تَمْهيدٌ: الأدَبُ في العَصْرِ العبَّاسيِّ
العَصْرُ العبَّاسيُّ:هو المُدَّةُ الزَّمنيَّةُ الَّتي ظهَرَتْ فيها الدَّوْلةُ العبَّاسيَّةُ على يَدِ العبَّاسيِّينَ بعْدَ سُقوطِ الأُمَوِيِّينَ، ويَمتَدُّ نَسَبُهم إلى العبَّاسِ بنِ عبْدِ المُطَّلِبِ عَمِّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وقامَت هذه الدَّولةُ عامَ 132ه، واسْتَمرَّتْ قُرونًا عَديدةً مِن الزَّمانِ، حتَّى سَقَطَتْ على يَدِ التَّتارِ عامَ 656ه.
تَقْسيمُ العُلَماءِ للعَصْرِ العبَّاسيِّ:تَفاوَتَتْ ظُروفُ الحَياةِ تحتَ رايةِ العبَّاسيِّينَ تَفاوُتًا كَبيرًا؛ حيثُ ظَلَّتْ حَوالَي قَرْنٍ مِن الزَّمانِ في أوْجِ الرَّفاهيةِ والازْدِهارِ المادِّيِّ والعِلميِّ والثَّقافيِّ والاجْتِماعيِّ، ثُمَّ نَخَرَ فيها الضَّعْفُ شيئًا فشيئًا حتَّى صارَتِ الخِلافةُ مُجرَّدَ اسمٍ لا يَملِكُ صاحِبُه أن يَحفَظَ حَياةَ نفْسِه، وكانَ الأمْرُ مَوْكولًا إلى الأتْراكِ أو البُوَيْهيِّينَ أو غيْرِهم ممَّن اسْتَحْوَذوا على زِمامِ الأمورِ حَقيقةً.
ولِهذا فإنَّ المُؤَرِّخينَ يُقَسِّمونَ العَصْرَ العبَّاسيَّ إلى:العَصْرِ العبَّاسيِّ الأوَّلِ: وهو العَصْرُ الَّذي بَدَأَ معَ سُقوطِ دَولةِ الأُمَوِيِّينَ سَنَةَ 132ه، إلى أن قُتِلَ الخَليفةُ المُتوَكِّلُ سَنَةَ 247ه. وهذا العَصْرُ هو العَصْرُ الذَّهبيُّ للدَّوْلةِ العبَّاسيَّةِ؛ حيثُ تَولَّى فيه الحُكْمَ خُلَفاءُ أقْوِياءُ، مِثلُ
المَنْصورِ و
الرَّشيدِ و
المَأمونِ والمُعْتَصِمِ، كما ازْدَهَرَتِ الحَياةُ العِلميَّةُ والثَّقافيَّةُ فيه بتَشْجيعِ الخُلَفاءِ للعُلَماءِ وحَرَكاتِ التَّرْجمةِ وغيْرِ ذلك.
العَصْرِ العبَّاسيِّ الثَّاني: وهو العَصْرُ الَّذي بَدَأَ بمَقتَلِ الخَليفةِ المُتوَكِّلِ سَنَةَ 247ه، وانْتَهى بسُقوطِ الدَّوْلةِ العبَّاسيَّةِ على أيْدي التَّتارِ حينَ اقْتَحَموا بَغْدادَ وقَتَلوا الخَليفةَ المُسْتَعْصِمَ باللهِ سَنَةَ 656ه، وهذا العَصْرُ هو عَصْرُ الضَّعْفِ والانْحِلالِ، وأهَمُّ ما يُميِّزُه:
أ- ضَعْفُ الخُلَفاءِ وسَيْطرةُ العَسْكَريِّينَ على الخِلافةِ.
ب- نُشوءُ دُوَيلاتٍ كَثيرةٍ انْفَصلَتْ -فِعْليًّا- عن طاعةِ الخَليفةِ، وبَقيَتْ تحتَ ظِلِّ الدَّوْلةِ العبَّاسيَّةِ اسمًا فقط.
ت- كَثْرةُ الحَرَكاتِ والثَّوْراتِ المُناهِضةِ للعبَّاسيِّينَ، مِن الهاشِميِّينَ وغيْرِهم.
ث- الغَزْوُ الصَّليبيُّ لبِلادِ المُسلِمينَ.
على أنَّ المُؤَرِّخينَ يُقَسِّمونَ ذلك العَصْرَ إلى عُصورٍ مُخْتلِفةٍ؛ حيثُ يَبدَأُ عَصْرُ نُفوذِ الأتْراكِ مِن سَنَةِ 247ه إلى سَنَةِ 334ه، وقد كانَ المُعْتَصِمُ هو الَّذي جَلَبَ الأتْراكَ لتَعْبِئةِ الجُيوشِ بهم، واسْتَطاعوا ببُطولتِهم أن يَنالوا مَكانةً مَرْموقةً في الجَيْشِ حتَّى صارَتْ إليهم سُدَّةُ الأمْرِ، فكانوا يَسجُنونَ مَن شاؤوا، ويُبايِعونَ للخِلافةِ مَن أرادوا، ويَخْلَعونَ مِنها كذلك!
ثُمَّ يَبدَأُ عَصْرُ البُوَيْهيِّينَ مِن سَنَةِ 334ه إلى سَنَةِ 447ه، وفيه اسْتَحْوَذَ الشِّيعةُ البُوَيْهيُّونَ على مَقاليدِ الحُكْمِ، وبَدَرَتْ مِنهم أعْمالٌ مُنكَرةٌ ضِدَّ الإسلامِ.
ثُمَّ آلَ الأمْرُ إلى السَّلاجِقةِ، وهُمْ أهْلُ سُنَّةٍ مِن قَبائِلِ الغُزِّ التُّرْكيَّةِ، مِن سَنَةِ 447ه إلى أن سَقَطَتِ الخِلافةُ نِهائيًّا على يَدِ التَّتارِ سَنَةَ 656ه
[520] يُنظر: ((موجز التاريخ الإسلامي من عهد آدم إلى عصرنا الحاضر)) لأحمد معمور العسيري (ص: 203). .
ومعَ اخْتِلافِ الحَياةِ السِّياسيَّةِ والاقْتِصاديَّةِ والعِلميَّةِ في تلك العُصورِ، فإنَّ الشِّعْرَ ازْدَهَرَ في أوَّلِ العَصْرِ العبَّاسيِّ، وظَلَّ على رُقِيِّه وازْدِهارِه معَ تَغايُرِ الأحْوالِ، وإن كانت فَتْرةُ ضَعْفِ الخُلَفاءِ زهَّدَتِ الشُّعَراءَ عن مَدْحِهم، فإنَّهم وَجَدوا في مَدْحِ الوُزَراءِ والأُمَراءِ المُسْتقلِّينَ غُنْيةً.
ولِهذا آثَرْنا إجْمالَ الحَديثِ عن الأدَبِ العبَّاسيِّ دونَ الحاجةِ إلى تَقْسيمِ الأدَبِ العبَّاسيِّ إلى عُصورِه المُخْتلِفةِ؛ لأنَّ الغَرَضَ مِن المَوْسوعةِ إنَّما هو الأدَبُ لا التَّاريخُ، ولأنَّ ذلك يُطيلُ الأمْرَ جدًّا، فَضْلًا عن أنَّ الشِّعْرَ لم يَنْحَطَّ بانْحِطاطِ الدَّوْلةِ.