المَبحَثُ الثَّاني: الشِّعْرُ الأنْدَلُسيِّ بَيْنَ التَّأثيرِ والتَّأثُّرِ
اخْتَلَفَتْ نَظْرةُ النُّقَّادِ والمُؤَرِّخينَ إلى الشِّعْرِ الأنْدَلُسيِّ؛ حيثُ انْقَسَموا في ذلك فَريقَينِ؛ فَريقٌ يَرى أنَّ الشِّعْرَ الأنْدَلُسيَّ ما هو إلَّا مُحاكاةٌ للشِّعْرِ العَربيِّ المَشْرِقيِّ، وجَرْيٌ على قَواعِدِه ونِظامِه في الصُّورةِ والمَعاني والمَوْضوعاتِ والألْفاظِ، وفَريقٌ يَرى أنَّه لا عَلاقةَ بَيْنَ الشِّعْرِ المَشْرِقيِّ والشِّعْرِ الأنْدَلُسيِّ؛ فالشِّعْرُ ما هو إلَّا نِتاجُ بيئتِه، وتَعْبيرٌ عن مُشْكِلاتِ أمَّتِه وطَبيعةِ حَياتِها الَّتي تَخْتلِفُ مِن مَكانٍ لآخَرَ، ولا بُدَّ في الأديبِ أن يكونَ ثَمَرةً للتَّفاعُلِ بَيْنَ بيئتِه وظُروفِها، وبَيْنَ عَقْليَّتِه ونِتاجِ فِكْرِه؛ فأهْلُ الأنْدَلُسِ -عنْدَ هذا الفَريقِ- كانوا مُجَدِّدينَ في أشْعارِهم وفُنونِهم، فلم تَذُبْ شَخْصيَّتُهم في شَخْصيَّةِ المَشارِقةِ، بلْ كانت لهم شَخْصيَّةٌ مُسْتقلَّةٌ، وانْفَرَدَتْ فُنونُهم عن فُنونِ غيْرِهم واسْتَقلَّتْ.
ويُمثِّلُ الفَريقَ الأوَّلَ الذَّاهِبَ إلى إرْجاعِ الحَضارةِ الأدَبيَّةِ للأنْدَلُسِ إلى المَشرِقِ الدُّكْتورُ شَوْقي ضَيف، الَّذي يُبالِغُ في نِسْبةِ الشِّعْرِ الأنْدَلُسيِّ إلى المَشارِقةِ، وأنَّه ليس للأنْدَلُسيِّينَ أيُّ دَوْرٍ في تَطْويرِه أو تَطْويعِه للتَّوافُقِ معَ بيئتِهم، بلْ هُمْ مُقلِّدونَ لغيْرِهم، ولم يُغيِّروا شيئًا في الشِّعْرِ سِوى الإكْثارِ مِن شِعْرِ وَصْفِ الطَّبيعةِ؛ يقولُ: (ونحن لا نُبالِغُ إذا قُلْنا بأنَّ شَخْصيَّةَ الأنْدَلُسِ في الأدَبِ العَربيِّ ليست مِن القُوَّةِ كما يَنْبغي، وخاصَّةً إذا أهْمَلْنا جانِبَ البيئةِ؛ فمِمَّا لا شَكَّ فيه أنَّ هذا الجانِبَ أثَّرَ أثَرًا واضِحًا في طَبيعةِ الأدَبِ الأنْدَلُسيِّ شِعْرِه ونَثْرِه، غيْرَ أنَّنا إذا تَرَكْنا هذا الجانِبَ لم نَكَدْ نَجِدُ شيئًا آخَرَ؛ فقد كانتِ الكُتْلةُ الأنْدَلُسيَّةُ تَنْساقُ نَحْوَ تَقْليدِ المَشرِقِ بكلِّ ما فيه، وحتَّى شِعْرُ الطَّبيعةِ عنْدَهم لم يَأتوا فيه بجَديدٍ سِوى الكَثْرةِ، أمَّا بَعْدَ ذلك فصورتُه كلُّه بما فيها مِن أفْكارٍ وأخْيِلةٍ وأساليبَ هي الصُّورةُ المَشرِقيَّةُ)
[691] ((الفن ومذاهبه في الشِّعْر العربي)) لشوقي ضيف (ص: 412). .
بلْ إنَّه يَذهَبُ إلى أنَّ الأنْدَلُسَ لم تَتَأثَّرْ بالمَشرِقِ في الشِّعْرِ فقط، بلْ زَعَمَ أنَّ التَّأثُّرَ كانَ في جَميعِ الحَرَكاتِ العِلميَّةِ بما فيها تَأليفُ الكُتُبِ؛ فيُصاغُ "العِقْدُ الفَريدُ" لابنِ عبْدِ رَبِّه على شَكْلِ "عُيونِ الأخْبارِ"
لابنِ قُتَيْبةَ، ويَراه
الصَّاحِبُ بنُ عبَّادٍ فيقولُ: هذه بِضاعتُنا رُدَّتْ إلينا! ويُصاغُ كِتابُ "الحَدائِقِ" لأبي فَرَجٍ الجَيَّانيِّ في أهْلِ زَمانِه على شَكْلِ كِتابِ "الزَّهرةِ" للأصْبَهانيِّ"، ويُصاغُ كِتابُ "الذَّخيرةِ" لابنِ بَسَّامٍ على شَكْلِ كِتابِ "اليَتيمةِ" للثَّعالِبيِّ
[692] يُنظر: ((الفن ومذاهبه في الشِّعْر العربي)) لشوقي ضيف (ص: 415). .
ويَرى أنَّ الأنْدَلُسَ لم تكنْ لها شَخْصيَّةٌ مُسْتقلَّةٌ، ولم يَتَميَّزْ شُعَراؤُها في شيءٍ سِوى الإكْثارِ مِن الشِّعْرِ، وخاصَّةً شِعْرَ الطَّبيعةِ.
يقولُ: "والحَقُّ أنَّه يَنْبَغي ألَّا نَتَعلَّقَ بالفِكْرةِ الشَّائِعةِ مِن أنَّ الأنْدَلُسَ كانَ لها شَخْصيَّةٌ واضِحةٌ في تاريخِ الشِّعْرِ العَربيِّ؛ فإنَّ هذه الشَّخْصيَّةَ تَنْحصِرُ في كَثْرةِ الإنْتاجِ وخاصَّةً في شِعْرِ الطَّبيعةِ، أمَّا بَعْدَ ذلك فالأنْدَلُسُ تَسْتعيرُ مِن المَشرِقِ مَوْضوعاتِ شِعْرِها ومَعانيَه وصُوَرَه وأساليبَه وكلَّ ما يَتَّصِلُ به اسْتِعارةً تَكادُ تكونُ طِبْقَ الأصْلِ"
[693] ((الفن ومذاهبه في الشِّعْر العربي)) لشوقي ضيف (ص: 438). .
ولم يكنِ الدُّكْتورُ شَوْقي يَذهَبُ وَحْدَه إلى هذا الرَّأيِ، بلْ نَهَجَ هذا النَّهْجَ كَثيرٌ مِن الدَّارِسينَ، ومِن بيْنِهم الدُّكْتورُ جودة الرِّكابي، فيَرى أنَّ الأنْدَلُسيِّينَ كانوا في آدابِهم مُقلِّدينَ للمَشارِقةِ؛ لأنَّهم كانوا يَرَونَ فيهم المَثَلَ الأعْلى لشِعْرِهم وأدَبِهم، ويَجِدونَهم مَنبَعَ عُلومِهم وآدابِهم وفُنونِهم
[694] يُنظر: ((في الأدب الأندلسي)) لجودة الركابي (1/2). .
ولعلَّهم في قَوْلِهم هذا مُقلِّدونَ لابنِ بَسَّامٍ صاحِبِ كِتابِ الذَّخيرةِ؛ فإنَّه قالَ: "إنَّ أهْلَ هذا الأُفُقِ أبَوْا إلَّا مُتابَعةَ أهْلِ الشَّرْقِ، يَرجِعونَ إلى أخْبارِهم المُعْتادة رُجوعَ الحَديثِ إلى قَتادة؛ حتَّى لو نَعَقَ بتلك الآفاقِ غُراب، أو طَنَّ بأقْصى الشَّامِ والعِراقِ ذُباب، لجَثَوْا على هذا صَنَمًا، وتَلَوْا ذلك كِتابًا مُحْكَمًا!"
[695] ((الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة)) لابن بسام (1/12). في حينِ تَبَنَّى نُصْرةَ الفَريقِ الثَّاني القائِلِ بتَميُّزِ شَخْصيَّةِ الأدَبِ الأنْدَلُسيِّ عن المَشرِقيِّ الأسْتاذُ مُصْطَفى صادِق الرَّافعيُّ؛ حيثُ يقولُ: (لقد يُخطِئُ مَن يَزعُمُ أنَّ شِعْرَ الأنْدَلُسيِّينَ يَغيبُ في سَوادِ غيْرِه مِن شِعْرِ الأقاليمِ الأخرى؛ كالعِراقِ والشَّامِ والحِجازِ، بحيثُ يَشْتبِهُ النَّسيجُ وتَلْتَحِمُ الدِّيباجةُ، وذلك مَن لا يَعرِفُ الشِّعْرَ إلَّا بأوْزانِه ولا يُميِّزُ غيْرَ ظاهِرِه، ولكنَّ للشُّعورِ رُوحًا كرُوحِ الإنْسانِ؛ تَسْتوي معَ الجِنْسِ كلِّه في جُمْلةِ الأخْلاقِ، وتَخْتلِفُ في مُفْرداتِها، حتَّى لقد يَجِدُ اللَّبيبُ الحاذِقُ مِن التَّفاوُتِ بَيْنَ أنْواعِ الأشْعارِ -إذا هو اسْتَقْرَأَها وتَقصَّصَ تَواريخَ أصْحابِها- ما يَصِحُّ أن يَخرُجَ مِنه عِلمٌ يُسمَّى عِلمَ الفِراسةِ الشِّعْريَّةِ.
ومِن هذا القَبيلِ يَمْتازُ شِعْرُ فُحولِ الأنْدَلُسِ بتَجْسيمِ الخَيالِ النَّحيفِ، وإحاطتِه بالمَعاني المُبْتكَرةِ الَّتي توحي بها الحَضارةُ، والتَّصرُّفِ في أرَقِّ فُنونِ القَوْلِ، واخْتِيارِ الألْفاظِ الَّتي تكونُ مادَّةً لتَصْويرِ الطَّبيعةِ وإبْداعِها في جُمَلٍ وعِباراتٍ تَتَخرَّجُ بطَبيعتِها كأنَّها التَّوْقيعُ الموسيقيُّ، بلْ هي تَحمِلُ على التَّلْحينِ بما فيها مِن الرِّقَّةِ والرَّنينِ، ولا يُشارِكُهم في ذلك إلَّا مَن يَنزِعُ هذا المَنزِعَ، ويَتكلَّفُ ذلك الأسلوبَ؛ لأنَّ جَزالةَ اللَّفْظِ في شِعْرِهم إنَّما هي رَوْعةُ مَوقِعِه وحَلاوةُ ارْتِباطِه بسائِرِ أجْزاءِ الجُمْلةِ، وتلك فَلْسفةُ الجَزالةِ، ومِن أجْلِ ذلك أحْكَموا التَّشْبيهَ، وبَرَعوا في الوَصْفِ؛ لأنَّهما عُنْصُرانِ لازِمانِ في تَرْكيبِ هذه الفَلْسفةِ الرُّوحيَّةِ الَّتي هي الشِّعْرُ الطَّبيعيُّ)
[696] ((تاريخ آداب العرب)) للرافعي (3/197). .
وتَبَنَّى هذا القَوْلَ كذلك الدُّكْتورُ إبْراهيم أبو الخشب في قَوْلِه: "إنَّ الدَّارِسَ للأدَبِ العَربيِّ في الأنْدَلُسِ ليَأخُذُه الإعْجابُ العاجِبُ لتلك الرَّوْعةِ البَيانيَّةِ، والميزةِ البَلاغيَّةِ، والطَّلاوةِ الأدَبيَّةِ، الَّتي انْفَرَدَ بها عن سِواه مِن ألْوانِ الأدَبِ في سائِرِ العُصورِ التَّاريخيَّةِ المُخْتلِفةِ!"
[697] ((تاريخ الأدب العربي في الأندلس)) لإبراهيم أبو خشب (ص: 61). .
والحَقُّ أنَّ كلَّ واحِدٍ مِن الفَريقَينِ نَظَرَ إلى الأمْرِ نَظْرةً جانِبيَّةً ضاقَتْ عن الرُّؤْيةِ الشَّامِلةِ الكُلِّيَّةِ للأمْرِ؛ فالشِّعْرُ الأنْدَلُسيُّ بَدَأَ -كعادةِ كُلِّ جَديدٍ- مُعْتمِدًا على الأصْلِ الَّذي سَبَقَه؛ يُجاريه في النَّظْمِ والشَّكْلِ والوَزْنِ، والمَعنى والمَوْضوعِ، ويُحاكيه في الصُّوَرِ والتَّشْبيهاتِ والأسْلوبِ، ويَنهَلُ مِن مَعينِه في اخْتِيارِ الألْفاظِ وسَلاستِها، وبَعْدَ مُرورِ الزَّمَنِ ورُسوخِ قَدَمِ الشِّعْرِ فيهم وكَثْرتِه بيْنَهم، أخَذوا يُجدِّدونَ فيه فاسْتَتبَّ لهم الأمْرُ، واسْتَطاعَ شُعَراؤُهم إقامةَ الأوْزانِ والتَّعْبيرَ عن المَعاني وإجادةَ التَّصْويرِ، فحاكَوا الشِّعْرَ القَديمَ في وَصْفِ طَبيعتِهم ومُشْكِلاتِ عَصْرِهم وظُروفِه، ثُمَّ انْتَهى بهم الأمْرُ إلى انْفِصالِ الشِّعْرِ الأنْدَلُسيِّ عن كُلِّ ما سَبَقَه في المَضْمونِ والأسْلوبِ، بلْ حتَّى صاغَ الأنْدَلُسيُّونَ صُوَرًا جَديدةً مِن النَّظْمِ تُخالِفُ المَألوفَ مِن الشِّعْرِ المَشرِقيِّ الأصيلِ.
فأصْحابُ القَوْلِ الأوَّلِ لم يَنْظُروا إلى نِهايةِ مآلِ الشِّعْرِ الأنْدَلُسيِّ، ونَظَروا فقط إلى بدايتِه المُعْتمِدةِ كُلِّيًّا على الأدَبِ القَديمِ، وعلى النَّقيضِ نَظَرَ أصْحابُ القَوْلِ الثَّاني إلى المآلِ دونَ أن يَنْظُروا إلى البِداياتِ.