ممَّا يُكسب دراسة فترة الحروب الصَّليبيَّة أهميةً بالغةً، أنَّ هذه الفترة من الفترات الدقيقة والمهمَّة في تاريخنا الإسلاميِّ؛ فهي تشكِّل إحدى التجارِب الفتيَّة في تاريخ العرب والمسلمين، كما أنَّه لا تزال آثار هذا الغزو الصَّليبيِّ ماثلةً للعِيان؛ فالعالَم الإسلاميُّ ما يزال يُعاني إلى اليوم من الهجمات الصَّليبيَّة، وأيضًا فإنَّ العديد من الحروب الصليبيَّة وظروفها قد يُقدِّم لنا درسًا مفيدًا؛ لكون قيامها كان في وضع يشبه وضعنا الحالي من نواحٍ عدَّة.
فقد تكالبت الجموع الصليبيَّة على العالم الإسلاميِّ، راسمة أهدافًا، وساعيةً في تطبيقها واقعًا ملموسًا، وكان أبرز تلك الأهداف التي سعَوا من أجلها هو الاستيلاء على الأراضي المقدَّسة، وبناء ممالك صليبيَّة على الأراضي الإسلاميَّة، وقد حقَّقوا الكثير من تلك الأهداف، والتي لم يكونوا ليستطيعوا تحقيقها لولا تفكُّك المسلمين، وتشرذمهم، سواء بانقسام الدولة الإسلاميَّة إلى خِلافتين: عباسيَّة، وفاطميَّة (عُبَيديَّة)، أو تعدُّد الزِّعامات الصَّغيرة، والتي يحاول كلٌّ منها إنشاء دويلة مستقلَّة، والتي نتج عنها دول مستقلَّة، وإمارات متعدِّدة بالفِعل، وكذلك كثرة الحروب والتناحُر بين المسلمين في تلك الحِقبة الزَّمنيَّة.
كما كان لظهور الحركات الباطنيَّة الهدَّامة الأثر الواضح في زيادة التفكُّك في الأمَّة الإسلاميَّة؛ فقد أخذت هذه الحركات تُنشئ التنظيمات السِّريَّة، وتجمع حولها الأتباع، وتبثُّ بينهم الأفكار المنحرِفة عن الإسلام، وقد كان لهذه الحركات الباطنيَّة دَور مهمٌّ في أحداث التاريخ الإسلاميِّ، خاصَّةً في عصر الحروب الصَّليبيَّة، حيث أسهمتْ بشكل واضح في عرقلة سَير حركة الجهاد الإسلاميِّ ضدَّ الصَّليبيِّين.
وكتاب هذا الأسبوع هو محاولة لتوضيح ذلك الدَّور الذي قام به الباطنيُّون، من خلال تتبُّعه لما ذكره المؤرِّخون متناثرًا في كتبهم ومؤلَّفاتهم عن هذي الحركات، وما قامت به من خيانة ووقوف مع الصَّليبيِّين، وأعمالها الوحشيَّة تُجاه المسلمين السُّنَّة.
وقد تألَّفت هذه الرِّسالة من مقدِّمة، وأربعة فصول، وخاتمة، وبعض الملاحق.
ففي المقدِّمة : ذكَر المؤلِّف سبب اختيار الموضوع، ومع الدِّراسة والتحليل لأهمِّ المصادر التي اعتمدَها في البَحث.
وأمَّا الفصل الأوَّل كان عن الحركات الباطنيَّة عند قدوم الغزو الصليبيِّ، تحدَّث في أربعة مباحث اشتمل عليها الفصل، عن أهمِّ الحركات الباطنيَّة المتواجدة في الساحة وقت وصول الغزو الصليبيِّ، وهي أربع حركات رئيسيَّة: النزارية (الحشَّاشون)، والمستعلية (الفاطميُّون)، والنُّصيريَّة، والدُّروز، وخصائص كلِّ حركة، كما تطرَّق إلى نشأة كلِّ حركة، وزعمائها وما قام به هؤلاء الزُّعماء في دعم أفكار وعقائد الحركة التي ينتمي إليها، كما أشار إلى أهمِّ عقائد ومبادئ كلِّ حركة بصورة موجَزة، وتطرَّق أيضًا في مباحث الفصل الأوَّل إلى مناطق نفوذ تلك الحركات الباطنيَّة، وعَلاقتها بالمسلمين من أهل السُّنَّة والجماعة، ثم ختم هذا الفصل بذِكر العلاقة بين بعض الحركات الباطنيَّة بعضها ببعض.
وأمَّا الفصل الثاني فكان عن العَلاقات السِّياسيَّة والعسكريَّة بين الفاطميِّين والصَّليبيِّين، وقسَّمه المؤلِّف إلى مبحثين؛ تناول في المبحث الأوَّل علاقات التعاون التي تمَّت بين الفاطميِّين والصَّليبيِّين إبَّان وصول الحملة الصَّليبيَّة الأولى وحصارها لأنطاكية. وفي المبحث الثاني عالج العلاقات العسكريَّة بين الفاطميِّين والصَّليبيِّين، والتي تُظهِر جانب مقاومة الفاطميِّين للصليبيِّين، والحملات العسكريَّة المتوالية التي بعثتْها الدولة الفاطميَّة لمقاومة الصَّليبيِّين، ووقف زحفهم جنوبًا في بلاد الشَّام، وتحدَّث عن دَور بعض الوزراء الأقوياء في الدَّولة الفاطميَّة، الذين كانوا متحمِّسين للجهاد ضدَّ الصَّليبيِّين.
وكان الحديث في الفصل الثَّالث عن الباطنيَّة النزاريَّة ودَورهم في الحروب الصَّليبيَّة، وقسَّمه المؤلِّف إلى أربعة مباحث
في المبحث الأوَّل ألقى الضوء على تعامل الباطنيَّة النزارية مع الصليبيِّين، وحقيقة الدَّور الذي قاموا به، والتسهيلات التي قدَّموها للصَّليبِّين لتثبيت أقدامهم في بلاد الشَّام، كما كشف في هذا المبحث النِّقاب عمَّا كان بين هذه الحركة واليهود من تعاون وثيق، وأنَّ عددًا من اليهود كان يعمل داخل صفوف هذه الحركة، ويخوض معها المعارك ضدَّ القوى الإسلاميَّة، وبيَّن محاولة هذه الحركة لعرقلة كلِّ الجهود التي تُبذَل للوحدة الإسلاميَّة، والجهاد ضد الصَّليبيِّين، وأشار في هذه المبحث أيضًا إلى المراسلات التي تمَّت بين زعيم الحركة النزارية في الشَّام، وبين القادة الصَّليبيِّين؛ طالبًا منهم العون، والتحالُف ضدَّ المسلمين السُّنة؛ مقابل تقديم خِدماته لهم بالاغتيال، والفتْك بأيِّ قائد مسلم يجدون فيه خطرًا عليهم.
والمبحث الثاني كان الحديث فيه عن دَور الحركة النزارية في اغتيال القادة المسلمين، وكيف كانت تتربَّص الدوائر بكلِّ قائد مسلم، وذكَر المؤلِّف أنَّه قد راح ضحية تلك الاغتيالات العشراتُ من هؤلاء القادة والعلماء.
والمبحث الثالث تحدَّث فيه عن الدَّور الذي لعبتْه الحركة النزاريَّة في إفساد المجتمع الإسلامي من الدَّاخل، وكيف عملتْ على نشْر الرُّعب، والخوف، والفزع، بين أفراد هذا المجتمع، فأضافوا خطرًا آخرَ على المجتمع المسلم بالإضافة إلى الخطر الصَّليبيِّ، وبيَّن ما قام به النزارية من سَلْب ونهْب، وقتْل للأبرياء والعُزَّل، من نِساء وأطفال وشيوخ، وكيف كانوا يَقطَعون الطُّرق، وما قاموا به من الاعتداءات المتكرِّرة على قوافل الحجيج المتَّجهة إلى الأماكن المقدَّسة لأداء فريضة الحجِّ.
وفي المبحث الرابع وضَّح المؤلِّف موقف القادة المسلمين من الباطنيَّة، وتحدَّث عن الجهود المشكورة التي بذلها القادة المسلمون للحدِّ من خطر الباطنيَّة في المجتمع المسلم.
وجاء الفصل الرابع والأخير ليتحدَّث عن النُّصيريَّة والدُّروز، ودَورهم في الحروب الصَّليبيَّة، وقسَّمه المؤلِّف إلى ثلاثة مباحث
في الأوَّل منها تناول تأثُّر النُّصيريَّة بالمجوسيَّة والنَّصرانيَّة، ذاكرًا الأفكار والعبادات المجوسيَّة التي تأثَّر بها النُّصيريَّة؛ نتيجة لكون مؤسِّسها فارسيَّ الأصل، كذلك بيَّن التأثيرات النصرانيَّة على الفِرقة النُّصيريَّة؛ نتيجة لانخراطها في المجتمعات الصَّليبيَّة، إبَّانَ الحروب الصَّليبيَّة.
وفي المبحث الثَّاني أشار إلى ما قدَّمه النُّصيريُّون من مساعدة للصليبيِّين؛ للاستيلاء على أنطاكية، وغيرها من معاقل المسلمين.
وبيَّن في المبحث الثالث دَور الدروز في مساعدة الصليبيِّين، وكيف كان موقفهم سلبيًّا من الزَّحف الصَّليبيِّ، بل أوضح تعاون بعض أمراء وزعماء الدُّروز مع الصليبيِّين وعقد الصُّلح معهم.
وختَم المؤلِّف رسالته بخاتمة ذكر فيها أهم النتائج التي توصَّل إليها البحث، ومجموعة من الملاحق تشتمل على بعض النُّصوص والوثائق المهمَّة المتعلِّقة بالبحث، مع تراجم لأشهر القادة المسلمين الذي جاهدوا الصَّليبيِّين والباطنيَّة، وتراجم لأشهر زعماء الباطنيَّة في تلك الفترة.