المَطْلَبُ الرَّابِعُ: الحَنينُ
اسْتَفاضَتْ مَشاعِرُ الحَنينِ إلى الأهْلِ والوَطَنِ في الأنْدَلُسيِّينَ؛ إذ قد كَثُرَتْ أسْبابُ تلك العاطِفةِ، فأهْلُ البِلادِ الَّذين سَكَنوها إنَّما فارَقوا أوْطانَهم وقَدِموا إليها معَ الجَيْشِ للغَزْوِ، ثُمَّ انْتَهى بهم المُقامُ إلى الاسْتِقرارِ فيها، فلم تكنْ طَبيعةُ العَيْشِ الرَّغْدِ تُنْسيهم أوْطانَهم وأهْليهم، فكانوا كَثيرًا ما يُنشِدونَ في الحَنينِ إلى أهْلِهم ووَطَنِهم.
كذلك كَثُرَ تَنقُّلُ الأنْدَلُسيِّينَ بَيْنَ مَدينةٍ وأخرى، إمَّا في الجِهادِ ونَشْرِ كَلِمةِ التَّوْحيدِ، وإمَّا سَعْيًا في الرِّزْقِ، وإمَّا طَلَبًا للعِلمِ، وفي كلِّ تلك الانْتِقالاتِ لم يَجِدِ المُغْترِبُ بُدًّا مِن الحَنينِ إلى وَطَنِه وإنْشادِ الأشْعارِ في الشَّوْقِ إليه.
وقدْ كانَ أوَّلُ ذلك قَوْلَ عبْدِ الرَّحْمنِ الدَّاخِلِ -صَقْرِ قُرَيشٍ- حينَ تَهيَّأَ وَفْدُ الأنْدَلُسِ للسَّفَرِ إلى المَشرِقِ:أيُّها الرَّاكِبُ المُيَمِّمُ أرْضي
أَقْرِ مِن بعضيَ السَّلامَ لبَعْضي
إنَّ جِسْمي كما عَلِمْتَ بأرْضٍ
وفُؤادي ومالِكيهِ بأرْضِ
قُدِّرَ البَيْنُ بيْنَنا فافْتَرَقْنا
وطَوى البَيْنُ عن جُفونيَ غَمْضي
قد قَضى اللهُ بالفِراقِ علينا
فعَسى باجْتِماعِه سوف يَقْضي
[717] يُنظر: ((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (23/ 351)، ((نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب)) للمقري (3/ 54). ومِنه قَوْلُ ابنِ خَفاجةَ حينَما سافَرَ إلى المَغرِبِ فاسْتَوْحَشَ فيها، ودَفَعَه الشَّوْقُ إلى دِيارِه فأنْشَدَ يقولُ:بَيْنَ شَقْرٍ ومُنْتهى نَهْرَيها
حيثُ ألْقَتْ بِنا الأماني عَصاها
ويُغنِّي المُكَّاءُ في شاطِئَيها
يَسْتخِفُّ النُّهى فحَلَّتْ حِماها
عيشةٌ أقْبَلَتْ يُشَهَّى جَناها
وارِفٌ ظِلُّها لَذيذٌ كَراها
ثُمَّ ولَّتْ كأنَّها لم تكَدْ تَلْ
بَثُ إلَّا عَشيَّةً أو ضُحاها
فانْدُبِ المَرْجَ فالكَنيسةَ فالشَّطْ
طَ وقُلْ آهِ يا مُعيدَ هَواها
آهِ مِن غُرْبةٍ تَرَقرقُ بَثًّا
آهِ مِن رِحْلةٍ تَطولُ نَواها
آهِ مِن فُرْقةٍ لغَيْرِ تَلاقٍ
آهِ مِن دارٍ لا يُجيبُ صَداها
[718] ((ديوان ابن خفاجة)) تحقيق: سيد غازي (ص: 364). وعلى النَّقيضِ مِن ذلك، فرُبَّما عادَ بعضُ الأنْدَلُسيِّينَ إلى بِلادِهم، فيَتَذكَّرونَ أيَّامَ رِحْلتِهم إلى المَشرِقِ، فيَشْتاقونَ إليها، كما فَعَلَ مُحمَّدُ بنُ عبْدِ السَّلامِ الخُشَنيُّ، الَّذي هاجَرَ إلى المَشرِقِ لأخْذِ العِلمِ، فأخَذَ عن المازِنيِّ وبُنْدارٍ وأبي حاتِمٍ والرِّياشيِّ وغيْرِهم، ثُمَّ عادَ إلى مَوطِنِه بقُرْطبةَ، واشْتَغَلَ بالتَّأليفِ والتَّدْريسِ، غيْرَ أنَّه يَتذكَّرُ المَشرِقَ، فيُحَرِّكُه الحَنينُ إلى البُكاءِ ويَقولُ:
كأنْ لم يكُنْ بَيْنٌ ولم تَكُ غُرْبةٌ
إذا كانَ مِن بَعْدِ الفِراقِ تَلاقِ
كأنْ لم تُؤَرَّقْ بالعِراقَيْنِ مُقْلَتي
ولم تَمْرِ كَفُّ الشَّوقِ ماءَ مآقي
ولم أزُرِ الأعْرابَ في خَبْتِ أرْضِهم
بجَنْبِ اللِّوى مِن رامةٍ وبُراقِ
ولم أصْطَبِحْ في البيدِ مِن قَهْوةِ النَّوى
بكأسٍ سَقانيها الحِمامُ دَهاقِ
بلى وكأنَّ المَوْتَ قد ضافَ مَضجَعي
فحَوَّلَ منِّي النَّفْسَ بَيْنَ تَراقِ
تَزوَّدْ أخي مِن قَبْلِ أن تَسكُنَ الثَّرى
وتَلْتَفَّ ساقٌ للنُّشورِ بساقِ
[719] يُنظر: ((الدر الفريد وبيت القصيد)) لابن أيدمر المستعصمي (8/ 407)، ((نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب)) للمقري (2/ 13).