّ ولا يَنْبغي، وإنَّ مَن وَراءَكم لو يَعلَمُ عِلمَكم حالَ بيْنَكم وبيْنَ هذا، فاعْمَلوا فيما لم تُؤْمَروا به بالَّذي تَرونَ أنَّه الرَّأيُ مِن واليكم ومَحبَّتِه، قالوا: فهاتِ، فما الرَّأيُ؟ قالَ: إنَّ
أبا بَكْرٍ لم يَبعَثْنا إلَّا وهو يَرى أنَّا سنتَياسَرُ، ولو عَلِمَ بالَّذي كانَ ويكونُ، لقد جَمَعَكم أنَّ الَّذي أنتم فيه أشَدُّ على المُسلِمينَ ممَّا قد غَشِيَهم، وأنْفَعُ للمُشْرِكينَ مِن أمْدادِهم، ولقد عَلِمْتُ أنَّ الدُّنْيا فرَّقَتْ بيْنَكم، فاللهَ اللهَ؛ فقدْ أُفرِدَ كُلُّ رَجُلٍ مِنكم ببَلَدٍ مِن البُلْدانِ لا يَنْتقِصُه مِنه أنْ دانَ لأحَدٍ مِن أمَراءِ الجُنودِ، ولا يَزيدُه عليه أن دانوا له، إنَّ تأميرَ بعضِكم لا يَنقُصُكم عنْدَ اللهِ ولا عنْدَ خَليفةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، هَلُمُّوا فإنَّ هؤلاء تَهيَّؤوا، وهذا يَوْمٌ له ما بعْدَه، إن رَدَدْناهم إلى خَنْدَقِهم اليَوْمَ لم نَزَلْ نَرُدُّهم، وإن هَزَمونا لم نُفلِحْ بعْدَها، فهَلمُّوا فلْنَتعاوَرِ الإمارةَ، فلْيَكنْ عليها بعضُنا اليَوْمَ، والآخَرُ غدًا، والآخَرُ بعْدَ غَدٍ، حتَّى يَتأمَّرَ كلُّكم، ودَعوني أليكم اليَوْمَ)
[393] ((تاريخ الطبري)) (3/ 396)، ((الكامل في التاريخ)) لعز الدين ابن الأثير (2/ 256). .
3- خُطَبُ النِّكاحِ:وهي الخُطْبةُ الَّتي تقالُ عنْدَ الزَّواجِ أو الخِطْبةِ، يقومُ خَطيبٌ مِن أهْلِ الخاطِبِ أو مِن ذَويه ويَخطُبُ خُطْبةً يُظهِرُ فيها مَناقِبَ الخاطِبِ ومَزاياه، ثُمَّ يَعرِضُ الزَّواجَ على أهْلِ المَرأةِ، ومِن سُنَنِها أن يُطيلَ الخاطِبُ ويُقصِّرَ المُجيبُ.
وهذا اللَّوْنُ مِن الخُطَبِ قد امْتَدَّ إلى الإسْلامِ مِن الجاهِليَّةِ، فأقَرَّه الإسْلامُ ولم يُناقِضْه.
ويَرْوي الهَيْثَمُ بنُ عَدِيٍّ أنَّ الخُطَباءَ لم يكونوا يَخْطُبونَ قُعودًا إلَّا في خُطبةِ النِّكاحِ
[394] ينظر: ((البيان والتبيين)) للجاحظ (1/115). ، وكانَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه يقولُ: "ما يَتَصعَّدُني كَلامٌ كما تَتَصعَّدُني خُطْبةُ النِّكاحِ"
[395] ينظر: ((البيان والتبيين)) للجاحظ (1/127). .
ومِن أمْثِلةِ هذا اللَّونِ مِن الخُطَبِ خُطْبةُ بِلالِ بنِ رَباحٍ عنْدَما خَطَبَ على أخيه امْرأةً مِن قُرَيشٍ فقالَ: "نحن مَن قد عَرَفْتُم، كُنَّا عَبْدَينِ فأعْتَقَنا اللهُ، وأنا أخْطُبُ على أخي خالِدٍ فُلانةً، فإن تُنْكِحوه فالحَمْدُ للهِ، وإن تَرُدُّوه فاللهُ أكْبَرُ"
[396] ينظر: ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (4/72). .
وكانَ الحَسَنُ يقولُ في خُطْبةِ النِّكاحِ، بعْدَ حَمْدِ اللهِ والثَّناءِ عليه: "أمَّا بعْدُ، فإنَّ اللهَ جَمَعَ بِهذا النِّكاحِ الأرْحامَ المُنْقطِعةَ، والأنْسابَ المُتفرِّقةَ، وجَعَلَ ذلك في سُنَّةٍ مِن دينِه، ومِنْهاجٍ واضِحٍ مِن أمْرِه، وقدْ خَطَبَ إليكم فُلانٌ، وعليه مِن اللهِ نِعْمةٌ"
[397] ((البيان والتبيين)) للجاحظ (2/68). .
4- خُطَبُ المَحافِلِ والوُفودِ:عَرَفَ الأدَبُ الجاهِليُّ هذا النَّوْعَ مِن الخُطَبِ؛ فقدْ كانَتِ الوُفودُ تَدخُلُ على المُلوكِ والأمَراءِ فيَخطُبُ أحَدُهم مادِحًا المَلِكَ أو الأميرَ، مُعَرِّجًا مِن مَدْحِه إلى بَيانِ مُشْكلاتِ القَبيلةِ ومُتَطلَّباتِها، فيُجيبُهم المَلِكُ إلى ذلك، ويُزيلُ عنهم شَكْواهم.
ولمَّا ظَهَرَ الإسْلامُ وقَوِيَتْ شَوْكتُه، جاءَه النَّاسُ مِن كلِّ حَدْبٍ وصَوْبٍ، ما بيْنَ مُسْتَفْهِمٍ مُسْتَبْينٍ لحَقيقةِ ذلك الدِّينِ وما يَدْعو إليه، وبيْنَ مُتَحَدٍّ جاءَ يُثبِتُ فَصاحتَه ويَدحَضُ -بزَعْمِه- إعْجازَ القُرآنِ، أو جاءَ يُظهِرُ شَرَفَ قَوْمِه ورِفعةَ مَنْزِلتِه، وأنَّه أهْلٌ للرِّئاسةِ والمَجْدِ، فلمَ اسْتَحقَّ مُحمَّدٌ ذلك؟!
وقد كانَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَأذَنُ لِهؤلاء الخُطَباءِ في أن يقولوا ما شاؤوا، ثُمَّ يَقومُ فيَرُدُّ عليهم، أو يُكلِّفُ أحَدًا مِن خُطَبائِه بالرَّدِّ عليهم.
ومِثالُ ذلك لمَّا قَدِمَ وَفْدُ بَني تَميمٍ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ودَخَلوا المَسجِدَ نادَوا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن وَراءِ الحُجُراتِ: أنِ اخْرُجْ إلينا يا مُحمَّدُ، فآذى ذلك مِن صِياحِهم رَسولَ اللهِ، فخَرَجَ إليهم، فقالوا: يا مُحمَّدُ، جِئْناك لنُفاخِرَك، فأْذَنْ لشاعِرِنا وخَطيبِنا، قالَ: نَعمْ، أذِنْتُ لخَطيبِكم فلْيَقُلْ، فقامَ إليه عُطارِدُ بنُ حاجِبٍ، فقالَ: (الحَمْدُ للهِ الَّذي له علينا الفَضْلُ وهو أهْلُه، الَّذي جَعَلَنا مُلوكًا، ووَهَبَ لنا أمْوالًا عِظامًا نَفعَلُ فيها المَعْروفَ، وجَعَلَنا أعَزَّ أهْلِ المَشرِقِ وأكْثَرَه عَدَدًا وأيْسَرَه عُدَّةً، فمَن مِثلُنا في النَّاسِ؟! ألسْنا برُؤوسِ النَّاسِ وأُولي فَضْلِهم! فمَن يُفاخِرُنا فلْيُعدِّدْ مِثلَ ما عَدَّدْنا، وإنَّا لو نَشاءُ لأكْثَرْنا الكَلامَ، ولكنَّا نَحْيا مِن الإكْثارِ فيما أعْطانا، وإنَّا نُعرَفُ بذلك، أقولُ هذا الآنَ لِتَأتونا بمِثلِ قَوْلِنا، وأمْرٍ أفْضَلَ مِن أمْرِنا).
ثُمَّ جَلَسَ، فقالَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لثابِتِ بنِ قَيْسِ بنِ شَمَّاسٍ أخي بَني الحارِثِ بنِ الخَزْرَجِ:
((قُمْ فأجِبِ الرَّجُلَ في خُطبتِه)).
فقامَ ثابِتٌ، فقالَ: (الحَمْدُ للهِ الَّذي السَّمواتُ والأرْضُ خَلْقُه، قَضى فيهنَّ أمْرَه، ووسِع كُرْسيَّه عِلمُه، ولم يَكُ شيءٌ قَطُّ إلَّا مِن فَضْلِه، ثُمَّ كانَ مِن قُدرتِه أن جَعَلَنا مُلوكًا، واصْطَفى مِن خَيْرِ خَلْقِه رَسولًا، أكْرَمَهم نَسَبًا، وأصْدَقَهم حَديثًا، وأفْضَلَهم حَسَبًا، فأنْزَلَ عليه كِتابَه، وائْتَمنَه على خَلْقِه، فكانَ خِيرةَ اللهِ مِن العالَمينَ، ثُمَّ دَعا النَّاسَ إلى الإيمانِ، فآمَنَ برَسولِ اللهِ المُهاجِرونَ مِن قَوْمِه وذَوي رَحِمِه، أكْرَمُ النَّاسِ أنْسابًا، وأحْسَنُ النَّاسِ وُجوهًا، وخَيْرُ النَّاسِ فِعالًا، ثُمَّ كانَ أوَّلَ الخَلْقِ إجابةً واسْتَجابَ للهِ حينَ دَعا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نحن؛ فنحن أنْصارُ اللهِ ووُزَراءُ رَسولِه، نُقاتِلُ النَّاسَ حتَّى يُؤْمِنوا باللهِ، فمَن آمَنَ باللهِ ورَسولِه مَنَعَ مالَه ودَمَه، ومَن كَفَرَ جاهَدْناه في اللهِ أبَدًا، وكانَ قَتْلُه علينا يَسيرًا. أقولُ قَولي هذا وأسْتَغْفِرُ اللهَ للمُؤْمِنينَ وللمُؤْمِناتِ، والسَّلامُ عليكم).
ثُمَّ أذِنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لشاعِرِهم، فقامَ الزِّبْرِقانُ بنُ بَدْرٍ، فأنْشَدَ مُفْتخِرًا بقَوْمِه، فقامَ حسَّانُ بنُ ثابِتٍ رَضيَ اللهُ عنه فَرَدَّ عليه وأحْسَنَ.
فلمَّا فَرَغَ قالَ الأقْرَعُ بنُ حابِسٍ: وأبي، إنَّ هذا الرَّجُلَ لمُؤَتًّى له؛ لَخَطيبُه أخْطَبُ مِن خَطيبِنا، ولشاعِرُه أشْعَرُ مِن شاعِرِنا! فلمَّا فَرَغوا أسْلَموا جَميعًا، وأحْسَنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إليهم وكافَأهم
[398] ينظر: ((سيرة ابن هشام)) (2/ 562)، ((تاريخ الطبري)) (3/119) .
5- الخُطَبُ السِّياسيَّةُ: أصابَتِ الدَّوْلةَ الإسْلاميَّةَ بعضُ الأمورِ السِّياسيَّةِ القَويَّةِ، الَّتي كانَتْ تُحَتِّمُ على القائِدِ بَيانَ مَوقِفِ الدَّوْلةِ مِنها، وأن يُظهِرَ سِياستَه فيها، تَتَجلَّى فيها حِكْمتُه وحُنْكتُه السِّياسيَّةُ، بلْ كانَ الخَليفةُ يَستَهِلُّ حُكْمَه بخُطبةٍ يُوضِّحُ فيها الخُطَّةَ الَّتي سيَنْتَهِجُها في سِياسةِ أُمورِ الرَّعيَّةِ، وكذلك كانَ يَفعَلُ الوُلاةُ في أمْصارِهم
[399] ينظر: ((أدب صدر الإسلام)) لمحمد خضر (ص: 363) .
ولَعَلَّ أوَّلَ ما نَلْقاه مِن ذلك خُطْبةُ
أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ في السَّقيفةِ، حينَ اجْتَمعَ الأنْصارُ يَوْمَ موْتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في سَقيفةِ بَني ساعِدةَ، يَتَشاوَرونَ فيمَن يَخْتارونَه مِنهم ليَليَ أمْرَ المُسلِمينَ مِن بعْدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فذَهَبَ
أبو بَكْرٍ ومعَه عُمَرُ و
أبو عُبَيدةَ بنُ الجَرَّاحِ، فقامَ خَطيبُ الأنْصارِ فتَشهَّدَ وأثْنى على اللهِ، ثُمَّ قالَ: (أمَّا بَعْدُ، فنحن أنْصارُ اللهِ وكَتيبةُ الإسْلامِ، وأنتم يا مَعشَرَ المُهاجِرينَ رَهْطٌ مِنَّا، وقد دَفَّتْ دافَّةٌ مِن قَوْمِكم، وإذا هُمْ يُريدونَ أن يَحْتازونا مِن أصْلِنا، ويَغْصِبونا الأمْرَ).
فأرادَ عُمَرُ أن يَخطُبَ، وكانَ قد جَهَّزَ كَلامًا يقولُه، فقالَ
أبو بَكْرٍ: على رِسْلِك يا عُمَرُ، فسَكَتَ عُمَرُ، ثُمَّ قامَ
أبو بَكْرٍ فخَطَبَ على البَديهةِ، فحَمِدَ اللهَ وأثْنى عليه، وكانَ ممَّا قالَ: (أمَّا ما ذَكَرْتُم فيكم مِن خَيْرٍ فأنتم له أهْلٌ، ولن تَعرِفَ العَربُ هذا الأمْرَ إلَّا لِهذا الحَيِّ مِن قُرَيشٍ؛ هُمْ أوْسَطُ العَربِ نَسَبًا ودارًا، وقدْ رَضِيتُ لكم أحَدَ هذَينِ الرَّجُلَينِ، فبايعوا أيَّهما شِئْتُم) يُريدُ عُمَرَ و
أبا عُبَيدةَ، ثُمَّ يقولُ رَجُلٌ مِن الأنْصارِ: فمِنَّا أميرٌ ومِنكم أميرٌ، فقالَ عُمَرُ: لا يَصلُحُ سَيْفانِ في غِمْدٍ، وإنَّما مِنَّا الأمَراءُ ومِنكم الوُزَراءُ، وتَثورُ ثائِرةُ مَن في المَجلِسِ ويَكثُرُ اللَّغطُ، فيقولُ عُمَرُ ل
أبي بَكْرٍ: ابْسُطْ يدَك لأبايِعَك، فبايَعَه عُمَرُ، ثُمَّ بايَعَه المُهاجِرونَ والأنْصارُ
[400] ((سيرة ابن هشام)) (2/ 659)، ((السيرة النبوية وأخبار الخلفاء)) لابن حبان (2/ 421). .
ثُمَّ لمَّا كانَ الغَدُ اجْتَمعَ النَّاسُ للصَّلاةِ، فقامَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه على مِنبَرِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثُمَّ خَطَبَ في النَّاسِ فقالَ بعْدَ أن حَمِدَ اللهَ وأثْنى عليه: (أيُّها النَّاسُ، إنِّي كُنْتُ قُلْتُ لكم بالأمْسِ مَقالةً
[401] يريدُ قَولَه عند خَبَرِ مَوتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: واللهِ ما مات رَسولُ اللهِ، وإنما ذهب للقاءِ رَبِّه كما ذهب موسى بنُ عِمرانَ، ولِيَرجِعَنَّ رسولُ اللهِ فلَيَقطَعَنَّ أيديَ أقوامٍ وأرجُلَهم، زعموا أنَّه مات! ما كانَتْ ممَّا وجَدْتُها في كِتابِ اللهِ، ولا كانَتْ عَهْدًا عَهِدَ إليَّ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ولكنِّي قد كنْتُ أرى أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سيُدبِّرُ أمْرَنا؛ يقولُ: يكونُ آخِرَنا، وإنَّ اللهَ قد أبْقى فيكم كِتابَه الَّذي به هَدى اللهُ رَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فإنِ اعْتَصمْتُم به هَداكم اللهُ لِما كانَ هَداه له، وإنَّ اللهَ قد جَمَعَ أمْرَكم على خَيْرِكم؛ صاحِبِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ثاني اثْنَينِ إذ هُما في الغارِ، فقوموا فبايِعوه)، فقامَ النَّاسُ فبايَعوه بَيْعةً عامَّةً بعْدَ بَيْعةِ السَّقيفةِ.
ثُمَّ قامَ
أبو بَكْرٍ فخَطَبَ في النَّاسِ وقالَ: (أمَّا بعْدُ، أيُّها النَّاسُ؛ فإنِّي قد وُلِّيتُ عليكم ولسْتُ بخَيْرِكم، فإن أحْسَنْتُ فأعينوني، وإن أسَأتُ فقوِّموني، الصِّدْقُ أمانةٌ، والكَذِبُ خِيانةٌ، والضَّعيفُ فيكم قَوِيٌّ عنْدي حتَّى أُريحَ عليه حقَّه إن شاءَ اللهُ، والقَوِيُّ فيكم ضَعيفٌ عنْدي حتَّى آخُذَ الحَقَّ مِنه إن شاءَ اللهُ، لا يَدَعُ قَوْمٌ الجِهادَ في سَبيلِ اللهِ إلَّا ضَرَبَهم اللهُ بالذُّلِّ، ولا تَشيعُ الفاحِشةُ في قَوْمٍ قَطُّ إلَّا عَمَّهم اللهُ بالبَلاءِ، أطيعوني ما أطَعْتُ اللهَ ورَسولَه، فإذا عَصَيْتُ اللهَ ورَسولَه فلا طاعةَ لي عليكم. قوموا إلى صَلاتِكم يَرْحَمْكم اللهُ)
[402] ((السيرة النبوية)) لابن هشام (2/661)، ((السيرة النبوية)) لابن كثير (4/ 493). .
ثُمَّ كَثُرَتْ بَعْدَ ذلك الخُطَبُ السِّياسيَّةُ، فكانَ كلُّ خَليفةٍ يَسْتهِلُّ وِلايتَه بخُطْبةٍ يُبيِّنُ فيها مَلامِحَ سِياستِه، فَضْلًا عن الفِتْنةِ الَّتي أصابَتِ المُسلِمينَ أواخِرَ زَمانِ عُثْمانَ، واسْتَمرَّتْ إلى أن انْقَضَتْ فَتْرةُ الخِلافةِ الرَاشِدةِ، وكانَ لِزامًا أن تُوجَدَ الخُطْبةُ السِّياسيَّةُ الَّتي تُبيِّنُ حَقائِقَ الأمورِ، وتُفنِّدُ مَزاعِمَ المُفْتَرينَ.
ومِن أمْثِلةِ ذلك أنَّ عُثْمانَ بنَ عفَّانَ رَضيَ اللهُ عنه لمَّا تَمالَأ عليه الفَسَقةُ وحاصَروه، أشْرَفَ عليهم، وقالَ: أنشُدُكم اللهَ، ولا أنشُدُ إلَّا أصْحابَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ألسْتُم تَعلَمونَ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: «مَن حَفَرَ رُومةَ فلَه الجَنَّةُ
» فحَفَرْتُها؟ ألسْتُم تَعلَمونَ أنَّه قالَ: «مَن جَهَّزَ جَيْشَ العُسْرةِ فلَه الجَنَّةُ
» فجَهَّزْتُهم؟ قال: فصَدَّقوه بما قالَ
[403] أخرجه البخاري معلقاً (2778) واللفظ له، وأخرجه موصولاً الترمذي (3699)، والنسائي (3610) باختلاف يسير. .