المبحَثُ الثَّاني: المَدْحُ
لم تتغَيَّرْ بواعثُ المدْحِ في العَصرِ العُثمانيِّ عمَّا كانت عليه في العَصرِ المملوكيِّ؛ فالفتوحاتُ التي بلغت أقصى الأرضِ لم تَزَلْ باعثةً للشُّعَراءِ لمدحِ الأمَراءِ والسَّلاطينِ الذين يحمِلون رايةَ الإسلامِ. فهذا ابن قافٍ الرُّوميُّ يمدَحُ السُّلطانَ مرادَ بنَ سليم الأوَّلِ حينَ فَتَح مدينةَ تَبْريزَ، يقولُ
[183] يُنظَر: ((خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر)) للمحبي (3/290). : البسيط
فيا مَلِيكًا له كلُّ المُلوكِ غَدَتْ
تدِينُ طَوعًا وتأتي وَهْيَ تعتذِرُ
سِرْ وامْلِكِ الأرضَ والدُّنيا فأنت إذًا
إسْكَنْدرُ العَصرِ قد وافى به الخَضِرُ
فيا لَها نِعمةً آثارُ مَفْخَرِها
كانتْ لدولتِه الغرَّاءِ تُدَّخَرُ
ظِلُّ الإلهِ مُرادُ اللهِ قد شرُفتْ
به المنابرُ والتِّيجانُ والسُّرُرُ
أجَلُّ مَن وَطِئَ الغَبْراءَ مِن مَلِكٍ
بأمْرِه سائرُ الأملاكِ تأْتمِرُ
بعَزْمِه ظهَرَ الفتحُ الذي عجَزَتْ
عنه السَّلاطينُ قد أفْنَتْهمُ العُصُرُ
لو فاخَرَتْه ملوكُ الأرضِ قاطِبةً
ما نالَهم من معانِي فَخرِه العُشُرُ
هل يسْتوي الشَّمسُ والمصباحُ جُنْحَ دُجًى
ويسْتوي الجاريانِ البَحرُ والنَّهَرُ
بَدا له في سماءِ المجدِ نُورُ هُدًى
من دونهِ النَّيِّرانِ الشَّمسُ والقمرُ
وأصبح المُلك محروسَ الجَنَابِ وقد
وافى به المُسْعدانِ القَدْرُ والقَدَرُ
وقال عبدُ اللَّطيفِ البَهائيُّ البَعليُّ في مَدحِ السُّلطانِ محمَّدٍ الرَّابعِ بَعدَ افتتاحِ قَلعةِ إيوار
[184] يُنظَر: ((نفحة الريحانة ورشحة طلاء الحانة)) للمحبي (2/397، 398). : الكامل
مَلِكُ الوَرى أَسَدُ الشَّرى سامي الذُّرى
حامِي حِمى الدِّينِ القويم المَوْئِلَا
شمسُ المعالي ابنُ بَجْدَتِها الذي
قد حلَّ في أوْجِ السَّعادةِ واعْتلى
[185] البَجْدةُ: الصَّحراءُ. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (7/399). وابنُ بَجدَتِها: أي: العالِمُ بالشَّيءِ المتفَنِّنُ به. يُنظَر: ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (1/264). مَلِكٌ علا في المجدِ أعْلى رُتبةٍ
أنِفَتْ تكونُ له الثُّريَّا منزِلَا
تعْنُو ملوكُ الأرِض قاطبةً له
أبدًا وتسعى خِيفةً وتذَلُّلَا
تخْشى سُطاهُ الأُسْدُ في آجامِها
فتذوبُ منه تضاؤُلًا وتغَلْغُلَا
[186] سُطاه: سَطوتُه. يُنظَر: ((جمهرة اللغة)) لابن دريد (2/838). والآجامُ: جمعُ أجَمةٍ، وهي الشَّجَرُ الكثيرُ الملتَفُّ. يُنظَر: ((المعجم الوسيط)) (1/7). لم يأْلُ جُهدًا في الجِهادِ ولم يَزَلْ
يسعى بإرسالِ الجُيوشِ مُكمَّلَا
في نُصْرةِ الدِّينِ المُبينِ مجاهِدًا
بَرًّا وبحرًا للعساكِرِ مُرسِلَا
ما زال يَضرَعُ في الدُّعاءِ لربِّه
سِرًّا وجَهْرًا مُجْمِلًا ومُفَصِّلَا
مُتوجِّهًا بخُلوصِ قلبٍ صادقٍ
فيما انْتحاه تضرُّعًا وتبَتُّلَا
فأتْته بُشْرى الفتحِ وَهْوَ مُلفَّعٌ
ثوبَ السَّعادةِ بالجلالِ مُسَرْبَلَا
مُسْتيقِنًا بحُصولِه ومُؤمِّلًا
من ربِّه إتْمامَه متوكِّلَا
لا زال تأْتيه البشائِرُ دائمًا
أبدًا وتخدُمُه المفاخِرُ والعُلى
ولم يقتَصِرِ المدحُ على الأمَراءِ والسَّلاطينِ والوُزَراءِ فحَسْبُ، بل كان للعُلَماءِ والفُقَهاءِ والقُضاةِ منه نصيبٌ كبيرٌ، منه قولُ ابنِ القَطَّانِ في مَدحِ علاءِ الدِّينِ العُشاريِّ الحَلبيِّ المعروفِ بابنِ الحَنبليِّ
[187] يُنظَر: ((إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء)) لمحمد راغب الطباخ (5/ 420). : البسيط
نِلْتَ المعالي بفِعلِ المَكرُماتِ وها
روايحُ المِسكِ لا تَخْفى لمنتَشِقِ
أنت الجوادُ الذي أضحَتْ مكارِمُه
كالغيثِ هَلَّ فعَمَّ النَّاسَ مندَفِقِ
قاضٍ غدا جُودُه كالبَحرِ فاض ندًى
ودام وافِرَه كالصَّيِّبِ الغَدِقِ
أقلامُه الخُضْرُ بالإحسانِ مُثمِرةٌ
من كَفِّهِ قد جَرَتْ بالسَّعدِ في الوَرَقِ
ضاءت بمَنصِبِه الشَّهباءُ وَهْوَ بها
لنُصرةِ الحقِّ لا وانٍ ولا قَلِق
يَؤُمُّه العاجزُ الملهوفُ يُنْجِدُهُ
نَعَم ويُخرِجُه من أضيَقِ الطُّرُقِ
أبُ اليتيمِ وللمحتاجِ نِعْمَ أخٌ
وللغريبِ مُعينٌ والضَّعيفَ يَقِي
له السِّيادةُ في الدُّنيا مُؤَيدةً
على الدَّوامِ مدى الأيَّامِ في نَسَقِ
قاضي القُضاةِ رقى بالمجدِ مَنزِلةً
تعلو على الدَّهرِ والأفلاكِ والأفُقِ
ضاهاك بدرُ الدُّجى عِندَ الكَمالِ وها
أنت الكَمالُ بحُسنِ الخَلْقِ والخُلُقِ
إليك تأتي أمورُ النَّاسِ قاطبةً
عُرْبٌ ورُومٌ وأعجامٌ مِن الفِرَقِ