أولًا: عرض الكتاب:
كتاب هذا الشَّهر هو بحثٌ في قضيَّة جزئيَّة من ضِمن موضوع أصولي عامٍّ، هو فقه المقاصِد، وقد نال هذا الموضوعَ حظٌّ كبير من الدِّراسة والجَدَل في الحَقل الفِكري والإصلاحي والدَّعوي، خُصوصًا في الآونة الأَخيرة، وبعدَما عُرِف بالحرْب على الإرهاب، وتبنَّى هذا المسلكَ كثيرٌ من الدُّعاة كفِكر أصولي فِقهي، وكثرت حوله الكتابات والرسائل العلميَّة، وقد تنوَّعت الدِّراسات ما بين المنضبِط بالأصول والقواعِد، وما بيْن ممرِّر لمخالفَاتِه الشَّرعيَّة، بناءً على أنَّ المعتبَر هو المقاصِد الكليَّة للشَّريعة كالسَّماحة والرِّفق ...إلخ، وإنْ خالفت النُّصوص، حتى أُلغيت كثيرٌ من الأحكام، وتزعزعت كثيرٌ من الثَّوابت، بناءً على ما يُقرِّرونه أنَّه من مقاصد الشَّريعة.
وفيما يَلي عَرْض لمحتويات هذا الكِتاب، وبيان لأهمِّ المآخِذ عليه، وعلى منهج المؤلِّف باختصار، ممَّا يُدلِّل على خطَر هذا المسلَك:
تألَّف الكتابُ من مُقدِّمة؛ وخمسة فصول: تحدَّث المؤلِّف في المقدِّمة عن فلسفة التشريع الإسلامي، مشيرًا إلى أنَّ أصول الفقه بكلِّ مدارسها تمثِّل تلك الفلسفة، ومشيرًا أيضًا إلى اختلافِهم في بعض الأصول، كعَمَل أهل المدينة، ومفهوم المخالَفة، وأوضح أنَّه بالنَّظر إلى مقاصِد الشَّريعة يمكن حلُّ هذه الثُّنائية، فيما بيْن الموافِق والمخالِف، والتي تحدُّ مِن مرونة الأحكام - على حدِّ تعبيره - ومِن ذلك قضية النَّقد الأصولي لنَظرية النَّسخ، موضِّحًا أهميَّةَ ذلك، وأنَّ هذا الكتاب محاولةٌ لرسم صورة عامَّة للشَّريعة الغرَّاء، من خلال مناقشة موضوع النَّسْخ.
وتحدَّث في الفَصل الأوَّل: عن مقاصد الشَّريعة، مستعرِضًا لبعض المفاهيم والأهداف بين يدَي البَحث.
وفي الفصل الثاني: تَحدَّث عن التناقُض في نفْس الأمر، وعن التعارُض في ذِهن المجتهِد، موضِّحًا الفرق بين التعارُض والتناقُض، وطُرق التعامُل مع التعارض الظاهريِّ.
وأمَّا الفصل الثَّالث: فكان عن تَعريفات النَّسخ واستخداماته، فعرَّفه لُغةً واصطلاحًا، وتحدَّث عن تخصيص النَّص المتقدِّم بالنصِّ المتأخِّر، وعن استثنائه أو تفسيره، وعن إطلاق النَّسخ بقصْد الإلغاء المؤبَّد للحُكم الشرعي، ذاكرًا أنَّ النَّسخ بهذا المعنى ما أنزل الله به من سلطان - على حدِّ تعبيره.
وكان الفصل الرَّابع: عن نقْد لبعض مناهج الاستدلال على النَّسخ، فتكلَّم عن: هل هناك دليلٌ قطعي على أنَّ في القرآن الكريم آياتٍ (منسوخةً)؟ وعن الاستدلال على النَّسخ بالتعارُض، وأيضًا تناوَل الاستدلال على النَّسخ بمعرفة التاريخ، وهل يلزمنا اتباعُ (الأحدث فالأحدث) كما كان يلزم الصَّحابةَ؟ ثم قرَّر أنَّه لا حُجيَّة للنَّسخ بالرأي المجرَّد أيًّا كان قائله. وفي آخِر هذا الفصل تَكلَّم عن التصريح بالنَّسْخ، وهل يَكفي (النَّهي بعد الإباحة أو الإباحة بعد النهي)؟
والفصل الخامِس والأخير: كان عن أمثلةٍ لإعمال النُّصوص المُحكَمة المتعارِضة الظواهِر باعتبار المقاصِد، وذكَر من ذلك: مقاصد الإمامة في حِفظ الضَّرورات الشرعيَّة، وتحقيق مقصد التيسير عن طريق التدرُّج في تطبيق الأحكام، والموازنة بين مَقصدَي التعبُّد والتيسير، والموازنة بين مَقصدَي سلامة الإنسان وسلامة البِيئة، ممثِّلًا على كلِّ جزئيةٍ منها.
ثم ختَم كتابَه بخُلاصةٍ نظريَّة، وخُلاصات عَمليَّة لِمَا تضمَّنه الكِتاب.
ثانيًا: نقد الكتاب:
بدايةً: نُنبِّه إلى أنَّ موضوع (مقاصد الشَّريعة) يَنبغي الوقوف أمامه بتأنٍّ؛ فلا يُتسرَّع في قَبوله أو رفْضه؛ فهو موضوع في مُنتهَى الخُطورة؛ إذ كان ذريعةً لزعزعة ثوابت هذا الدِّين، وفتْح مجال للتَّغيير والتبديل، بدَعْوى مراعاة المقاصِد الكليَّة للشريعة، وظروف الحياة، وضغوط الواقِع. ثم كانت النتيجةُ هي إقرارَ الواقع المنحرِف، والرِّضا بمخالفاته، بل تأصيل ذلك من الناحية الشرعيَّة! ومن المعلوم أنَّ الشريعة إنَّما جاءت لتحكُم الواقِعَ وتُغيِّره وَفقَ حُكم الله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، أمَّا أن ينقلب الأمرُ، فيُصبح الواقعُ هو الذي يوجِّه النصوصَ، ويُحدِّد الأحكام المناسِبةَ له؛ فهذا هو الذي يتوجَّه إليه الرفضُ والإنكار.
إنَّ إسقاط بعض الأحكام الشرعيَّة بدَعوى مراعاة مقاصِد الشريعة مسلكٌ يؤدِّي إلى إهدار نصوص الشَّريعة، وتعطيل أحكامها، ويُمكن لكلِّ أحد أن يردَّ أيَّ حُكم شرعي، معلِّلًا ذلك بالنظر إلى المقاصِد، والاهتمام بالكليَّات، بينما المقاصد في حقيقة الأمْر هي خُلاصة الفُروع الفقهيَّة، ونتيجة للنَّظر إلى الجزئيَّات. وللعمل بها ضوابط؛ منها: عدَم معارضة النصِّ الشرعي، أو إزاحة الأحكام الشرعيَّة، إلى غير ذلك.
ولا مانعَ عند أصحاب هذا الاتِّجاه المتوسِّع في العمل بالمقاصد من النَّظر إلى أقوال الفقهاء لاختيارِ القَول المناسِب للواقِع المنحرِف، بدَعوى مراعاة مقصِد التيسير في الشَّريعة الإسلاميَّة، أو غير ذلك من المقاصِد، سواء كان هذا القول قويًّا أو ضعيفًا، موافقًا للأدلَّة أو مخالفًا لها، وبغضِّ النَّظر عن القائل، وإنَّما المهمُّ هو تطويعُ الأحكام؛ لتُلائمَ ظروفَ الواقع.
وأيضًا فإنَّ من الخطأ: الظنَّ بأنَّ المقاصد إنَّما هي لإقامة المصالح الدُّنيوية فقط، بل الصَّحيح أنَّ الشَّارع قد قصَد بالتَّشريع إقامةَ المصالح الأُخرويَّة والدنيويَّة، (ومنها: ما في العِبادات الباطِنة والظَّاهرة، من أنواع المعارف بالله تعالى وملائكته وكتبه ورُسله، وأحوال القلوب وأعمالها، كمحبَّة الله وخشيته، وإخلاص الدِّين له، والتوكُّل عليه، والرَّجا لرحمته، ودُعائه، وغير ذلِك من أنواع المصالِح في الدُّنيا والآخرة، وكذلك فيما شرَعه الشارعُ من الوفاء بالعهود، وصِلة الأرحام، وحقوق المماليك والجيران، وحقوق المسلمين بعضِهم على بعض، وغير ذلك من أنواع ما أمَر به ونهَى عنه؛ حفظًا للأحوال السَّنية، وتهذيب الأخلاق، ويتبيَّن أنَّ هذا جزءٌ من أجزاء ما جاءت به الشَّريعة من المصالح) - كما يقول شيخُ الإسلام ابن تيميَّة [((مجموع الفتاوى)) (32/234)]. ويُصرِّح الشاطبيُّ بأنَّ المصـالح الدُّنيـوية تابعةٌ للمصـالح الأُخرويَّة؛ فـيقول: (المصالِح المجتلَبة شرعًا والمفاسد المستدفَعة إنَّما تُعتبر من حيثُ تُقام الحياة الدُّنيا للحياة الأُخرى، لا من حيثُ أهواءُ النُّفوس في جلْب مصالحها العادية، أو دَرْء مفاسدها العادية) [((الموافقات)) (2/ 63)].
وقد أدَّت المبالغةُ فـــي تعظيم المقـاصِد الشرعيَّة، وشِدَّة العناية بها إلى أنْ قُدِّمت على النُّصوص والأحكام الشرعيَّة، ولا يَخفَى ما حصَل من اعتداء على الشَّريعة وتحريفها باسم المقاصِد؛ حتى جُعلت أصولًا في حدِّ ذاتها؛ بينما يقول ابن القيِّم في ((أعلام الموقعين)) (2/ 236): (الأصول: كتاب الله، وسُنَّة رسوله، وإجماع أمَّته، والقياس الصَّحيح الموافِق للكتاب والسُّنة).
وعلى الجانب الآخَر فإنَّ إلغاء اعتبار مقاصِد الشَّريعة المعتبرَة بالكليَّة له أيضًا مساوِئه الخطيرة، فالواجب هو الانضباطُ بقواعد الشَّرع وأصوله، ومراعاة النُّصوص، بناءً على فَهم الرَّاسخين في العِلم من سلَف الأمَّة وأئمَّتها وعُلمائها الرَّاسخين، والتوسُّط في اعتبار المقاصِد الشرعيَّة دون إفراط أو تفريط.
ويُنظر للفائدة مقالَا: (أين أخطأ المقاصديّون الجدد في نظرتهم إلى مقاصد الشريعة (1، 2) للدكتور هيثم الحداد؛ فإنَّهما - على وجازتهما - من أحسن ما كُتِب في هذا الباب.
هذا، وقد وقَع مؤلِّف هذا الكتاب في بعضِ المزالق والأخطاء؛ نتيجةَ المبالغة في أمْر المقاصد، ومحاولة تطويع النُّصوص الشرعيَّة لتتوافَق معها على ما تصوَّره. وفيما يلي ذِكرٌ لبعض تلك المؤاخذات:
فممَّا يُؤخَذ على المؤلِّف: قوله (ص: 17): (... نظرية النَّسخ بمعنى الإلغاء والانتهاء إلى أحكام شرعيَّة ثابتة، على الرَّغم من أنَّ هذا المعنى للنَّسخ ما أنزل الله به من سُلطان) وقد كرَّر هذا المعنى في أكثرَ من موضِع، منها: (ص: 27)، (ص: 60-61)، والأمثلة والمناقشات التي في كتابه كلُّها تدور في هذا الفَلَك.
التعقيب:
المؤلِّف هنا يُقرِّر أنَّ النَّسخ بمعنى إلغاء الحُكم وانتهاء العمَل به ما أنزل الله به من سُلطان! وهذا جهلٌ منه، فكلمة الأصوليِّين تَكاد تتَّفق على أنَّ هذا النوع من النَّسخ موجودٌ، ومرادٌ، وإنْ كان هناك نِزاعٌ بينهم في مواطِن النَّسخ هذه؛ قال أبو بكر الجصَّاص في ((الفصول في الأصول)) (2/ 215 - 216): (وإنَّما النَّسخ يُبيِّن أنَّ زمانَ الفرض الأوَّل قد انقضَى، وأنَّ الواجب في الزَّمان المستقبَل غير الواجِب الذي كان في الماضي، وهذا لو نص عليه في خِطاب واحد كان جائزًا مستقيمًا... على حسَب ما علِم سبحانه من مصالح العباد فيه... كذلك لا يمتنع أن يخالف بين أحكامهم في زَمانين... وكذلك العبادات تَجري على هذا المنهاج). ويُقرِّر أنه يجوز نسخ بعض الحُكم ويجوز نسخُ الجميع فيقول (2/ 273): (فأمَّا نسْخ الجميع: فنحو قوله تعالى: {عَلِمَ اللهُ أنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: 187] رُوي أنَّه قد كان حرُم عليهم الجماع والأكْل والشرب بعدَ النوم في ليالي الصَّوم، فنَسخ ذلك بقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] الآية، فأباح الأكل والشرب والجماع في ليالي الصوم بعد النوم وقبله). [وينظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم (4/ 59)، وغير ذلك من كتب الأصول].
والعجيب أن المؤلِّف نفْسه قد أشار إلى هذا الاتِّفاق، حيث قال (ص: 51-52): (أمَّا إطلاق النَّسخ على إلغاء الأحكام الشرعيَّة، فهناك اتِّفاق في كتُب الأصول على جزء من التعريف، وهو: (رفْع حُكم شرعي بدليل متأخِّر)، ورفْع الحُكم يعني (الإلغاء المؤبَّد) لهذا الحُكم، فلا يحلُّ إعمال الحُكم المنسوخ بحال. وهناك اتِّفاق أيضًا على الإنكار على اليهود لنَفيهم النَّسخ بدَعوى نفي البَداء على الله تعالى - أي: أن يبدو له شيء في الزمان - وهذا مِن باب إنكارهم نسْخَ شريعة محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم لشريعة اليهود)!
فكيف ساغ له أن يزعُم أنَّ هذا المعنى ما أنزل الله به من سلطان، مع اتِّفاق أئمَّة الأمَّة عليه؟! قال أبو بكر الجصَّاص في ((الفصول في الأصول)) (2/ 215) ((مَن يُنكر النسخَ فريقان: أحدهما: اليهود، والآخر: فريقٌ من أهل المِلَّة من المتأخِّرين لا يُعتدُّ بهم)، وقال (2/217): (إنَّ الفرقة المنكِرة للنَّسخ من أهل الصَّلاة، قد خالفت الكتابَ، والآثار المتواترة، واتِّفاقَ السَّلف والخَلف جميعًا فيما صارتْ إليه من هذه المقالة). ولا شكَّ أنَّ مسلكَ المؤلِّف هذا خطيرٌ جدًّا، وفيه طرحٌ لآراء علماء الأمَّة وما اتَّفقوا عليه من أصول الشَّريعة الغرَّاء.
ومن المآخِذ على المؤلِّف: قوله (ص: 20): (وللمقاصد تقسيمات وتصنيفات عديدة، أشملها وأوسعها التقسيم عند العلماء المعاصرين الذين يكتبون في هذا العلم، والذين اتفقوا على أنَّ المقاصد تنقسم إلى مستويات ثلاثة: عامَّة، وخاصَّة، وجزئية. أمَّا المقاصد العامَّة، فهي المعاني التي لُوحظت في جميع أحوال التَّشريع الإسلامي وأبوابه، أو في أنواع كثيرة ومتنوِّعة منها، كمقاصِد السَّماحة، والتيسير، والعدل، والحريَّة، ومراعاة الفِطرة، ومراعاة السُّنن الإلهية، وحِفظ نظام الأمَّة، إلى آخرها. وتَشمل المقاصِدُ العامَّة الضروراتِ الخمسَ المعروفة (أو السِّت إذا أضفنا معنى "العِرض")، ألَا وهي: عِصمة أو حفظ: الدِّين والنَّفس والعقل والنَّسل والعِرض والمال. والأساس الذي بُني عليه تصنيف هذه المعاني كضرورات هو أنَّها اعتُبرت معانيَ أساسيَّة لاستمرار الحياة البشريَّة نفسها، بل قال العلماء: إنَّ حِفظ هذه المعاني هو الغايةُ مِن كلِّ شريعة سماويَّة؛ فالمقاصد على مستوى الضرورات هي مسائلُ حياة أو موت).
التعقيب:
ذكَر المؤلِّف عبارات بعضها مطَّاط، وتُلغى بسببها أحكامٌ شرعيَّة بزَعْم أنَّها تخالف هذه المقاصِد (كمقاصد السَّماحة والتيسير والعدَل والحريَّة)؛ لذلك نجد أنَّه من خلال هذه يُوالَى أعداءُ الله تعالى، ويُتاح لهم ممارسة شَعائر الكُفر، وتَولِّي المناصِب العُليا في دولة الإسلام، بل يرَى بعضهم أنَّه لا مُشكلةَ في الردَّة، وليس حدُّها القتْل؛ لأنَّ من مقاصد الإسلام الحريَّة، وداخل فيها دخولًا أوليًّا حرية المعتقَد! وعلى أساس مقاصِد الشَّريعة يُلغى جِهاد الطلب، ويُقتصر فقط على جِهاد الدِّفاع، إنْ كان له مسوِّغات أصلًا!... إلى طائفةٍ كبيرة من الأحكام تتَّضح في كتابات القوم، وستأتي بعض أمثلة لهذا.
وأيضًا مقصد ضرورة حِفظ الدِّين (الإسلام)، مع مَقصِد حريَّة الاعتقادات؛ هل يتَّفقان أم يتعارضان؟!
كيف نُحدِّث الناس عن أنَّ من مقاصد الشَّريعة وضرورياتها حِفظَ الدِّين، ومع ذلك نُجوِّز لكلِّ إنسان أن يعتقِدَ ما شاءَ؛ وأنَّ له أن يُسلم، وله أن يظلَّ على كُفره، وله أن يعودَ بعد إسلامه إلى الكُفر، وأنَّ للكفَّار الحقَّ في إظهار شعائرهم وممارستها في بلاد المسلمين، والدَّعوة إليها... إلخ ، كل هذا من لوازم حريَّة الاعتقادات؛ فكيف يُحفظ الدِّين الذي هو الإسلام، وأيُّ شيء يَبقى منه إذا ظهَر الكفر واستُعلن به، ودُعي إليه، ومُورِس بكلِّ حريَّة؟!
ومن المآخذ على المؤلِّف أيضًا: تقريرُه (ص: 59 وما بعدها) لرأي أبي مسلم الأصفهاني - والذي يذكُر المؤلِّف أنَّ الرازيَّ مال إليه - في قصْر النَّسخ على نسْخ الشَّرائع السَّابقة، وأنَّ المراد من الآيات المنسوخة هي الشَّرائع التي في الكتُب القديمة من التوراة والإنجيل، كالسَّبت والصَّلاة إلى المشرق والمغرب ممَّا وضعه الله تعالى عنَّا، وتعبَّدَنا بغيره، وعدَم ثبوت مبدأ نسْخ آيات الأحكام الشرعيَّة بمعنى الإلغاء بالأساس، (ثم قال: وهو ما يبدو لي في هذه المسألة)، وهذا رأيٌ ضعيف شاذ، اجتمعت كلمة الأصوليِّين على تَضعيفه كذلِك - كما سبَق - ولا يخفى هذا على المؤلِّف، ولكنَّه جنَح إلى هذا الرأي؛ لأنَّه هو الذي يُساعِده على ما يُرجِّحه من أقوال أخرى يَرى فيها تحقيقَ ما يزعُمه من مقاصد الشَّريعة؛ فقد قال (ص: 16): (حيث يبدو لي موضوعه مهمًّا وأساسيًّا في عملية التَّجديد والإحياء الإسلامي المعاصِر، ألَا وهو موضوع النَّقد الأصولي لنظرية النَّسخ، تِلك النظرية التي جانَبَ الكثيرَ من الفقهاء الصوابُ في تصوُّرها وتطبيقها قديمًا وحديثًا)، وقال (ص: 125): (ولذا كان لا بدَّ من أن نُطالِب العقل الأصوليَّ المجتهد أن يتجاوز نظرية النَّسخ؛ سبيلًا إلى حلِّ التعارضات اللَّفظية المتوهَّمة، "إلَّا ما كان مِن نسْخ بعض أحكام الإسلام لِمَا قبلها من الشرائع، وما كان من النَّسخ على سبيل التدرُّج في التطبيق"...)؛ فلا بدَّ للتجديد المزعوم من نقْد هذه النظريَّة! وسيتَّضح هذا بما سيأتي من أمثلة، ويتَّضح كذلك أنَّه إذا دعَتِ الحاجةُ إلى القول بالنَّسخ؛ لأنَّه يوافق ما يُدَّعى أنه من مقاصد الشريعة؛ فلا حرج حينئذ من القول بالنَّسخ، حتى ولو كان بعيدًا عن الصَّواب، أو لم يقُل به أحدٌ من الأئمَّة العلماء!
ومن المؤاخذات على المؤلِّف: الفصل الرَّابع (ص: 55 - 100) الذي عقَده لنقد بعض مناهج الاستدلال على النَّسخ، وخُلاصة ما ذَكَره في هذا الفَصل: أنَّه ليس هناك دليل قطعيٌّ على أنَّ في القرآن الكريم آياتٍ منسوخة، وأنَّ قوله تعالى: {ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ..} (إنَّما هو في الحديث عن نسْخ بعض الأحكام من الشَّرائع قبل الإسلام)، ويذكر أنَّه لا يَستسيغ ما يَذكُره أغلبُ المفسِّرين من أنَّها تتحدَّث عن نسْخ بعض آيات القرآن أو نسيانها - لا يَستسغيها المؤلِّف - لا رسمًا ولا حُكمًا (ص: 57). ويقول: (وحتى لو صحَّ تفسير الآية على أنَّها تتحدَّث عن مبدأ نسْخ آيات القرآن أو أحكامه - كما يرى الجمهور - فإنَّ هذه الآيةَ لا تدلُّ بذاتها على وقوع النَّسخ فِعليًّا في موضع بعينه من القرآن من دون دليل خاصٍّ) (ص: 61).
وتحدَّث عن الاستدلال على النَّسخ بالتعارُض بين النُّصوص، وذكَر أنَّ التعارض الحقيقي لا يوجد بالاستقراء، وأنَّ دعاوى التعارض هي نتيجة لتعارُض ظاهريٍّ غاب سِرُّه عن بعض العلماء واتَّضح لآخرين.
وتحدَّث عن الاستدلال على النَّسخ بمعرفة التاريخ وأنَّ اتباع الصحابة (للأحدث فالأحدث) كان واجبا في حقهم، ولكن لا أن يكون الأحدث ناسخا على التأبيد لا في حقهم ولا في حقنا إلا أن ينص على ذلك. (ص: 75).
وذكر أنَّه لا حُجيَّة للنَّسخ بالرأي المجرَّد أيًّا كان قائله، وأنَّ (القول بالنَّسخ للنصوص التي ظنَّها بعضُ الصحابة أو العلماء متعارضة - باجتهاد محض منهم، صحَّحه بعضهم لبعض في كلِّ الحالات - ينبغي أن لا يُعتبر (نصًّا على النسخ) ولوْ ورَد في كتب السُّنة؛ ذلك أنَّ رأي الصحابي الجليل أو العالم الشارح في هذه الأحوال ليس (نصًّا شرعيًّا)، إلَّا أن يَنقُل نصًّا عن الشارع أو رسوله بالنَّسخ...) (ص: 75 - 76). ثم يقول: (ص: 77): (فإذا ثبَت أنَّ العلماء قد ردُّوا دَعاوى النَّسخ، ولو من الصَّحابة رضي الله عنهم، ما لم تستندْ إلى نصٍّ عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، الذين جاؤوا من بعدهم، والذين ما استندوا إلَّا على الاختلاف الظاهري في أذهانهم، ومعرفة التاريخ في قصصهم، وهذا أيضًا يُعتبر نسخًا بالرأي المجرَّد، وإلغاء للأحكام الشرعيَّة بمجرَّد الرأي). ثم ينقُل كلام العلماء في خطأ من يدَّعي النسخ بغير دليل.
التعقيب:
بدايةً: نتَّفق مع المؤلِّف في ضرورة الدَّليل الشرعي والمنهج المحدَّد للحُكم على نصٍّ ما بأنَّه منسوخ، ونتَّفق كذلك مع المؤلِّف فيما نقَلَه عن الحافظ ابن حجر من أنَّ (النسخ لا يُصار إليه إلا بدليل)، وما نقله عن شيخ الإسلام ابن تيميَّة من أنَّ (النسخ لا يُصار إليه إلا بيقين، وأمَّا بالظن فلا يثبُت النسخ)، وعن الإمام ابن رشد أنَّه: (لم يجزْ أن نترك شرعًا وجَب العمل به بظنٍّ لم نُؤمَرْ أن نوجب النَّسخ به... فالظنون التي تستند إليها الأحكام محدودة بالشرع، أعني التي تُوجِب رفعَها أو إيجابها، وليست هي أي ظن اتَّفق)، وعن الإمام ابن حزم أنَّه: (لا يحِلُّ لمسلم أن يقول في آية ولا حديث بالنَّسخ إلَّا عن نص..).
ولكن القول بإلغاء النَّسخ الذي هو إلغاءُ الحُكم كليَّةً، فهذا ما لا يُوافق عليه المؤلِّف - كما سبق.
- وأيضًا فإنَّ في كلام المؤلِّف إهدارًا لكلام الأئمَّة من الصَّحابة، والأئمَّة والفقهاء؛ فإنَّهم وإن كانوا غير معصومين، فإنَّ غالب اجتهاداتهم- لا سيَّما ما اتَّفق عليه جمهورُهم، وذهب إليه أكثرُهم - صواب، وقد بنَوْها على الأدلَّة الشرعيَّة من الكتاب والسُّنة، والتمثيل ببعض الأمثلة؛ لنفي مجموع الأقوال، وإهدار كلِّ ما قيل، ليس من الإنصاف، وليس مسلكًا صحيحًا.
وما ذكره المؤلِّف من النَّقد والأمثلة لا يُسلَّم له، ولكن بيان ذلك وتحليله والرد على جُزيئاته لا يَتناسب مع هذا العَرْض المختصَر، وسيأتي التعقيبُ فقط على بعضها.
- وقد فات المؤلِّفَ في هذا الفصل الكلام عن استدلال العلماء بالإجماع على النَّسخ؛ قال الخطيب البغداديُّ في ((الفقيه والمتفقه)) (1/ 339): (فيما يُعرَف به النَّاسِخ من المنسوخ: اعلم أنَّ النسخ قد يُعلم بصريح النُّطق، كما ذكرنا في حديث تحريم المتعة، وقد يُعلم بالإجماع, وهو: أن تجمع الأمة على خلاف ما ورد من الخبر , فيستدل بذلك على أنه منسوخ لأن الأمة لا تجتمع على الخطأ) - على تفصيلات أُخر مذكورة في محلِّها.
وفيما يأتي بعضُ الأمثلة التي ذكَرها المؤلِّف مع التعقيب عليها، وبيان الخطأ فيه:
- فمن ذلك: قوله (ص: 78): (أمَّا آية السيف، فعلى الرغم من أنَّ دعوى النسخ بها قد ربَت على المئات، فإنَّ هناك خلافًا حول أيِّ آيات القرآن هي هذه الآية! والشائع أنها الآية في سورة التوبة: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. وقد ادُّعي أنها نسخت عددًا كبيرًا من الآيات، منها على سبيل المثال قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]). ثم يقول (ص: 79-80): (وعلى أيِّ حال، فالآيات المذكورة كلها آيات مُحكَمات ولا يوجد تعارضٌ بينها وبين (آية السيف)، ولا دليلَ على أي من ذلك، ولا نَسْخ. وللأسف، فإنَّ دعاوى النَّسخ بآية السيف هذه ما زال يُردِّدها بعضُ المنتمين إلى بعض الجماعات الإسلامية في عصرنا، ويُهملون - بناءً عليها - كل نصوص الإصلاح والدَّعوة بالحِكمة والحوار، و"حرية الاعتقادات"...).
ويُقرِّره في الخاتمة بقوله (ص: 129): (آيات القرآن التي تدعو إلى العفو والصَّفح والصبر واحترام العهد، وحُسن الجوار، وحريَّة المعتقد، والحوار والتعايُش، كلها آيات مُحكَمات ولا يوجد تعارضٌ بينها وبين ما سُمِّي "آية السيف").
التعقيب:
لم يَذكُر المؤلِّف ما التوجيه الصَّحيح لآية السَّيف، ووجْه اتِّساقها وإحكامها مع بقيَّة الآيات التي ذكَر أنَّها كلها مُحكَمات. وكيف لا يوجد تعارُضٌ بينها وبين (كل نصوص الإصلاح والدَّعوة بالحِكمة والحوار، و"حرية الاعتقادات"...)؟!
وكلام المؤلِّف هذا يتَّسق مع القول بإلغاء جِهاد الطلب، وأنَّ القتال فقط يكون لِمَن بدأ بالقتال؛ لأنَّ الدعوة ممكنة الآن بالحوار، وهناك مواثيقُ ومعاهدات تنصُّ على "حرية الاعتقادات"...إلخ. وقد أوْضَحْنا خطأ ذلك في نقدنا لكتاب فقه الجهاد للشيخ يوسف القرضاوي، فلا حاجة لتَكراره هنا. ومسألة حريَّة الاعتقادات وحرية المعتقَد، من المسائل التي كثُر فيها الخطأ كذلِك.
- ومن ذلك: قوله (ص: 88-89): (دعوى النَّسخ في الآيتين: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا * وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء: 15، 16]. ذكر الدكتور مصطفى أنَّهما منسوختان بآية النور: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] [النور: 2]. وهو ما يبدو مثالًا آخَر على التدرج في تطبيق الحُكم، وهو حدُّ الزنا في هذه الحالة، وليس النسخ بمعنى الإلغاء التام، وعدَم الإعمال تحت أي ظرف).
التعقيب:
لم يُنكِر المؤلِّف أنَّ آية النور نسَخت آيتَي النِّساء؛ لأنه لم يستطع دفْع هذا، ولكنه نفَى أنْ يكون النَّسخ هنا بمعنى الإلغاء التام، وعدم الإعمال بها تحتَ أي ظرف! وهذا كلام في غاية البُطلان؛ فإنَّه لم يقُلْ أحد من الأمَّة: إنَّ حدَّ إمساك النساء اللواتي يأتين الفاحشة في البيوت حتى الموت، لم يَنتهِ زمنُه، ولم يُلْغَ حُكمه؛ إمَّا على القول بنَسخ الآيتين، أو على القول بأن هذا الحُكم كان مؤقَّتًا، حتى جُعِل لهنَّ السَّبيل؛ جُعِل في البِكر بآية النُّور، وجُعِل في الثيِّب بالسُّنة القوليَّة في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ((خذُوا عني، فقد جعَل الله لهنَّ سبيلًا: الثيِّب بالثيِّب، والبِكر بالبِكر؛ الثيب جلد مئة، ثم رجمٌ بالحِجارة، والبِكر جلدُ مئة، ثم نفْي سَنَة)) [رواه مسلم (1690)]، وبالسُّنَّة العمليَّة كما في رجْم الغامديَّة واليهوديَّة. وأي ظرف يا ترى الذي سيوجب المؤلِّفُ إعمالَ هذا الحكم فيه؟!
ولكن قد يُفهم أنَّ المؤلِّف إنَّما يقول: إنَّه يُعمل بجزء الآية الثاني فقط المتعلِّق بالتوبة؛ لأنَّه هو المتَّسق مع مقاصد الشَّريعة، والموافق لسياق الآيات الأخرى، وعليه فيُمكن إلغاء الحدود إذا أظْهَر الناس التوبة!
بل أخطر مِن هذا ما يُقرِّره المؤلِّف من إمكانية إسقاط هذا الحدِّ وغيره من الحدود أصلًا إذا ثبَتت توبة الجاني! حيث يقول: (آية الجلد في سِياق غيرها من أحكام جريمة الزنا: وآية الجَلد المذكورة أعلاه - على إحكامها - لا بدَّ من أن نضعَها كذلك في سِياق الأحكام الأخرى في الباب نفسه، وليس بمعزل عنها. فمثلًا، إذا رأى الحاكم قَبول سقوط الحدِّ الذي تَقتضيه الآية بتوبة الجاني، فيُمكنه أن يعفو عنه، أو يعمل الآيات الأخف تعزيرًا. وإذا كان الله تعالى يقول عن المحاربين: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة: 33 - 34], وإذا كان العلماء لم يختلفْ واحد منهم في هذه الآية على أنَّ حدَّ الحرابة يسقُط بالتوبة كما تنصُّ الآية صراحةً؛ فكيف بالتوبة في غيرها من الحدود، على الرَّغم من أنَّها عقوبات أخف على جرائم أخف؟! والإجابة المناسبة لهذا العصر والاجتهاد الأَولى بالمقصود من مسألة الحدود أصلًا هو: نعم! هذه التوبة إذا ثبتَتْ وأيَّدتها القرائن فلا بدَّ من أن نقبَلها -كقاعدة عامَّة على أيِّ حال، وللدكتور توفيق الشاوي رأي مؤيِّد لهذا الاتجاه...).
ويُقرِّر ذلك في الخلاصة بقوله (ص: 129): (لا بدَّ من قبول توبة الجاني إذا أبداها ولو في جرائم الحدود (في ما هو من حق الله المجرَّد، وبعد أن تُردَّ حقوق الناس إلى أصحابها)، إذا ثبتَتْ هذه التوبة وأيَّدتها القرائن؛ لأنَّ ذلك أنجعُ في مكافحة الجريمة وإصلاح الجاني والمجتمع من فَرْض العقوبة المقرَّرة).
التعقيب:
وهنا يقرر المؤلِّف أمورًا تأتي على شرائع الله تعالى وثوابت الدِّين بالهدم؛ فمن الأمور الثابتة أنه إذا رُفِع الجاني إلى وليِّ الأمر فلا يجوزُ العفو في الحدِّ، إلَّا ما كان في الدِّماء وتَصالَح أولياء المقتول على الدِّية أو عفَوْا عن الجاني؛ أمَّا بقية الحدود فلا؛ فقد غضِب النبي صلَّى الله عليه وسلَّم غضبًا شديدًا لَمَّا شفع حِبُّه وابن حِبِّه لإسقاط الحدِّ عن المرأة المخزوميَّة التي سرقت، فقال صلَّى الله عليه وسلَّم: ((أَتشفَع في حدٍّ من حدود الله؟! ثم قام فاختطب، ثم قال: إنَّما أَهلك الذين قبلكم، أنَّهم كانوا إذا سرَق فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سرَق فيهم الضَّعيف أقاموا عليه الحدَّ، وايمُ اللهِ لو أنَّ فاطمةَ بنت محمَّد سرَقتْ، لقطعتُ يدَها. ثم أمَر بتلك المرأة التي سَرَقت، فقُطعتْ يدُها)) [رواه البخاري (3475)، ومسلم (1688)]، فلو كان أحد جائزًا في حقِّه إسقاط الحد، فلا أَوْلى من هذه المرأة الشريفة التي تَشفَّع فيها الناس، وأحبُّ الناس إلى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم.
وأيضًا لَمَّا لم يستفصلِ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم هل تابتْ أو لا؟ دلَّ ذلك على أنَّ التوبة غير معتبَرة، على الأقل إذا ر ُ فع الجاني للحاكم.
أما قوله : (هذه التوبة إذا ثبتَتْ وأيَّدتها القرائن فلا بدَّ من أن نقبَلها -كقاعدة عامَّة على أيِّ حال) كيف تكون مقبولةً على أيِّ حال والآية التي استدلَّ بها قال الله عزَّ وجلَّ فيها: { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ؟! فلا شكَّ أنَّ هذا مصادم لنصِّ الآية التي جعلها أصلًا له.
فكيف تُهدَر كلُّ هذه النصوص والأحكام والثوابت، وتُغيَّر، بزعْم أنَّها (المناسبة لهذا العصر) وأنَّها الموافقة لـ(المقصود من مسألة الحدود أصلًا)؟! لا شكَّ أنَّ هذا من أسوأ المذاهب، التي ستَفتح بابَ الشرور، وهدم أحكام الشريعة.
ومن المؤاخذات عليه: قوله (ص: 125): (خلصت من هذا البحث إلى أنَّ الأحكام الشرعية لا بدَّ من أن تُبنى على فهم مقاصد النصوص أكثر من فَهم دَلالات ألفاظها!...).
التعقيب:
دَلالات الألفاظ قد تكون مقصودةً للشارع في حدِّ ذاتها، فإهمالها وبناءُ الأحكام الشرعيَّة على فَهم مقاصد النصوص فقط مزلقٌ خطير، ثم ما هو الضابطُ لتحديد فَهْم مقاصد النصوص، ومَن الذي يحدِّد هذه المقاصد؟! فقد تختلف الأنظار في تحديد هذه المقاصد، وعليه تختلف الأحكام، وتُهدر النصوص ودَلالة ألفاظها؛ ولا رَيبَ أنَّ مؤدَّى هذا القول ولازمه خطير جدًّا، كما اتَّضح من الأمثلة.
ومن المؤاخذات على المؤلِّف: قوله (ص: 91): (وهناك مسألة تتعلَّق بهذه الآيات وقضية النَّسخ في الباب نفسه كذلك، ألَا وهي قضية الرجم. فأغلب العلماء على مشروعيَّة الرجم للزاني المحصن أي المتزوج، ولكن هناك رأي مفاده أن الرجم هو من شريعة اليهود التي نسخها الإسلام بآية الجلد المذكورة، وليس من شريعة الإسلام. وعلى هذا تكون الآيات المذكورة ناسخة لبعض شرائع اليهود وليست منسوخةً. وهناك رأي آخَر يرى أنَّ آية الجلد نفسها مُحكَمة وعلى عمومها، وأنَّ الرجم تعزير يعود للحاكم، وليس هو الأصْل, وهذان الرأيان الاجتهاديان جديران بالاعتبار في عَصرنا، وذكرهما الشيخ يوسف القرضاوي وعدَد من العلماء المعاصرين...). وممَّا نقَل المؤلِّف في ذلك قول الشيخ أبي زهرة للشيخ يوسف القرضاوي: (يا يوسف، هل معقول أنَّ محمد بن عبد الله الرحمة المهداة يَرمي الناس بالحجارة حتى الموت؟!...). ثم يُقرِّر في الخاتمة (ص: 130) قائلًا: (على الرغم من أن أغلب العلماء على مشروعية الرجم للزاني المحصَن، أي: المتزوج، إلَّا أنَّ الوجاهة والاتساق مع رُوح الإسلام هي في الرأي الذي مفاده: أنَّ الرجم هو من شرائع اليهود التي نَسخَها الإسلام بالآية التي نصَّت على عقوبة الجلد)!
التعقيب:
هذا هدْم آخَر لحُكم ثابت من أحكام الشَّريعة الغرَّاء، وكله بزعم مخالفته لمقاصِد الشريعة! وأن الوجاهة والاتساق مع روح الإسلام! كذا تَقتضي أنَّ هذا الحُكم ليس من شريعة الإسلام، وأنَّه من شرائع اليهود التي نَسخَها الإسلام! حتى وإنْ كان النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم - مبلِّغ الشَّريعة عن ربِّ العالَمين - قد رجَم، ورجَم خليفتُه أبو بكر الصِّدِّيق، ورجَم عمر، وتتابعت الأمَّة في قرونها كلِّها على هذا الحُكم، وأغلب العلماء على مشروعيَّته - كما أقرَّ المؤلِّف نفسُه!- مع كلِّ هذا هناك رأيٌ هو أوجه؟! سبحان الله! ما أشدَّ وطأةَ الهزيمة النفسيَّة أمامَ أعداء الإسلام عندما تتحكَّم في النفوس! ويُستحضر هنا قولُ أمير المؤمنين المُحدَّث الملهَم عمر ابن الخطاب: (رَجمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ورجَمَ أبو بكرٍ ورجمْتُ . ولولا أنِّي أكرَهُ أنْ أزيدَ في كتابِ اللهِ لكتَبْتُهُ في المصحَفِ؛ فإِنِّي قَدْ خشيتُ أنْ يَجيءَ أقوامٌ فلا يَجِدونَهُ في كتابِ اللهِ فيَكفرونَ به) [رواه الترمذي (1431) وقال: حسن صحيح، وصحَّحه الألباني في ((صحيح سنن الترمذي))].
وتقرير أحكام مسألة الرَّجم وأدلَّتها مشهورةٌ ومقرَّرة في مواضعها من كتُب الفقه، والدِّراسات المتخصِّصة كذلك، ليس هذا محلَّ بسطها.
ويَكفي هنا ما سطَّرتْه يراعُ الإمام ابن القيِّم في كتابه الفذِّ ((أعلام الموقعين عن رب العالمين)) في الفُصول التي عقدَها لبيان الحِكمة من التشريعات وموافقتها للقِياس الصَّحيح، والرد على نُفاة ذلك، ومن ذلك: فَصْل الحِكمة في حدِّ الزِّنا وتنويعه؛ ومن ذلك قوله: ((أعلام الموقعين)) (2/ 82 - 83): (ولَمَّا كان الزِّنا من أُمَّهات الجرائم وكبائِر المعاصي؛ لِمَا فيه من اختلاف الأنساب الذي يَبطُل معه التعارُف والتناصُر على إحياء الدِّين، وفي هذا هلاكُ الحرْث والنَّسل فشاكل في معانيه، أو في أكثرها القَتْلَ، الذي فيه هلاك ذلك، فزُجِر عنه بالقصاص ليرتدعَ عن مِثل فِعله مَن يهمُّ به، فيعود ذلك بعمارة الدُّنيا وصلاح العالم الموصل إلى إقامة العِبادات الموصلة إلى نعيم الآخرة).
ومن طرائفِ كلام أديب العربية الرَّافعي: قوله في ((وحي القلم)) (3/ 133): (لماذا أوجبتِ الشريعةُ الرَّجمَ بالحجارة على الفاسِق المحصَن؟ أهي تريد القتلَ والتعذيب والمُثلةَ؟ كلَّا! فإنَّ القتل ممكِن بغير هذا وبأشدَّ من هذا، ولكنَّها الحِكمة السامية العجيبة: إنَّ هذا الفاسق هدَم بيتًا فهو يُرجَم بحِجارته!... كل الأحجار يجِب أن تَنتقمَ لحجرِ دارِ الأسرة إذا انهدَم)!
ومِن هذا يتَّضح أنَّ ما يُدَّعى أنَّه من مقاصد الشَّريعة، وأنَّه أصلٌ يجب الردُّ إليه، والحُكم في المسائل على أساسه، قد لا يكون مقصدًا أصلًا، بل قد يكون مخالفًا لمقصود الشارع الحكيم، وما اشتهر مِن أنَّه حيثما وُجدت المصلحة فثمَّ شرْع الله تعالى، فهو كلامٌ صحيح مُستقيم، ولكن بشَرْط أن تكون المصلحةُ فِعلًا مصلحةً صحيحةً مُعتبرةً، مراعًى فيها نصوص الشَّرع ومقاصده، كما أراده الشارع الحكيم، وهذا محلُّ نظر الراسخين في العِلم، ويمكن أن يُعبَّر عنها هكذا: حيثما وُجِد شرعُ الله فثمَّت المَصلحة، وعليه فيُقال: إنَّ مجرد تحقيق شرع الله تعالى والقيام به هو من مقاصِد الشريعة في حدِّ ذاته!
ومِن المؤاخذات على المؤلف: قوله (ص: 27-28): (ويهدف هذا البحث رابعًا إلى خِدمة الدَّعوة الإسلاميَّة، ولا سيَّما في بلاد الأقليَّات الإسلاميَّة، عن طريق عَرْض أحكام الفقه الإسلامي من خلال أهدافها ومقاصدها، وهو المنهج الأقرب إلى المنهج العقلي الذي شاع في عصرنا، هذا المنهج الذي لا يَقبل إلَّا أن تدور الأحكام والتشريعات مع أهدافها المنشودة، وقِيمها العُليا، ومقاصدها المشروعة، لا مع حرفيَّاتها الشكليَّة ولا مع مصالح ذوي السلطان من الناس أيًّا كانوا. ولكن البحث يعرِض أيضًا لضابط هو في حدِّ ذاته مقصد شرعي مهم، ألَا وهو مقصد التعبُّد المحض في بعض الأحكام الشرعيَّة الإسلاميَّة، فنُثبته ونوضِّح ارتباطه بعقيدة الإيمان بالغيب، وبقصور العقل البشري أمامَ عِلم الله سبحانه وتعالى).
وقوله (ص: 112-113): (... فإن التصرُّفات النبويَّة الشريفة - على صاحبها الصلاة والسلام - في الأمور السياسيَّة والاقتصاديَّة والتربويَّة والعسكريَّة والصحيَّة، قد تختلف حسب الظروف التي عايشها على مدار مراحل الرسالة المختلفة، وهي بالتالي قد تصل إلينا في صورة (نهي بعد إباحة أو إباحة بعد نهي). ولكننا ينبغي أن نَفهمها كلَّها في إطار واحد من مقاصِد الإمامة في حِفظ عقائد الناس، وأموالهم، ونفوسهم، من دون حاجة إلى مسالك النَّسخ بالرأي المجرَّد. وهكذا يمكننا أن نفهم سُنَّته صلَّى الله عليه وسلَّم ونُطبِّقها في هذه المجالات العامَّة، بمقاصدها ومعانيها لا بألفاظها وصورها). ولخَّص ذلك في الخاتمة (ص: 127) بقوله: (لا بدَّ من المدخل المقاصدي للدعوة إلى الإسلام، ولا سيَّما في بلاد الأقليَّات الإسلامية، وذلك عن طريق عرْض الإسلام من خلال أهدافه ومقاصده، لا مِن خلال أحكامه المجرَّدة، وهو المنهج الأقربُ إلى المنهج العقلي الذي شاع في عصرنا).
التعقيب:
بدايةً: ما ذكَره المؤلِّف في التعبُّد المحض في بعض الأحكام الشرعيَّة الإسلامية، وأنَّه في حدِّ ذاته مقصد شرعي مهمٌّ. كلامٌ جيِّد، ومُتَّفق عليه.
ومع أهميَّة ربْط أحكام الشريعة بمقاصدها، إلَّا أنَّ الكلام على إطلاقه هكذا مؤدَّاه خطير جدًّا؛ فأحكام الله تعالى المجرَّدة - على حدِّ تعبير المؤلِّف - تحمِل في طِيَّاتها أسرارًا وحِكمًا، يُعلم اللهُ تعالى منها مَن شاء من عباده، والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في خلال دعوته للكفَّار، ورُؤساء الدُّول إلى أيِّ شيء دَعاهم؟ دعاهم إلى توحيد الله تعالى، وإلى الاستسلام لأحكامه؛ ليَسْلَموا ويُفلحوا في الدُّنيا والآخرة، ومعلوم أنَّ قدَم الإسلام لا تثبُت إلَّا على قدم التسليم والاستسلام، والدِّين أنزله الله تعالى ليُقام ويُعمل به، وشرَع الشرائع والأحكام؛ لتَحكُم البشر، ويَحتكِم إلى سُلطانها مَن أسلم وآمن بها، ويَخضَع لها مَن أباها وأعرض عنها، وهذه دعوة الإسلام ودعوة الرُّسل؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} [النساء: 64]، وقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]، وكان صلَّى الله عليه وسلَّم يمر ويدعو الناس قائلًا: ((يا أيُّها الناس، قولوا: لا إله إلَّا الله، تُفلحوا))، وكانت العرب تَفهم وتعي جيدًا أنَّ هذه الكلمة العظيمة تَعني خلْعَ كلِّ الأوثان التي يَعبدونها، والتخلِّي عن كلِّ الجاهليات التي يَعتادونها، وتَعني الاستسلامَ لأوامره، والخضوعَ لأحكامه؛ فلذلك أبَوْا أن يقولوها! فكيف يُدعى الناسُ إلى مقاصد الإسلام مُجردًا، لا مِن خلال أحكامه المجرَّدة - كما يقول المؤلف؟! وهبْ أنَّ إنسانًا دخل في الإسلام، ثم جاءه أمرُ الله تعالى فظنَّه مخالفًا لِمَا دُعي إليه من مقاصِد؟! بل هذا عند كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام اليوم؛ يظنُّون كثيرًا من أحكامه مخالفةً لمقصود الشريعة كما يزعمون! إنَّ هذا مؤدَّاه هدمُ أحكام الشَّريعة، وزعزعة ثوابت الدِّين، وفتْح الباب على مصراعيه لكلِّ مَن أراد أن يتنصل من حُكم ليس على هواه.
فالصَّحيح: أن يُدْعى إلى الاستسلام لله تعالى، وإلى إسلامِ الوجه له سبحانه، وبيان أنَّ هذا فيه خيرُ الدنيا والآخرة.
والأمر لله من قبلُ ومن بعدُ، والحمدُ لله ربِّ العالَمين، وهو وحْدَه الموفِّق والهادي إلى صِراطه المستقيم.