المَطْلَبُ الثَّالثُ: الأوْزانُ والقَوافي
وَصَلَتْ أيدي الحَداثةِ والتَّجْديدِ إلى الأوْزانِ والبُحورِ العَروضيَّةِ، فكانوا يَنظِمونَ على الأوْزانِ الخَفيفةِ والمَجْزوءةِ، وعلى وَزْنِ المُجْتَثِّ الَّذي اقْتَرَحَه الوَليدُ بنُ يَزيدَ.
ولم يَلبَثِ الشَّاعِرُ العبَّاسيُّ أن حاوَلَ النُّفوذَ إلى أوْزانٍ جَديدةٍ، وإذا هو يَكتَشِفُ وَزْنَينِ سَجَّلَهما الخَليلُ بنُ أحْمَدَ حينَ وَضَعَ نَظريَّةَ العَروضِ، وهما وَزْنا المُضارِعِ والمُقْتَضَبِ،
أمَّا المُضارِعُ فأجْزاؤه: "مَفاعيلُن فاعِلاتُن مَفاعيلُن"، ودائِمًا تُحذَفُ فيه التَّفْعيلةُ الأخيرةُ، ومِنه مَقْطوعةُ
أبي العَتاهيةِ:
أيا عُتْبَ ما يَضرُّ
كِ أن تُطْلِقي صِفادي
[531] لم أقف عليه في ديوان أبي العتاهية، ويُنظر: ((الفصول والغايات)) لأبي العلاء المعري (ص: 40). وأمَّا المُقْتَضَبُ فأجْزاؤُه: "مَفْعولاتُ مُسْتفْعِلُن مُسْتفْعِلُن"، وتُحذَفُ منه التَّفْعيلةُ الأخيرةُ أيضًا، كما يَلقانا عنْدَ
أبي نُواسٍ في مَقْطوعتِه:
حامِلُ الهَوى تَعِبُ
يَسْتخِفُّه الطَّرَبُ
إن بكى يَحِقُّ له
ليس ما به لَعِبُ
[532] ((ديوان أبي نواس)) (ص: 51). بَيْدَ أنَّ الشُّعَراءَ قد اسْتَخْدَموا الثَّانيَ أكْثَرَ مِن الأوَّلِ؛ لأنَّه أكْمَلُ نَغْمًا وإيقاعًا مِن سابِقِه، ثُمَّ بعْدَ ذلك كَثُرَ نَظْمُهم على بَحْرِ المُتَدارَكِ أو الخَبَبِ الَّذي اسْتَدرَكَه الأخْفَشُ على الخَليلِ، وأجْزاؤُه: "فاعِلُن فاعِلُن فاعِلُن فاعِلُن"، وهذا الوَزْنُ كانَ نادِرَ الاسْتِعْمالِ في العُصورِ الأُولى، وأوَّلُ مَن بادَرَ إلى مُحاكاةِ هذا الوَزْنِ
أبو العَتاهيةِ في قَوْلِه:
همُّ القاضي بَيْتٌ يُطرِبْ
قال القاضي لمَّا طولِبْ
ما في الدُّنيا إلَّا مُذنِبْ
هذا عُذْرُ القاضي واقْلِبْ
[533] ((ديوان أبي العتاهية)) (ص: 76). والَّذي أضاءَ للشُّعَراءِ طَريقَ هذا التَّجْديدِ الخَليلُ بنُ أحْمَدَ؛ فقدِ اكْتَشَفَ للشُّعَراءِ أوْزانًا جَديدةً كَثيرةً لم يَسْتَخْدِمْها أسْلافُهم، وذلك أنَّه اسْتَضَاءَ بفِكرةِ التَّباديلِ والتَّوافيقِ الرِّياضيَّةِ في وَضْعِ عَروضِ الشِّعْرِ، إذ جَعَلَ أوْزانَه تَدورُ في خَمْسِ دَوائِرَ، أو بعِبارةٍ أدَقَّ تَدورُ أجْزاؤُها مِن الأسْبابِ والأوْتادِ، فإذا هو يُحْصي الأوْزانَ الَّتي اسْتَخْدَمَها العَربُ واضِعًا لها ألْقابَها، ويَسْتَنبِطُ أوْزانًا أخرى مَهْمَلةً لم يَسْتخْدِموها في أشْعارِهم؛ كي يَنفُذَ مِنها الشَّاعِرُ العبَّاسيُّ إلى ما يُريدُ مِن تَجْديدٍ في أوْزانِ الشِّعْرِ وبُحورِه، فنَتَجَ عن ذلك أوْزانٌ كَثيرةٌ وتَجْديداتٌ في الشِّعْرِ، حتَّى إنَّهم اسْتَحدَثوا أوْزانًا أخرى بقَلْبِ التَّفْعيلاتِ وإضافةِ تَفْعيلاتٍ لأخرى، مِثلُ قَوْلِ
أبي العَتاهيةِ:
للمَنونِ دائِراتٌ يُدِرْنَ صَرْفَها
هنَّ يَنْتَقينَنا واحِدًا فواحِدا
[534] لم أقِفْ عليه في ديوانِه. يُنظر: ((الشِّعْر والشُّعَراء)) لابن قتيبة (2/780). وقَوْلِه:عُتْبُ ما للخَيالِ
خبِّريني وما لي
لا أراه أتاني
زائِرًا مُذْ ليالي
[535] لم أقِفْ على البيتينِ في ديوانِه. يُنظر: ((الشِّعْر والشُّعَراء)) لابن قتيبة (2/780). ووَزْنُ البَيْتِ الأوَّلِ "فاعِلُن مَسْتفعِلُن فاعِلُن مُسْتفعِلُن"، فهو عَكْسُ البَسيطِ، في حينِ وَزْنُ البَيْتَينِ الآخَرينِ "فاعِلُن فاعِلاتُن"، وهو عَكْسُ وَزْنِ المَديدِ، وإن كان هذانِ الوَزْنانِ مُهْملَينِ.
وكذلك جَدَّدوا في قَوافيهم، فاسْتَحْدَثوا فيها ألْوانًا لم يكنْ للأوَّلينَ عَهْدٌ بها، فمِن ذلك القَوافي المُزْدَوجةُ، وهو ألَّا تكونَ القَصيدةُ على قافِيةٍ واحِدةٍ ورَوِيٍّ واحِدٍ، وإنَّما يكونُ البَيْتُ الواحِدُ أو عِدَّةُ أبْياتٍ على قافِيةٍ واحِدةٍ دونَ سائِرِ القَصيدةِ، وهكذا لكلِّ عِدَّةِ أبْياتٍ قافِيةٌ ورَوِيٌّ خاصٌّ، كما يَتَّحِدُ عَجُزُ البَيْتِ وصَدْرُه في القافِيةِ والرَّوِيِّ، فتكونُ كلُّ الأبْياتِ مُصَرَّعةً.
وقد نَشَأَ عن هذا التَّطوُّرِ ظُهورُ الرُّباعيَّاتِ في الشِّعْرِ، وهي أن يَأتيَ البَيْتانِ على قافِيةٍ واحِدةٍ يَتَّفِقُ فيها ضَرْبُ البَيْتَينِ وعَروضُ البَيْتِ الأوَّلِ، في حينِ تَخْتلِفُ قافِيةُ عَروضِ البَيْتِ الثَّاني، ومِن هذا رُباعيَّةُ
أبي نُواسٍ الَّتي يقولُ فيها:
أدِرِ الكأسَ وأعْجِلْ مِن حَبَسْ
واسْقِنا ما لاحَ نَجْمٌ في الغَلَسْ
قَهْوةً كَرْخيَّةً مَشْمولةً
تَنفُضُ الوَحْشةَ عنَّا بالأنَسْ
[536] لم أقِفْ على تلك الأبيات في الدِّيوانِ. يُنظر: ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (3/ 198). وعلى غِرارِ الرُّباعيَّاتِ ظَهَرَتْ المُسمَّطاتُ، وهي قَصائِدُ تَتَألَّفُ مِن أدْوارٍ، كلُّ دَوْرٍ يَتَركَّبُ مِن أرْبَعةِ شُطورٍ أو أكْثَرَ، تَأتي تلك القَصيدةُ على قافِيةٍ واحِدةٍ لكلِّ دَوْرٍ مِنها، إلا أنَّ الشَّطْرَ الأخيرَ مِن كلِّ دَوْرٍ يُخالِفُ قافِيةَ الدَّوْرِ ويَتَّفِقُ معَ قافِيةِ الدَّوْرِ الأوَّلِ، وبِهذا تكونُ قافِيةُ آخِرِ شَطْرٍ مِن كلِّ دَوْرٍ تَتَّفِقُ معَ قافِيةِ الدَّوْرِ الأوَّلِ، وسُمِّيَتْ مُسمَّطةً مِن السَّمْطِ الَّذي هو القِلادةُ تَنْتظِمُها عِدَّةُ سُلوكٍ تَجْتمِعُ عنْدَ جَوْهرةٍ أو لُؤْلؤةٍ
[537] ومن مُستحدَثاتِ هذا العَصْر وَزْنٌ شعبيٌّ جديدٌ، وهو المواليا، ويقالُ: إنَّ سَبَبَ ظهورِه أنَّ الرَّشيدَ منع النَّاسَ مِن رِثاءِ البرامكةِ، فلم يجرُؤوا على رثائِهم، ولكِنَّ جاريةً لجَعفَرِ بنِ يحيى البَرمكيِّ بكَتْه في أشعارٍ نظمَتْها من هذا الوَزْنِ بالعامِّيَّة، وكانت تختِمُها بكَلمةِ (يا مواليه). .
ومِن أمْثِلةِ المُسمَّطِ المُرَبَّعِ خَمْريَّةٌ لأبي نُواسٍ:سُلافُ دَنِّ
كشَمْسِ دَجْنِ
كدَمْعِ جَفْنِ
كخَمْرِ عَدْنِ
طَبيخُ شَمْسِ
كلَوْنِ وَرْسِ
رَبيبُ فرسِ
حَليفُ سِجْنِ
يا مَن لَحاني
على زَماني
اللَّهْوُ شاني
فلا تَلُمْني
[538]لم أقف عليه في الديوان. يُنظر: ((أخبار أبي نواس)) لعبد الله بن حرب العبدي (ص: 10). ومِنه قَوْلُ أبي المَعالي بنِ مُسلِمٍ:يا ريمُ كم تَجنَّى
لِمْ قد صَدَدْتَ عنَّا
صِلْ عاشِقًا مُعنَّى
بالوَصْلِ ما تَهنَّى
السَّلْسَبيلُ ريقُ
والشَّهْدُ والرَّحيقُ
والوَرْدُ والشَّقيقُ
مِن وَجْنتَيه يُجْنَى
قد غيَّروا ولاموا
مَن شَفَّه السَّقامُ
ما يَنفَعُ المَلامُ
مَن في هواكَ جُنَّا
[539] يُنظر: ((خريدة القصر وجريدة العَصْر)) للكاتب الأصفهاني (2/ 309)، ((تاريخ الأدب العربي)) لشوقي ضيف (3/ 198).