المَطْلَبُ الأوَّلُ: جَريرٌ
هو
أبو حَزْرةَ،
جَريرُ بنُ عَطيَّةَ بنِ حُذَيفةَ الخَطَفيُّ بنُ بَدْرٍ الكَلْبيُّ اليَرْبوعيُّ التَّميميُّ. وُلِدَ وماتَ في اليَمامةِ، وعُمِّرَ نَيِّفًا وثَمانينَ سَنةً.
كانَ
جَريرٌ مِن فُحولِ شُعَراءِ الإسلامِ، ويُشَبَّهُ مِن شُعَراءِ الجاهِليَّةِ بالأعْشى. وكانَ
أبو عَمْرِو بنُ العَلاءِ يقولُ: هما بازيَّانِ يَصيدانِ ما بيْنَ العَنْدليبِ إلى الكُرْكيِّ.
وكانَ مِن أحْسَنِ النَّاسِ تَشْبيبًا؛ قالَ الأصْمَعيُّ: سَمِعْتُ الحَيَّ يَتَحدَّثونَ أنَّ
جَريرًا قالَ: لولا ما شَغَلني مِن هذه الكِلابِ لشَبَّبْتُ تَشْبيبًا تَحِنُّ مِنه العَجوزُ إلى شَبابِها كما تَحِنُّ النَّابُ إلى سَقَبِها، وكانَ معَ حُسْنِ تَشْبيبِه عَفيفًا.
وكانَ مِن أشَدِّ النَّاسِ هِجاءً؛ قالَ الأصْمَعيُّ: أخَبَرَنا شَيْخٌ مِن أهْلِ البَصْرةِ قالَ: مَرَّ راعٍ بالإبِلِ في سَفَرٍ فسَمِعَ إنْسانًا يَتغنَّى على قَعودٍ له بشِعْرِ
جَريرٍ، وهو قَوْلُه:
وعاوٍ عَوى مِن غَيْرِ شيءٍ رَمَيْتُه
بقافِيةٍ أنْفاذُها تَقْطُرُ الدَّما
خَروجٍ بأفْواهِ الرُّواةِ كأنَّها
قِرى هِنْدُوانيٍّ إذا هُزَّ صَمَّما
فقالَ: لِمَن هذا؟ قيلَ: ل
جَريرٍ، فقالَ الرَّاعي: لَعْنةُ اللهِ على مَن يَلومُني أن يَغلِبَني مِثلُ هذا!
[468] ينظر: ((الشِّعْر والشُّعَراء)) لابن قتيبة (1/456). وهو أشْعَرُ أهْلِ طَبَقَتِه عنْدَ أكْثَرِ العُلَماءِ، قالَ بَشَّارُ بنُ بُرْدٍ: (أجْمَعَ أهْلُ الشَّامِ على
جَريرٍ و
الفَرَزْدَقِ، والأَخْطَلُ دونَهما، وممَّن فَضَّلَ
جَريرًا على
الفَرَزْدَقِ: ابنُ هَرْمةَ، وعُبَيْدةُ بنُ هِلالٍ).
وقالَ
الفَرَزْدَقُ لامْرأتِه النَّوارِ: أنا أشْعَرُ أمِ ابنُ المَراغةِ -يَعْني
جَريرًا-؟ فقالت: غَلَبَك على حُلْوِه، وشَرِكَك في مُرِّه
[469] يُنظر: ((تاريخ الإسلام)) للذهبي (3/ 23). .
وله أشعارٌ كَثيرةٌ في جَميعِ أغْراضِ الشِّعْرِ، ومِن جَيِّدِ شِعْرِه قَوْلُه في مَدْحِ
عبْدِ المَلِكِ بنِ مَرْوانَ:
ثِقي باللهِ ليس له شَريكٌ
ومِن عنْدِ الخَليفةِ بالنَّجاحِ
أغِثْني يا فِداكَ أبي وأمِّي
بسَيْبٍ مِنك إنَّك ذو ارْتِياحِ
وإنِّي قد رأيْتُ عَلَيَّ حَقًّا
زِيارتيَ الخَليفةَ وامْتِداحي
سأشْكُرُ أن رَدَدْتَ عليَّ رِيشي
وأثْبَتَّ القَوادِمَ في جَناحي
ألَسْتُم خيْرَ مَن رَكِبَ المَطايا
وأنْدى العالَمينَ بُطونَ راحِ
وقَوْمٍ قد سَمَوْتَ لهم فدانوا
بدُهْمٍ في مُلَمْلَمةٍ رَداحِ
أبَحْتَ حِمى تِهامةَ بعْدَ نَجْدٍ
وما شيءٌ حَمَيْتَ بمُسْتَباحِ
لكم شُمُّ الجِبالِ مِن الرَّواسي
وأعْظَمُ سَيْلِ مُعْتلِجِ البِطاحِ
دَعَوْتَ المُلْحِدينَ أبا خُبَيبٍ
جِماحًا هل شُفيتَ مِن الجِماحِ
فقد وَجَدوا الخَليفةَ هِبْرِزيًّا
ألَفَّ العيصِ ليس مِن النَّواحي
فما شَجَراتُ عيصِك في قُرَيشٍ
بعَشَّاتِ الفُروعِ ولا ضَواحي
رأى النَّاسُ البَصيرةَ فاسْتَقاموا
وبَيَّنَتِ المِراضَ مِن الصِّحاحِ
[470] ((شرح ديوان جَرير)) لمُحمَّد ابن حَبيب (1/87). ومِنه قَوْلُه:يا أُمَّ عَمْرٍو جَزاكِ اللهُ مَغفِرةً
رُدِّي عليَّ فُؤادي كالَّذي كانا
ألستِ أحْسَنَ مَن يَمْشي على قَدَمٍ
يا أمْلَحَ النَّاسِ كُلِّ النَّاسِ إنْسانا
يَلْقى غَريمُكمُ مِن غيْرِ عُسْرتِكم
بالبَذْلِ بُخْلًا وبالإحْسانِ حِرْمانا
لا تَأمَنَنَّ فإِنِّي غيْرُ آمِنِهِ
غَدْرَ الخَليلِ إذا ما كانَ ألْوانا
قد خُنْتِ مَن لم يكُنْ يَخْشى خِيانتَكم
ما كُنْتِ أوَّلَ مَوْثوقٍ بهِ خانا
لقد كَتَمْتُ الهَوى حتَّى تَهَيَّمَني
لا أسْتَطيعُ لِهذا الحُبِّ كِتْمانا
كادَ الهَوى يَوْمَ سُلْمانينَ يَقتُلُني
وكادَ يَقتُلُني يَوْمًا بِبَيْدانا
وكادَ يَوْمَ لِوى حَوَّاءَ يَقتُلُني
لو كنْتُ مِن زَفَراتِ البَيْنِ قُرْحانا
لا بارَكَ اللهُ فيمَن كانَ يَحسَبُكم
إلَّا على العَهْدِ حتَّى كانَ ما كانا
مِن حُبِّكم فاعْلَمي لِلحُبِّ مَنزِلَةً
نَهْوى أميرَكمُ لو كانَ يَهْوانا
لا بارَكَ اللهُ في الدُّنيا إذا انْقَطَعَتْ
أسْبابُ دُنْياكِ مِن أسْبابِ دُنْيانا
يا أمَّ عُثْمانَ إنَّ الحُبَّ عنْ عَرَضٍ
يُصْبي الحَليمَ ويُبْكي العَيْنَ أَحْيانا
ضَنَّتْ بمَورِدةٍ كانَت لنا شَرَعًا
تَشْفي صَدى مُستَهامِ القَلْبِ صَدْيانا
كيف التَّلاقي ولا بِالقَيْظِ مَحضَرُكم
مِنَّا قَريبٌ ولا مَبْداكِ مَبْدانا
نَهْوى ثَرى العِرْقِ إِذ لم نَلْقَ بَعْدَكمُ
كالعِرْقِ عِرْقًا ولا السُّلَّانِ سُلَّانا
ما أحْدَثَ الدَّهْرُ ممَّا تَعلَمينَ لكُم
لِلحَبْلِ صَرْمًا ولا لِلعَهْدِ نِسيانا
أَبُدِّلَ اللَّيلُ لا تَسْري كَواكِبُهُ
أمْ طالَ حتَّى حَسِبْتُ النَّجْمَ حَيْرانا
يا رُبَّ عائِذةٍ بالغَوْرِ لو شَهِدَتْ
عَزَّتْ عليها بدَيْرِ اللُّجِّ شَكْوانا
إنَّ العُيونَ الَّتي في طَرْفِها حَوَرٌ
قَتَلْنَنا ثُمَّ لم يُحْيينَ قَتْلانا
يَصرَعْنَ ذا اللُّبِّ حتَّى لا حَراكَ بهِ
وهُنَّ أَضْعَفُ خَلْقِ اللهِ أرْكانا
[471] ((ديوان جَرير بشرح مُحمَّد بن حَبيب)) (1/ 161). .