المَطْلَبُ السَّادِسُ: شِعْرُ الوَصْفِ والطَّبيعةِ
الإنْسانُ ابنُ طَبيعتِه ولِسانُ بيئتِه ووَحْيُ الحَياةِ الَّتي يَنقُلُ عنها ما اسْتَتَرَ، ويُتَرجِمُ عنها ما أضْمَرَتْ وأخْفَتْ، ولا سِيَّما إن كانَ هذا الإنْسانُ شاعِرًا؛ فإنَّه يَنقُلُ النَّاسَ إلى عَوالِمَ خَفيَّةٍ في حَياتِهم، يَنظُرونَ لها بعُيونِهم لكنَّهم لا يُبْصِرونَها بقُلوبِهم، يَرَونَ بيئتَهم ولكنْ لا يَفهَمونَ وَحْيَها ولا يَسْتنطِقونَ ساكِنَها، فيَأتي الشَّاعِرُ بقَصائِدَ تَنطِقُ بلِسانِ البيئةِ الَّتي هو مِنها، ويُفصِحُ لنا عن ضَميرِ الحَياةِ المَكْنونِ الَّذي يَفهَمُه ولا يَسْتَطيعُ أن يُتَرجِمَه إلَّا إنْسانٌ رَقيقُ القَلْبِ رَقراقٌ، مُرهَفُ الحِسِّ، غَضُّ المَشاعِرِ، واسِعُ الإدْراكِ.
ولقد ضَرَبَ الشُّعَراءُ الأنْدَلُسيُّونَ بسَهْمٍ نافِذٍ في شِعْرِ الوَصْفِ والطَّبيعةِ، فلم يَسْتطِعْ أحَدٌ أن يُجاريَهم في مِضْمارِ هذا الفَنِّ؛ وذلك لِما حَباهم اللهُ به مِن رُوحٍ تَشِفُّ عمَّا تَرى، ومَشاعِرَ مُرْهَفةٍ، ولِما حَبا اللهُ به بِلادَ الأنْدَلُسِ مِن جَمالِ الطَّبيعةِ وحُسْنِ المَنظَرِ ووَفْرةِ الخَيْراتِ، حتَّى اجْتَمَعَ في الأنْدَلُسِ طيبُ الدُّنْيا كلُّه، فوَسَمَها بعضُهم بجَنَّةِ الأرْضِ.
فبِلادُ الأنْدَلُسِ يَجْري فيها أرْبعونَ نَهْرًا، فَضْلًا عن الآبارِ والعُيونِ ومِياهِ الأمْطارِ الَّتي قَلَّما تَنقَطِعُ، فاجْتَمَعَ في الأنْدَلُسِ جَمالُ الطَّبيعةِ، وطيبُ التُّرْبةِ، وخِصْبُ الجِنانِ مِن البَرِّ والبَحْرِ والسَّهْلِ والوَعْرِ، ومِن حُقولٍ وبَساتينَ وحَدائِقَ ورَياحينَ، واعْتِدالِ المُناخِ في شَتَّى الفُصولِ. فكانَ ذلك سَبَبًا كَبيرًا في إثْراءِ عُقولِ الشُّعَراءِ بالمَعاني الجَديدةِ والصُّوَرِ الجَميلةِ والكَلِماتِ المُنَمَّقةِ، حتَّى صارَ الشُّعَراءُ الأنْدَلُسيُّونَ مِن أوَصْفِ النَّاسِ للطَّبيعةِ إنْ لم يكونوا أوْصَفَهم،
ومِمَّا يُصوِّرُ ذلك قَوْلُ ابنِ خَفاجةَ:يا أهْلَ أنْدَلُسٍ للهِ دَرُّكمُ
ماءٌ وظِلٌّ وأنْهارٌ وأشْجارُ
ما جَنَّةُ الخُلْدِ إلَّا في دِيارِكمُ
ولو تَخيَّرْتُ هذي كنْتُ أخْتارُ
لا تَحْسَبوا في غَدٍ أن تَدْخُلوا سَقَرًا
فليس تُدخَلُ بَعْدَ الجَنَّةِ النَّارُ
[721] ((ديوان ابن خفاجة)) (ص: 133). وقَوْلُ ابنِ سَفَرٍ المَرينيِّ:في أرْضِ أنْدَلُسٍ تَلْتَذُّ نَعْماءُ
ولا يُفارِقُ فيها القَلْبَ سَرَّاءُ
وليس في غَيْرِها بالعَيْشِ مُنْتفَعٌ
ولا تَقومُ بحَقِّ الأُنْسِ صَهْباءُ
وأين يَعدِلُ عن أرْضٍ تَحُضُّ بها
على المُدامةِ أمْواهٌ وأفْياءُ
وكيف لا يُبْهِجُ الأبْصارَ رُؤْيتُها
وكلُّ رَوْضٍ بها في الوَشْيِ صَنْعاءُ
أنْهارُها فِضَّةٌ، والمِسْكُ تُرْبتُها
والخَزُّ رَوْضتُها، والدُّرُّ حَصْباءُ
وللهَواءِ بها لُطْفٌ يَرِقُّ بهِ
مَن لا يَرِقُّ، وتَبْدو مِنه أهْواءُ
ليس النَّسيمُ الَّذي يَهْفو بها سَحَرًا
ولا انْتِثارُ لآلي الطَّلِّ أنْداءُ
وإنَّما أرَجُ النَّدِّ اسْتَثارَ بها
في ماءِ وَرْدٍ فطابَتْ مِنه أرْجاءُ
[722] ينظر: ((نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب)) للتلمساني (1/209). وقدْ تَميَّزَ وَصْفُ الأنْدَلُسيِّينَ باخْتِلاطِ عاطِفتِهم وتَأثُّرِهم بها؛ فإمَّا أن يكونَ داعي الوَصْفِ السُّرورَ والفَخْرَ بما حَباهم اللهُ تعالى في أرْضِهم، أو رُبَّما كانَ التَّأثُّرُ والحَنينُ إلى بِلادِه، كقَوْلِ
عبْدِ الرَّحْمنِ الدَّاخِلِ حينَ رأى نَخْلةً في الرُّصافةِ:
تَبَدَّتْ لنا وَسْطَ الرُّصافةِ نَخْلةٌ
تَناءَتْ بأرْضِ الغَرْبِ عن بَلَدِ النَّخْلِ
فقلْتُ شَبيهي في التَّفَرُّدِ والنَّوى
وطولِ التَّنائي عن بَنيَّ وعن أهْلي
نَشَأْتِ بأرْضٍ أنتِ فيها غَريبةٌ
فمِثلُكِ في الإقْصاءِ والمُنْتأى مِثْلي
[723] ((نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب)) للتلمساني (3/ 54).