مكة المكرمة مهبط الوحي, ومولد الرسالة, ومهوى أفئدة المؤمنين, وملتقى حجهم, وقبلة صلاتهم, شرفها الله ببيته وزاد قدرها برسوله صلى الله عليه وسلم, ومنذ أن أشرقت شمس الرسالة من غار حراء, وأنارت بأضوائها أقطار الأرض, منذ ذلك الحين ومكة تتبوأ المكانة السامية بين أقطار الأرض, واستمرت على ذلك عبر القرون, حاضرة المسلمين, وملتقى العلماء والعابدين, ومقصد المثقفين.
وهذا الكتاب الذين بين أيدينا يؤرخ للحياة الثقافية التي سادت مكة في حقبة زمنية معينة وهي القرن التاسع عشر الميلادي, فهو يستعرض كيف كانت مكة تحيا الثقافة وتعيشها في يومياتها, وكيف كانت تعج بالعلماء والأدباء والشعراء الذين أسهموا في هذه الحركة العلمية والثقافية.
احتوى الكتاب على خمسة فصول بدأها المؤلف بالحديث عن التعليم ومنابعه ووسائله, فذكر من تلك المنابع الحرم الشريف والذي اعتبره جامعة العلم بل تربع على رأس الهرم التعليمي, موضحاً كيف كانت ساحاته وأروقته تمتلئ بحلقات الدرس ومجالس العلم, والتي يشرف عليها علماء مشاهير سواء من أبناء مكة أو ممن جاور فيها ممن جاءها من خارجها. وقد نقل المؤلف عن أحد المستشرقين الذين وقفوا على الوضع العلمي آنذاك - وهو المستشرق سنوك هورخرونيه - نقل عنه تكويناً للطريقة التي كان يسير عليها التعليم في الحرم المكي, وأوقاته وأماكنه وأنواع العلوم التي كانت تدرس فيه. كما ذكر منبعاً آخر من منابع العلم السائدة آنذاك وهي المدراس الرسمية التي أسستها الحكومة العثمانية, أو المدارس الخاصة التي أسست على أيدي بعض العلماء والذين كانوا يدرسون فيها الطلاب بأنفسهم.
ويحدثنا المؤلف في فصل الكتاب الثاني عن أعلام الحركة الثقافية في هذه الفترة الزمنية, فتكلم عن أشهر علماء مكة في ذلك العصر وترجم لهم تراجم قصيرة , كما أطال المؤلف عند ذكره للأدباء والشعراء المكيين الذي عاصروا تلك الحقبة وأسهموا في إثرائها أدبياً, فترجم لمجموعة منهم واستشهد ببعض أشعارهم, ومن أعلام الثقافة في تلك الحقبة والذين تناولهم المؤلف في كتابه المؤرخين, والذين عرفت مكة بمجموعة منهم في ذلك العصر, ثم تكلم عمن اشتغل بالعلوم الطبيعية والتطبيقية من العلماء كعلم الحساب, والطب, والفلك, والصيدلة وغيرها.
أما ما يتعلق بالوراقة والنشر في مكة المكرمة في تلك الحقبة الزمنية فقد أفرده المؤلف بالحديث في الفصل الثالث فتحدث عن النساخ والذين بدورهم انقسموا إلى قسمين, فمنهم من احترف النسخ كمهنة تعتبر مصدر رزقه ومنهم من كان هاوياً لها مهتماً بها. وعلى كل حال فهؤلاء وهؤلاء أسهموا في توفير مصادر المعرفة لطلاب العلم في مكة, وقد ذكر المؤلف عددا ممن اشتهر بالنسخ في تلك الفترة. كما تحدث المؤلف عن اتجاه بعض المكيين إلى نشر كتبهم عبر المطابع العربية في مصر وغيرها قبل أن تؤسس المطبعة الميرية في مكة المكرمة, ليتحدث بعد ذلك عن ظهور الطباعة في مكة المكرمة حيث ظهرت المطبعة الميرية فيها عام 1300هـ, وعلى الرغم من ظهور هذه المطبعة إلا أن اتجاه علماء الحجاز للطبع خارجها استمر, وهذا يظهر النشاط الذي تمتع به علماء مكة في نشر الكتب والاستفادة من المطابع خارج مكة وداخلها لتوفير العلم لطلابه ومريديه.
وفيما يتعلق بالترجمة والنشر بغير العربية فقد اهتم علماء مكة بهذا الجانب وأولوه عنايتهم حيث جعل القائمون على المطبعة الميرية من أهدافها الطباعة للكتب غير العربية بالتركية والملاوية والجاوية ليستفيد منها سكان مكة ممن يتقنون هذه اللغات.
وعن تجارة الكتب في هذه الفترة يحدثنا المؤلف عنها بأنها توزعت على نوعين الأول شراء الكتب من المناطق التي تنشط فيها طباعة الكتب العربية, وجلب المخطوطات من خارج مكة, والنوع الثاني الإسهام في نشر بعض الكتب وتمويل طباعتها, وتحدث المؤلف عمن اشتهر من الكتبيين في تلك الفترة.
في فصل الكتاب الرابع كان حديث المؤلف عن المكتبات الخاصة والرسمية, فتناول بالحديث المكتبات الخاصة, وبين انتشارها في مكة وإسهامها في تزويد أعلام المكيين بأنواع المعرفة, وتفضل المؤلف بذكر أسماء مجموعة من هذه المكتبات وأصحابها, كما تحدث عن المكتبات الرسمية والتي كانت ترعاها الدولة العثمانية, وكان بعضها في المدارس وواحدة منها عامة تفتح أبوابها لطلاب العلم جميعاً. ثم تناول مورداً آخر من موارد الثقافة وقناة من قنواته وهي المجالس والأندية الأدبية والتي كانت تعقد في بيوت مشاهير العلماء في ذلك الوقت .
ثم ختم المؤلف الكتاب بفصل أخير ذكر فيه نماذج من مؤلفات أعلام الحجاز في فترة الدراسة والتي تنوعت في فنون شتى, إلا أنها كانت يغلب عليها المؤلفات الدينية, فذكر مجموعة من المؤلفين ومؤلفاتهم.