اهتم علماء الأمة قديماً وحديثاً بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, ورعوه رعاية فائقة, واعتنوا به عناية بالغة, واجتهدوا في الحفاظ عليه وصيانته, وتوسعوا في التأليف في علومه المختلفة.
وإن من أجل تلك العلوم التي تتعلق بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم علم غريب الحديث, ومعرفة معاني كلماته, فهو علم جليل, وفن خطير, قال فيه الإمام ابن الصلاح: ( فنٌّ مهمٌّ يقبح جهله بأهل الحديث خاصة، ثم بأهل العلم عامة، والخوض فيه ليس بالـهَيِّن، والخائض فيه حقيقٌ بالتحري، جديرٌ بالتَّوقِّي ).
لذا كان اهتمام علماء الحديث واللغويين بهذا الفن اهتماماً كبيراً, وقد ألفت فيه الكثير من المؤلفات ومن أهمها كتاب ( الدلائل على معاني الحديث بالشاهد والمثل) ، الذي قال فيه إمام عصره في اللغة أبو علي القالي: (لم يؤلف بالأندلس كتاب أكمل من كتاب ثابت في شرح الحديث).
واحتل الكتاب مكانة علمية عالية, وحظي بمنزلة عظيمة بين أهل العلم من محدثين, وعلماء, وأدباء, هذه المكانة والمنزلة رشحته بأن يكون من أفضل كتب الغريب وأحسنها.
وقد سلك الإمام السرقسطي في كتابه هذا منهجاً فريداً, جمع فيه بين أساليب من سبقوه ممن ألفوا في علم الغريب, كأبي عبيد وابن قتيبة وغيرهما ، وتميز بتوسعه في إيراد الشواهد، وتوضيح الغوامض, ولم يكرر ما جاءا به, بل أتى بما أغفلاه ولم يذكراه, وهو مع ذلك يعرض لأقوال العلماء المتقدمين, ويستعرض أدلتهم عليها, ويقوم بعد ذلك بالموازنة والترجيح بين هذه الأقوال.
والكتاب ألفه السرقسطي على طريقة المسانيد, فرتب الأحاديث حسب مسانيد الصحابة , ولم يلتزم ترتيباً معيناً داخل كل مسند , وطريقته في بيان الغريب أن يأتي بالحديث أو الجزء الذي اشتمل على الكلمة أو الكلمات المراد بيانها, ومن ثم يسند الحديث إلى رواته, وفي الغالب يدعم الحديث برواية أخرى مع إسنادها وتفسيرها, بعد ذلك يقوم بتفسير وشرح الكلمات الغريبة فيه, ذاكراً السند اللغوي إلى شيخه أو شيخين, ثم يذكر علماء اللغة لبيان مصادره في تفسير الكلمة, ويأتي بأشهر دلالات الكلمة إن كانت تدل على أكثر من معنى, وعند الاقتضاء يذكر الفعل وتصاريفه ومصدره.
وفي أثناء دلالته على المعاني يأتي بشواهد شعرية من الشعر القديم, كما أنه يستشهد بشعر المولدين المشهورين ومشهور شعرهم, ولا يرى حرجاً في ذلك, ويدعم المعنى ويعضده بذكر الشواهد القرآنية, والأحاديث النبوية, وأقوال أهل العلم, ويعرج على القراءات أحياناً, كما أنه يعرض من الأمثال والأقوال ما يراه مناسباً وضروريًّا.
ومما يميز الكتاب أن مؤلفه يهتم بالضبط اللغوي, ويتوسع في ذكر الشواهد, ويبدي رأيه في أقوال العلماء ويوازن بينهم, ويصحح مفاهيم الألفاظ في الأبيات, كما يمتاز بعدم تعصبه للقدماء ، ويذكر الأحاديث مسندة بروايته.
ومما يجدر ذكره هنا أن الكتاب لم يتمه مؤلفه بل وافته المنية قبل إتمامه, فأكمله والده رحمة الله عليهما, وكذلك فهذه الطبعة التي بين أيدينا ليست كاملة, فهي تحتوي على السفرين الثاني والثالث من الكتاب، أما السفر الأول من الكتاب ما يزال مفقوداً, إلا أن المحقق خرَّج عشرين نصًّا من نصوصه من المصادر لتلافي النقص ما أمكن. كما قام المحقق بتحقيق الكتاب معتمداً على ثلاث نسخ خطية، عثر عليها بالرباط ودمشق وإستانبول، مع القيام بدراسة ضافية للكتاب، عرف فيها بالكتاب وبمؤلفه بالإضافة إلى تحقيق النص تحقيقاً علميًّا.
والكتاب يعتبر من أصول كتب شرح معاني الحديث وأهمها في بابه, وهو مما لا يستغني عنه باحثو الدراسات اللغوية .والحديثية