أولًا: عرض الكتاب:
كتاب هذا الشَّهر، عبارة عن دِراسة أصوليَّة فقهيَّة تَنحى المنحى المقاصدي، لمسألة
الثَّبات والتغيُّر في الحُكم الفقهي، مع التطبيق على نموذجين من المسائل المهمَّة
التي كثُر فيها الجدل في هذه الآونة. والكتاب فيه عِدَّة مؤاخذات منهجيَّة
وعلميَّة، وأيضًا مؤاخذات من الناحية المقاصديَّة ذاتها، وفي هذا العَرْض والنقد
إيضاحٌ لتلكم المؤاخذات بإيجاز.
تألَّف الكتاب من قِسمَينِ:
القِسم الأول: القِسم الأصولي، وقد اشتمل هذا القسم على ثلاثة فصول، تحت
كلِّ فصل مباحث ومطالب: تحدَّثت المؤلِّفة في الفصل
الأوَّل عن الأدلَّة الأصوليَّة القطعيَّة، مُقدِّمةً هذا الفصل بتمهيد
فيه شرْح إجمالي يتناول الأدلَّة الأصوليَّة القطعيَّة، ثم تكلَّمت عن نصِّ الكتاب
ونصِّ السُّنة المتواترة، فعرَّفت التواتر، وذكرت شروطَه التي ترجع إلى المخبِرين،
وشرطَيهِ اللَّذينِ يرجعان إلى المستمعِينَ، وأقسام التواتر باعتبار الاتِّفاق في
اللَّفظ وعدمه، وأنَّ التواتر يفيد العلمَ الضروريَّ. ثم انتقلت إلى الحديث عن
مسائل تتعلَّق بالنصِّ، وذكرت من ذلك: مسألة الدَّلائل اللفظيَّة والقطع، ومسألة
الكلام على ما في معنى النص، وهو مفهوم الموافقة عند مَن عدَّه من دَلالات الألفاظ،
ومسألة فيما يُظنُّ نصًّا وليس بنص. ثم تكلَّمت عن المعلوم من الدِّين بالضرورة،
معرِّفةً إيَّاه، ومبيِّنة للقطعي والمعلوم منه، ومنبِّهةً على ما يحصل من الالتباس
بين المسائل القطعيَّة والظنيَّة. انتقلت بعد ذلك للحديث عن الإجماع، موضِّحةً
الإجماع القَطعي، وذاكرةً كلام العلماء على حُجيَّة الإجماع، كما تكلَّمت عن
المُجمَع عليه نفسه، مرجِّحة رأيَ الرازي بأنَّ الإجماع حُجَّة ظنيَّة لا يُكفر ولا
يُفسَّق مخالفُه، ومرجِّحةً كذلك أنَّ الخلافَ في حُجيَّة الإجماع خلافٌ معتبَر.
والفصل الثاني: كان للحديث عن المَصلَحة
والقطع، مقدِّمة بتمهيد أيضًا، عن المصلحة ودَورها في ترسيخ القطعيَّات الشَّرعية
في ضوء فقه الرُّخصة. ثم ذكَرتْ تعريف المصلحة وعلاقتها بخيارات العقل والنصوص
الجزئية من حيثُ نسبةُ المصلحة إلى تلك النصوص، وبيَّنت أقسام المصلحة من حيث شهادة
الشرع لها، وأقسامها من حيث ترتيبها في تحقيق المقاصد الشرعية، ثم أوضحت أنَّ إدراج
المسائل الجزئيَّة تحت القواعد المقاصديَّة الكليَّة أمرٌ اجتهادي. بعد ذلك تطرَّقت
للحديث عن المصلحة والسِّياق الاجتماعي للحُكم الشرعي، ذاكرة سِتَّ مسائل تتعلق
بالمصلحة المرسَلة: الأولى: مسألة المصلحة الضروريَّة القطعيَّة الكلية. والثانية: مسألة
مِعيار الضرورة والحاجة. والثالثة: تأصيل مسألة إباحة بعض الممنوعات
الجزئيَّة؛ مراعاةً لأصل كلي. والرَّابعة: مسألة تغيُّر رتبة الذَّنْب من
حيث كونُه من الكبائر أو من الصغائر؛ تبعًا لتغيُّر الزمان. والخامسة: ضوابط
اعتبار المصلحة المرسَلة عند المالكيَّة. والسادسة والأخيرة: أقسام
التَّغيير المرتبِط بطروء المصلحة المرسَلَة.
وخصَّت الفصل الثَّالث: بالحديث عن القطع بين
المجتهد والعاميِّ، موضِّحةً صُور القطع بالحُكم الشرعي، ومتحدِّثة كذلك عن
العاميِّ واحتمالات الأدلَّة الظنيَّة، وعن انتفاء القطع ومسؤولية المجتهد والعامي.
وأمَّا القسم الثاني من الكتاب: وهو القِسم الفِقهي، فقد جاء في تمهيد،
وفصلين: بيَّنت المؤلِّفة في التمهيد العَلاقة بين القِسمين: الأصولي، والفقهي.
والفصل الأوَّل: كان الحديث فيه عن حقِّ الزوج
في تقييد خروج زوجته من المنزل بين الثبات والتغيُّر؛ ذكرت فيه المؤلِّفة حقَّ
الزوج في تقييد خروج زوجته من المنزل في المذاهب الأربعة؛ الحنفيَّة، والمالكيَّة،
والشافعيَّة، والحنابلة، وتحدَّثت عن حق الزوج في تقييد خروج زوجته من المنزل بين
رُؤيتين، متوصِّلةً إلى أنَّ المذاهب الثلاثة (الحنفيَّة، والمالكيَّة،
والشافعيَّة) تكاد تتَّفق - في نظرها - على القراءة المقاصديَّة للنصوص الواردة في
حقِّ الزوج في تقييد خروج زوجته من المنزل، وأنَّه حقٌّ ينبغي ألَّا يُعطِّل مصالحَ
الزوجة النفسيَّة والأسريَّة والاجتماعيَّة، وأنَّ هذا هو القدرُ المقطوع به في هذه
المسألة.
وأمَّا الفصل الثاني: فكان للحديث عن ما يجب
على المرأة سَترُه أمام الأجانب بين الثبات والتغيُّر؛ قدَّمت له المؤلِّفة بالكلام
عن تحرير معنى (العورة)، ومعنى (الفِتنة) بين الجنسين. ثم ذكرت ما يجب على المرأة
سترُه أمامَ الأجانب عند علماء المذاهب الأربعة. بعد ذلك فصَّلت الحديث عن حُكم
ستْر وجه وكفَّي المرأة أمام الأجانب، مرجِّحةً القول بعدم وجوب ذلك، ولا حتى ندبه
على العموم! وذكرت بعض الأدلَّة على هذه المسألة، مع مناقشة كلام العلماء فيها من
وجهة نظرها. كما تطرَّقت للحديث أيضًا عن حُكم ستْر قدمِ المرأة، وساقها، وذراعها،
والشَّعر المسترسل. وختمَت هذا الفصل بقراءة تحليليَّة تطبيقيَّة في كلام العلماء
فيما يجب على المرأة سترُه أمام الأجانب، مناقشةً القولَ بوجوب ستر المرأة جميعَ
بدنها أمام الأجانب، والقولَ بوجوب ستر المرأة جميع بدنها أمامَ الأجانب عدَا أعضاء
محدودة، وممثِّلةً بمثالين تطبيقيين على مسألة طروء المصلحة المعتبرَة على الحُكم
القريب من القطع. وفي الخاتمة: ذكرت ما توصَّلت إليه من نتائج خلال بحثها.
ثانيًا: نقد الكتاب:
يحسُن أنْ نذكر في البِداية نقدًا إجماليًّا للكتاب؛ ثم بعدَ ذلك نسلِّط الضوء على
أهمِّ المؤاخذات عليه؛ لتكتمل الصُّورة؛ فالكتاب في مُجمَله يتحدَّث عن أربعة
جوانب، هي:
1- منهجيَّة تحديد الأحكام الفقهيَّة القطعيَّة الثابتة باعتبار الاقتضاء الأصلي
للدَّليل القطعي.
2- ضوابط تغـيُّر الفقهيَّات القطعيَّة عند التنزيل على واقع المكلَّف؛ نتيجةَ طروء
مصلحة يصحُّ اعتبارها على وصْف الاستثناء.
3- التأصيل لتعامُل المجتهد والعاميِّ مع مساحات القطع والظن.
4- نموذجان تطبيقيَّان؛ لتكتمل بهما الصورة بتحقيق الصِّلة بين التأصيل والتطبيق في
قضية الثبات والتغيُّر المرتبطة بالأحكام القطعيَّة. وهذان النموذجان هما:
حقُّ الزوج في تقييد خروج زوجته من المنزل. والثاني: ما يجب على المرأة
سترُه أمام الأجانب.
وقد جانَب المؤلِّفةَ الصَّوابُ في هذه الجوانب الأربعة؛ ففي الجانب الأوَّل:
ضيَّقت المؤلِّفة حَجم الأحكام القطعيَّة جدًّا، واختارت من الأصول ما يخدم هذا
الجانبَ، كما هو الحال في مسألة حُجيَّة الإجماع - كما سيأتي بيانه. وفي الجانب
الثاني: نجد اختلال ضوابط تغـيُّر الفقهيَّات القطعيَّة؛ حيث تَبْنيها على بعض
المصالح المتوهَّمة، وتزعم موافقةَ هذه المصالح لمقاصد الشَّريعة، وهذا في حقيقة
الأمْر حُكم على خِلاف حُكم الله تعالى؛ بسبب توهُّم بعض المصالح. وفي الجانب
الثالث: اختارت من الأقوال ما يخدم مقصودَها أيضًا في جواز اتِّباع المفضول في
وجود الفاضل، وجواز أن يحكيَ المجتهد الأقوال للعاميِّ؛ ليختار العامي هو منها.
وفي الجانب الرَّابِع: توصَّلت المؤلِّفة إلى شِبه إلغاء قِوامة الرَّجُل،
وإلغاء حقِّه في تقييد خروج زوجته من المنزل، كما توصَّلت إلى أنَّ ستْر المرأة
لوجهها وكفَّيها -وغيرهما- أمامَ الرِّجال الأجانب، لا يجب، ولا حتى يُندب ندبًا
عامًّا!- وزعمت أنَّ هذا هو الأنسبُ لمقاصد الشَّريعة، ومراعاة حاجة المرأة،
وحقِّها في ممارسة حياتها بلا حرج!
فمُجمل النقد: أنَّ المؤلَّفة تقَع في تغيير الأحكام، والأخْذ بالأقوال
الضَّعيفة والشاذَّة، ولكن الأخطرُ مِن هذا أنَّها (تُشرعِنها) وتتوصَّل إليها من
خلال تأصيلاتها وما تزعُمه من تحقيقه للمصلحة، وموافقته لمقاصد الشَّريعة! وهذا
أخطر ما في الأمر، وهو ما يُنكَر على مَن عُرفوا بالمغالاة في مسألة المقاصِد،
وبناء الأحكام الشرعيَّة بناءً على المقاصد الكلية بغضِّ النظر عن النصوص
الجزئيَّة.
وأما عن تفصيل النقد:
فبدايةً تُطالِعُنا المؤلِّفة في أوَّل رسالتها (ص: 13)
قائلةً: (أصل هذا الكتاب رسالة ماجستير قدِّمت لجامعة مكة المكرَّمة
المفتوحة بعنوان: (منهجية الثبوت والتغير في فقه المخالطة بين الجنسين داخل الأسرة
وخارجها: دراسة أصولية فقهية). وقد أشرف عليها فضيلة العلامة أ.د. علي جمعة مفتي
الديار المصرية. وقد أجازت الجامعة البحث بتقدير امتياز عام 1432هـ/ 2011م، مع
التنويه على أنَّ هذا يصدُق على مادة هذا الكتاب عدا الفصل المتعلِّق بما يجب على
المرأة ستره أمام الأجانب. وقد راجعتُ المادة العلمية لهذا الكتاب وقرأتها على شيخي
المشرف على الرسالة العلامة علي جمعة وأجازها (من حيث المنهجية)، كما أني راجعت في
مسألة ستر الشعر خاصة من أثق في علمه ودينه. والله أعلم).
التعقيب:
لقد احتفَتِ المؤلِّفة بالمشرِف على رسالتها (د. علي جمعة) ووصفتْه بشيخها، وأثنت
عليه بقولها: (العلَّامة)، مع أنَّه معروف ومشهورٌ بفساد منهجه، وشذوذ فتاويه،
وتطاوُله على المخالفين له، وطعْنه في أئمَّة السَّلف، وركونه إلى الأقوال
الضَّعيفة والباطلة، وتناقضاته، وذِكره للقواعد والأصول المخترَعة، وإكثاره من
إثارة الشُّبهات، وغلوِّه في التصوُّف، وضلال مُعتقَده المخالِف لأهل السُّنة
والجماعة والسَّلف الصَّالح...إلخ، وقد كثُرت الرُّدود عليه جدًّا، ولا مجالَ هنا
للتفصيل فيها؛ ينظر: كتاب
(المتشددون.. منهجهم..ومناقشة أهم قضاياهم).
فإذا كان هذا حالَ المشرِف، وهذا حال منهجه؛ فكيف يكون حال المنهج الذي يَرتضيه،
وحال الرسالة التي يُشرِف عليها - كما قالت المؤلفة؟!
وسيتضح هذا أكثرَ فيما يأتي.
ومن المؤاخذات على المؤلِّفة: قولها (ص: 18)
فيما تنقله عن وليِّ الدِّين محمد المنفلوطي الشافعي مِن ترْكه للكلام على اللهِ
بغير عِلم، وخوفه من ذلك، ثم يقول: (فمتى رأيتُ كفرًا بواحًا عندي من الله فيه
بُرهان، بادرتُ إلى إنكاره غير هائب لأحد، ولا خائف فيه لومة لائم، ولا فتْك
ظالم... وأمَّا إذا رأيتُ ما ليس كذلك و... كان أن إمامًا مقتدى به ذهَب إلى
حِلِّه، تغافلتُ عنه، إذ... العلم يمنع من إنكار ما هذا شأنه...). هكذا نقلت
المؤلِّفة كلامَه، وما حذفته وضعت مكانه نقطًا، ثم علَّقت عليه بقولها: (فانظر إلى
مذهبه في عدم إنكار عمَل قال بحلِّه إمام مُقتدًى به، فإذا كان هذا في إنكار
المنكر؛ فكيف في بحْث علمي، مسؤولية الباحث فيه تجلية المسائل علميًّا، لتكون عونًا
لأهل الإفتاء في إصدار فتاوى تُراعي أحوال الناس بما لا يوقعهم في الحرج)!
وبغض النظر عن فَهم كلام المؤلِّفة لكلام المنفلوطي، وإنْ كان يعني ما فهمتْه أم
لا، فالقول بعدَم الإنكار على عمَل قال بحلِّه إمامٌ مقتدًى به هكذا على إطلاقه؛
خطأٌ ولا يصحُّ، يوضِّح ذلك ابنُ القيِّم في ((أعلام الموقعين)) (3/ 223 - 224)
بقوله: (وقولهم: "إنَّ مسائل الخلاف لا إنكارَ فيها" ليس بصحيح؛ فإنَّ الإنكار
إمَّا أن يتوجَّه إلى القول والفتوى أو العمل؛ أمَّا الأوَّل فإذا كان القول يخالف
سُنَّةً، أو إجماعًا شائعًا، وجَب إنكاره اتفاقًا، وإن لم يكن كذلك؛ فإنَّ بيانَ
ضَعْفه ومخالفتِه للدليل إنكارُ مِثلِه، وأمَّا العمل فإذا كان على خلافِ سُنَّة أو
إجماع، وجَب إنكاره بحسب درجات الإنكار؛ وكيف يقول فقيه: لا إنكار في المسائل
المختلَف فيها، والفقهاءُ من سائر الطوائف قد صرَّحوا بنقض حُكم الحاكم إذا خالف
كتابًا أو سُنَّة، وإنْ كان قد وافَق فيه بعضُ العلماء؟! وأمَّا إذا لم يكن في
المسألة سُنَّة ولا إجماع، وللاجتهاد فيها مساغٌ، لم تُنكَر على مَن عمِل بها
مجتهدًا أو مقلدًا. وإنما دخَل هذا اللبس من جِهة أنَّ القائل يعتقد أنَّ مسائل
الخلاف هي مسائل الاجتهاد، كما اعتقد ذلك طوائفُ من الناس ممَّن ليس لهم تحقيق في
العِلم. والصَّواب ما عليه الأئمَّة: أنَّ مسائل الاجتهاد ما لم يكُن فيها دليل يجب
العملُ به وجوبًا ظاهرًا)
فكلام المؤلِّفة غير مُنضبِط، وموهِم، ويَفتح الباب على مِصراعيه لتقبُّل الآراء
الشاذَّة، والمخالفة للكتاب والسُّنة والإجماع والقِياس الجليِّ، بزعْم أنَّ القائل
بها من المجتهدين. وكذلك تَسير المؤلِّفة في كتابها هذا - كما سيتضح. فتأصيل قَبول
الخِلاف، وتتبُّع الآراء الشاذَّة والضَّعيفة والمنكرة، بزعم أنَّ القائل بها إمامٌ
مقتدًى به - وقد يجعل البعض هذه الأقوال هي الموافقةَ لمقاصد الشريعة والموافقة
للواقع من وجهة نظرهم، وعليه؛ فهي الأقوال المقدَّمة، والأنسب لرُوح العصر!- فهذا
مسلكٌ خاطئ، مخالفٌ لِمَا اتَّفق عليه علماء السَّلف.
ومن المؤاخذات على المؤلِّفة أيضًا في هذا الصَّدد:
قولها (ص: 133): (فإذا خالف مجتهدٌ نصًّا أو قياسًا جليًّا أو إجماعًا قطعيًّا
لمعارض يراه راجحًا، فليس لمجتهد آخر أن يُلغي اعتبار هذا المعارض؛ لأنَّه لم
يترجَّح عنده؛ فليس أحد الاجتهادين بأولى من الآخَر. ومن هنا، فإن الاكتفاء
بنموذجين تطبيقيين يفي بمقصود الكتاب في دراسة منهجية الثبات والتغيُّر في الحكم
الفقهي؛ لأنَّ تغير الأحكام القطعية لطروء المصالح المعتبرة عند تنزيلها على واقع
المكلف يختلف باختلاف أنظار المجتهدين، فيكفي في تناول موضوع البحث التأصيلُ، ويبقى
التطبيق مجالًا للاجتهاد)، وهو ما قررته في الخاتمة أيضًا (ص: 256).
التعقيب:
النصُّ، والإجماع، والقياس الجليُّ، حُجَّة؛ فكيف يقال: (فإذا خالف مجتهدٌ نصًّا،
أو قياسًا جليًّا، أو إجماعًا قطعيًّا، لمعارض يراه راجحًا، فليس لمجتهد آخر أن
يُلغي اعتبار هذا المعارض لأنَّه لم يترجَّح عنده؛ فليس أحد الاجتهادين بأولى من
الآخَر)؟! وهل يوجد أصلًا معارِض راجِح يُبيح مخالفةَ الإجماع؟! إنَّ مثل هذا
الكلام يفتح الباب على مصراعيه للتقوُّل على الله تعالى بغير عِلم، ومخالفة
الرَّاسخ من الأحكام الشرعيَّة. والزعم بأن اجتهاد مجتهِد ليس بأولى من اجتهاد
مجتهد آخَر؛ زعمٌ باطل، فاجتهادُ المجتهد المبنيُّ على النص، أو الإجماع، أو القياس
الجلي، أَوْلى من اجتهاد مجتهِد آخَر ليس له مستنَد من ذلك، ثم مَن هو المجتهدُ
الذي تَعنيه المؤلِّفة؟! هل كلُّ مَن اجتهد في مسألة ورجَّح قولًا مخالفًا به
النصَّ، أو الإجماع، أو القياس الجلي؛ يُسمَّى مجتهدًا؟! أم أنَّ إطلاق لقب مجتهد
له شروطه وضوابطه؟!
وبهذا سيَظهر الخَلل في النَّموذجين التطبيقيين اللَّذين ستذكرهما المؤلِّفة؛ إذ
اعتمدتْ على هذا المنهج كما نصَّت هنا، فـ(تغيُّر الأحكام القطعيَّة لطروء المصالح
المعتبَرة عند تنزيلها على واقع المكلَّف يختلف باختلاف أنظار المجتهدين)، وهذه
المصلحة محلُّ اجتهاد، وليس لأحد أن يُلغيها، حتى وإن خالفت النصَّ، أو الإجماعَ
القطعي، أو القياس الجليَّ - حسب تعبيرها-؛ فماذا يبقى ثابتًا - إذنْ - من الأحكام
الشرعيَّة، خصوصًا إذا لُقِّب مَن ليس من أهل الاجتهاد بالمجتهد، كما هو الواقع؟!
وإذا كان أمرُ تقدير المصلحة اجتهاديًّا، وكان الخلافُ فيه معتبَرًا، وليس لأحدٍ أن
يُلغي اعتبارَ أحد؛ فليقلْ كلُّ مَن شاء في دِين الله تعالى وتغيير الأحكام ما شاء!
فلا شكَّ أنَّ هذا المسلك هو أشدُّ خطرًا من مسلك تتبُّع الرُّخَص وزلَّات العلماء،
الذي حذَّر منه العلماء على مرِّ العصور، ونصُّوا على أنَّ (مَن تتبع رُخَص العلماء
وزلَّاتهم، فقدِ اجتمع فيه الشرُّ كلُّه). والواجب البُعد عن هذا المسلك الخطير،
والانضباطُ بالضوابط التي وضَعها العلماء - كما سبق بيانه.
ومن المؤاخذات على المؤلِّفة: قولها (ص: 23): (ولا ننسب الثباتَ إلى الأحكام
الفقهيَّة القطعيَّة من حيث تنزيلُها على واقع المكلَّف؛ لأنَّ الأحكام الفقهيَّة
القطعيَّة إذا نُزِّلت على الواقع، قد يَقتضي تنزيلها أن تتغيَّر تغيُّرًا مؤقتًا؛
مراعاةً لبقية القواعد الكلية بما يحقِّق سببَ تشريع الأحكام، وهو تحقيق المصلحة
وَفقَ مقصود الشرع. وحيث اقتضى تنزيلُها التغير المؤقَّت في بعض الحالات، انتفتْ
صفة الثبات عنها من هذه الحيثيَّة، لا من حيث كونُها قوانينَ كلية).
وقولها (ص: 73) - عن الفصل الذي عقدتْه للحديث عن المصلحة ودورها في ترسيخ
القطعيَّات الشرعيَّة في ضوء فقه الرخصة -: (كما سيؤصِّل لقضية المصلحة الذي يعد
تحقيقها وَفق مقصود الشرع هو مقصد الشريعة الأعظم تأصيلًا يبين أن ثبات الشريعة
ترسخه مراعاة المصالح الطارئة التي تستقيم بها حياة الناس بلا حرج).
التعقيب:
أولًا: الأصل هو ثبات الأحكام الفقهيَّة القطعيَّة، من حيث كونُها قوانين
كليَّة، وأيضًا من حيثُ تنزيلها على المكلَّف، وأمَّا التغيُّر الناشئ عن بعض
الظُّروف؛ فإنَّما يُعبَّر عنه بتغير الفَتوى على حسَب واقِع المكلَّف، ولا يصحُّ
أن يُجعل هذا قانونًا عامًّا، ولا تنتفي عنها صِفة الثَّبات بهذا، بل هي ثابتةٌ،
وأيضًا فإنَّ هذا التغيُّر للحُكم إذا كان على حدِّ قوانين الشرع فهو من الأحكام
المشروعَة؛ فلا يَخرُج بهذا التغيُّر عن كونه حُكمًا شرعيًّا قطعيًّا ثابتًا،
يوضِّح هذا ما نقلتْه المؤلِّفة نفسها (ص: 25) من قول الزَّركشي في ((البحر
المحيط)): (... فلا نقول: إنَّ الأحكام تتغيَّر بتغيُّر الزمان، بل باختلاف
الصُّورة الحادثة... وكلُّ ذلك فإنَّما هو استنباطٌ من قواعد الشَّرع، لا أنَّه
خارجٌ عن الأحكام المشروعة. فاعلمْ ذلك فإنَّه عجيب)!
- ثانيًا: قول المؤلِّفة: (لأنَّ الأحكام الفقهيَّة القطعية إذا نزلت على الواقع قد
يقتضي تنزيلها أن تتغير تغيرًا مؤقتًا؛ مراعاةً لبقيَّة القواعد الكلية بما يحقِّق
سببَ تشريع الأحكام، وهو تحقيق المصلحة وَفقَ مقصود الشرع).
هذا الكلام أيضًا في ظاهره صحيح، ومنضبط إلى حدٍّ ما، ولكن بالنَّظر إلى تطبيقات
المؤلِّفة ومَن لفَّ لفَّها، واختيار النَّماذج التطبيقيَّة، وادِّعاء تحقيق
المصلحة في الآراء الضَّعيفة، أو التذرُّع بموافقة مقاصد الشريعة، يتبيَّن أنَّ
هناك خللًا واضحًا في تحديد المقصود بالمصلحة، وسبب الأحكام وَفْق مقصود الشَّرْع؛
فمَن يقدِّر المصلحة إذن؟! ومن يحدِّد أنَّ هذا الأمر موافق لمقصود الشرع أم غير
موافق؟! ثم هل وجْه الموافقة صحيح أم لا؟! وهذه قضيَّة شائكة لم تُفصِّل فيها
المؤلِّفة، ولا كثيرٌ ممَّن تَكلَّموا في هذا الجانب؛ والسَّبب في ذلك أنَّهم
قَصَروا مقاصدَ الشريعة على بعض الأمور دون بعض، وظنُّوا المصلحةَ في أمور دون
أخرى. وضابط المسألة: أنَّ كلَّ أمر شرَعه الله تعالى فتحقيقُه والقيامُ به على
وجهه المشروع هو مقصودٌ في ذاته؛ استسلامًا لأمْره سبحانه، إضافةً إلى ما يَشتمل
عليه من مقاصدَ أخرى، وهو في نفْسه مصلحة، إضافة إلى ما يَشتمل عليه من مصالحَ
أخرى؛ قد يظهر وجهُها للبعض، وقد لا يَظهر. فثمَّة أحكامٌ ومسائلُ كثيرة دار حولها
الجدَل؛ مِثل جهاد الطَّلب والولاء والبَراء، وقتْل المرتد، ورجْم الزاني المحصَن،
وقطْع يد السارق... وغير ذلك من الأحكام، ويُدندن البعض الآن أنَّها أحكامٌ منافية
للمصلحة ولمقصود الشارع! والحقُّ أنَّ كلَّ حُكم منها إذا نُظِر إليه على قانون
الاستسلام، وتُؤمِّل حقَّ التأمُّل، وفُهم وجهُ تحقيقه على الوجه المشروع، عُلِم
أنه هو المصلحة بعينها، وأنَّ مقصود الشرع متحقِّق فيه، ولا يحتاج إلى تأويل، أو
تبديل.
وكمثال على هذا: ذكرت المؤلِّفة (ص: 82 - 83) - في مسألة إفتاء بعض العلماء لبعضِ
الملوك - لَمَّا جامع في نهار رمضان - بصوم شهرين متتابعين، بدلًا من العتق، فلمَّا
أُنكر عليه، قال: لو أمرتُه بذلك، لسهُل عليه ولاستحقَر إعتاقَ رقبة في قضاء شهوته
- حيث نقلَت كلامَ الغزالي من أنَّ هذا: (قولٌ باطل ومخالف لنصِّ الكتاب بالمصلحة،
وفتْح هذا الباب يُؤدِّي إلى تغيير جميع حدود الشَّرائع ونصوصها بسبب تغيُّر
الأحوال، ثم إذا عُرِف ذلك من صنيع العلماء لم تحصُل الثِّقة للملوك بفتواهم،
وظنُّوا أنَّ كلَّ ما يُفتون به فهو تحريف مِن جهتهم بالرأي). ثم عقَّبت قائلةً:
(لكنَّ الإمام القرافيَّ لا يوافق الإمام الغزاليَّ في وجهته هذه، قال في نفائس
الأصول: هذا المثال قد يُتخيَّل فيه أنَّه ليس ممَّا أبطله الشَّرع، لقيام الفارق
بين الملوك وغيرهم، وأنَّ الكفارة إنَّما شُرعت زجرًا، والملوك لا تنزجر بالإعتاق،
فتعيَّن ما هو زجرٌ في حقهم، فهذا نوع من النَّظر المصلحي لا تأباه القواعد). ثم
استظهرت قولَ القرافي بقولها: (والذي يظهر لي -والله أعلم- ترجيح ما قرَّره الإمام
القرافيُّ من أنَّ هذا النوع من النظر المصلحي لا تأباه القواعد).
التعقيب:
كلام المؤلِّفة هنا خطأ من وجوه:
أحدها: أنَّ كلام القرافيِّ ليس مُخالفًا لكلام الغزالي أصلًا؛ فالقرافي
يقرُّ ببطلان اعتبار هذه المصلحة، وكلامه المنقول عنه هو شرح لعِبارة الرَّازي في
((المحصول))، وتعقيب على تمثيلِه بهذا المثال، يُبيِّن فيه القرافي ما قد يُتخيَّل
في هذا المثال من المَصلحَة ويَذكُر وجه هذا التخيُّل؛ لا أنَّه يَعتدُّ به، وليس
هذا ترجيحًا منه لهذا القول، أو تصحيحًا لهذا المسلَك، أو أنَّه لا يوافق الغزاليَّ
كما ذكرت المؤلِّفة؛ دليل ذلك أنَّه عبَّر بـ(قد) التي تفيد التقليل في هذا
السِّياق، ثم مثَّل بعدَه مباشرةً بأمثلةٍ أوضحَ - على المصلحة المتوهَّمة التي
شهِد الشَّرْع ببطلانها - لكن لا تُتخيَّل فيها المصلحة، حيث قال: (وأظْهَر منه
انعقادُ الإجماع على عدَم منْع زراعة الكَرْم [العنب] وإن أدَّى لمنع الخمر، وعدم
منع الاشتراك في المنازل وإن أدَّى المنع لعدم الزنا المتوقَّع من قُرب الدار؛
فسدُّ ذريعة الخمر والزنا مصلحتان، وقد أُلغيتا هاهنا إجماعًا).
فالقرافي فقط يوجِّه المثال الذي ذكره الرازيُّ، ويقول: قد يُتخيَّل فيه ذلك، لا
أنَّه يقر هذا التخيُّل كما هو معروف في صنيع العلماء في الشروح.
ثانيها: على فرْض أنَّ القرافي يقرِّر أن هذا نظر مصلحي لا تأباه القواعد،
كما تزعم المؤلِّفة؛ فإنَّ الصَّحيح هو كلامُ الغزالي رحمهما الله، وكلام غيره من
العُلماء، ومنهم الرَّازي في المحصول الذي شرَحه القرافي، وجاء كلامه السَّابق
شرحًا عليه. ومَسلَك هذا المفتي الذي تذرَّع بهذه المصلحة المتوهَّمة هو بعينه ما
يُنكَر على هذه المدرسة المقاصديَّة - إنْ صحَّ التعبير - فبهذه النظرة تُغيَّر
كلُّ الأحكام، وتُبدَّل جميع حدود الشرع كما ذكر الغزالي رحمه الله، بل تُلغى
مقاصِد الشَّرع أصلًا. وفي هذا المثال بالتحديد إذا نظَرْنا إلى مقصود الشَّارع
وتشوُّفه للعِتق، علِمْنا أنَّه متَّسق تمامًا مع هذه البَداءة بهذه الكفَّارة؛ حتى
للحُكَّام، بل قد تكون للحاكم أولْى؛ لأنَّه سيعتق رِقابًا كثيرة! وليس مقصود
الشارع من الكفَّارة هو الزجر فقط حتى يُقال: (إنما شرعت زجرًا، والملوك لا تنزجر
بالإعتاق)، وإنما قصد منها العِتق مع الزَّجر أيضًا، ولله تعالى أسرارٌ وحِكم في
تَشريعاته لا يُحيط بها الخَلْق. وعليه: يظهر بُطلان هذا التخيُّل لهذه المصلحة
المتوهَّمة.
ويَكفي في الردِّ عليه أيضًا قولُ الرازيِّ عن هذا المثال في ((المحصول)) (6/ 163)
- وهو الذي شرَحه القرافيُّ في نفائش الأصول -: (واعلم أنَّ هذا باطل؛ لأنَّه حُكم
على خِلاف حُكم الله تعالى لمصلحة تخيَّلها الإنسانُ بحسَب رأيه)، وهو ردٌّ كافٍ
شافٍ، يصلُح للردِّ على كلِّ مَن يَحكُم على خِلاف حُكم الله تعالى لمصلحة
يتخيَّلها بحسَب رأيه. وما أكثرَ هذه الأحكامَ - في زمننا هذا - التي على خِلاف
حُكم الله تعالى للمصالح المتخيَّلة!
وأيضًا ستأتي أمثلةٌ ممَّا مثَّلت به المؤلِّفة كنموذج تطبيقي للدِّراسة
التأصيليَّة. ويُنظَر كذلك: العرض والنَّقد لكتاب
((نَقْد
نظرية النَّسخ - بحث في فِقه مقاصد الشَّريعة))؛ ففيه أمثلة على ذلك.
ثالثًا: زعْم المؤلِّفة بأنَّ (تحقيق المصلحة وَفق مقصود الشَّرع هو مقصد
الشريعة الأعظم)؛ كلامٌ فيه نظَر أيضًا، بل هو خطأ؛ فإنَّ مقصد الشريعة الأعظمَ هو
عبادةُ الله تعالى وتوحيده، وتحقيقُ مراد الله تعالى من الخَلْق، والاستسلامُ
لأمره، والقيام بشَرْعه، وتحقيق المصلحة وَفق مقصود الشَّرع داخلٌ في هذا الأمر،
وليس هو المقصودَ الأعظم، خصوصًا إذا فُهِمت المصلحة بأنَّها المصلحة الدنيويَّة
فقط على ضوء ما يتكلَّم عليه المغالون في مسألة المقاصد. أمَّا إذا كانت تَعني
بالمصلحة تحقيق مراد الله تعالى كما ذكَرْنا؛ فلا مشاحةَ في الاصطلاح حينئذٍ، ولكن
لا بدَّ أيضًا من التوضيح والتبيين للمراد بالمصلحة، وذلك ما لم تفعله المؤلِّفة.
- ومن المؤاخذات على المؤلِّفة: الكلامُ
الموهِم والترجيحاتُ للأقوال الضَّعيفة، ممَّا يفتح الباب لتغيير أحكام الله تعالى
حسَب ما يتصوَّر ويتخيَّل كلُّ مدَّعٍ لمصلحة ما؛ فعلى زعم المؤلِّفة فإنَّ معظم
الأحكام ظنيَّة؛ لا شيءَ في الخِلاف فيها مهما كان، والقطعي منها يمكن أن يَتغيَّر
عند تنزيله على واقع المكلَّف على حسب المصلحة وتحقيق مقصود الشرع، وإذا خالف
مجتهدٌ نصًّا، أو قياسًا جليًّا، أو إجماعًا قطعيًّا؛ لمعارضٍ يراه راجحًا، فليس
لمجتهد آخَرَ أن يُلغيَ اعتبار هذا المعارض؛ فما الذي يبقى ثابتًا من الشرع إذن؟!
تقول المؤلِّفة (ص: 65): (والذي يظهر لي -والله أعلم- ترجيح وجهة الإمام الرازي في
أنَّ الإجماع حُجَّة ظنية لا يأثم المخالف في حجيَّتها). ثم تقول (ص: 70): (المقطوع
به هو أنَّ الخِلاف غير السائغ إنَّما هو الخلاف الذي يمسُّ جليَّات الشرع، أما ما
عدا ذلك من خلاف فهو سائغٌ ومقبول إذا صدَر من أهل الاجتهاد، ومِن ثمَّ فإنَّ
الخلاف في حجية الإجماع هو خلافٌ معتبر، ولعلَّ كلام الإمام الزركشي يشير إلى هذا
المعنى لما جعل الفرق بين الإجماع القطعي والظني هو أنَّ القطعي هو ما اتفق عليه
(المعتبرون)، وهذا الفرق الذي اعتمده الإمام الزركشي ينبغي أن لا يقتصرَ على
المسألة التي اعتمد الفرق فيها، وإنما يعمُّ كلَّ مسألة أصولية اختلف فيها
(المعتبرون) وهي لا تمس جليات الشرع).
أولًا: فمع كونِ الإجماع حُجَّةً قطعيَّة، هو مذهبُ أكثر العلماء - كما
ذكرتِ المؤلِّفة نفسها - ومع كون الرازي له كلامٌ آخَر يُفيد بأنَّ الإجماع حُجَّة
قطعيَّة، إلَّا أنَّ المؤلِّفة آثرتْ أن تأخذ بقوله في كتاب الإجماع من كتاب
((المحصول)) حيث يقول: (نحن لا نقول بتكفير مخالف الإجماع ولا بتفسيقه، ولا نقطع
أيضًا به؛ وكيف وهو عندنا ظني؟!) وعلَّلت ذلك بأنَّه موضع المسألة؛ فلماذا تستظهر
المؤلِّفة ترجيحَ وِجهة الرازي وتخالف أكثرَ العلماء؟! مع أنَّ رأي أكثر العلماء
ظاهرٌ، ورُجحانه هو الصَّواب؟!
الجواب: لأنَّ هذا الرأي هو الذي يَفتح البابَ للكلام على المسائل المجمَع
عليها ومخالفتها بلا غَضاضةٍ؛ فبما أنَّ حُجيَّة الإجماع ظنيَّة، ولا يأثم المخالف
في حجيَّته، فلا يأثم مِن باب أَوْلى المخالفُ للمسائل المجمَع عليها أصلًا، وعليه
لا مانعَ من اختراع أقوال جديدة مخالفة للإجماع، طالما قال بها مجتهدٌ، وطالما
راعَى فيها المصلحة ومقاصد الشرع التي يظنُّها، أو يتوهَّمها...إلخ.
ثانيًا: يُؤخذ على المؤلِّفة في هذا الكلام عدمُ ضبط مسألة الخِلاف السائغ،
ولا يكفي قولها: (الخلاف غير السائغ إنَّما هو الخلاف الذي يمس جليَّات الشرع،
أمَّا ما عدا ذلك من خلاف فهو سائغٌ ومقبول إذا صدَر من أهل الاجتهاد)، وقد سبَق
التعقيب على هذه الجزئية.
ومن المؤاخذات على المؤلِّفة أيضًا: قولها (ص:
145): (فإذا أردنا أن ننظُرَ إلى الحقوق المزاحمة لحقِّ الزوج في منْع زوجته من
الخروج من المنزل في عصرنا وفقًا لقواعد الحنفيَّة سنجد أنَّ النظرة ستختلف إذا
قرَّرنا أنَّ المرأة كائن راشد ناضج له مسؤولياته تُجاه نفسه وتطويرها، وتُجاه
تربية الأولاد تربيةً متوازنة، وتجاه مجتمعها، وأنَّها ليست مسؤولة عن هشاشة بعض
الرِّجال في تعاملهم مع المرأة؛ فلا يقال بمنعها من الخروج لأنَّها فتنة، بل
يُركَّز على تربية الرجل ليحترم شريكتَه في المجتمع فيغض بصره، ويحفظ تصرُّفاتِه
عمَّا يَشين. ولا يقال: إنَّ خروجها إلى التجمُّعات مفسدةٌ لها، لأنَّها كائن راشد
ناضج، ولا يقال: إنَّ عجزها ظاهر عن الاكتساب مع توسُّع مجالات العمل، وتنوعها).
التعقيب:
هذا كلام خطير، مع كونه باطلًا أصلًا؛ فالمرأة منذُ أنْ خلق الله تعالى الخلق هِي
هي، (كائن راشد ناضج له مسؤولياته تُجاه نفسه وتطويرها، وتجاه تربية الأولاد تربية
متوازنة وتجاه مجتمعه...)، ومنهنَّ الصالحات، ومنهن غير ذلك، وقد ضُرِب ببعضهنَّ
المثل في القرآن كما هو الحال مع مريم عليها السَّلام وامرأة فِرعون في قوله تعالى:
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ
فِرْعَوْنَ ...} {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ
الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا...} [التحريم: 11، 12]، وما فضلُ خديجة وعائشة
وفاطمة رضي الله عنهنَّ جمعوات ببعيد، حتى قال المتنبي:
ولو كان النِّساءُ كمَن فَقَدْنا ** لفُضِّلت النِّساءُ على الرِّجالِ
وما التأنيثُ لاسمِ الشَّمس عيبٌ ** ولا التَّذكير فَخرٌ للهلالِ
فهذا أمر لا اختلافَ فيه قديمًا أو حديثًا، فالمرأة في عصرنا هي هي المرأة في
القديم، ودورها قديمًا هو هو دورها حديثًا؛ لا فَرق إذن! ثم إنَّ كلام المؤلفة فيه
اتِّهام صريح للفقهاء ولسائر الأمَّة؛ إذ لم يَعتبروا المرأة كائنًا راشدًا
ناضجًا...إلخ. وقد اعتبرها المعاصرون كذلك، وعليه فلا بدَّ من تغيير الشَّرائع
القطعيَّة؛ نظرًا لطروء المصلحة المتوهَّمة!
* وفي زعْم المؤلِّفة بأنَّ المرأة ليست مسؤولةً عن هشاشة بعض الرجال في تعاملهم مع
المرأة، فلا يُقال بمنعها من الخروج لأنَّها فتنة، بل يُركَّز على تربية الرجل
ليحترم شريكتَه في المجتمع فيغض بصره...إلخ. هذا الزعم باطلٌ ومخالفٌ لقواعد
الشَّريعة الغرَّاء، ومخالفٌ لمقاصدها كذلك؛ فإنَّ من مقاصد الشريعة الحفاظَ على
العرض، وقد وُضِعت ضوابط كثيرة وتدابير عديدة لتحقيق هذا المقصِد؛ من ذلك: فرْض
الحِجاب على النِّساء، وتحريم تبرُّج النِّساء، والأمْر بغضِّ البصر، وتحريم مسِّ
المرأة الأجنبيَّة ومصافحتها والخَلوة بها، وتحريم سفَر المرأة بدون محرم، وتحريم
خروج المرأة متطيِّبة متعطِّرة، وتحريم خضوعها بالقول، وتحريم اختلاطها
بالرِّجال...إلخ، وكل أمْر من هذا له أدلَّته الشرعيَّة المستفيضة، وليس هنا محلَّ
بسطها، فلا يَنبغي أن يُفتح المجال للمرأة، ويقال للرجل: غضَّ بصرَك! أو يُهمل
الأمر بغضِّ الأبصار للرِّجال، بل يُؤخَذ بضوابط الشرع كلِّها، ويُحرَص على هذه
التدابير كلها، وإلَّا فنكون قد فتَحْنا الباب للشر والفساد، وضيَّعْنا مقصدًا
مهمًّا من مقاصد الشريعة.
أمَّا استنكار المؤلِّفة إطلاق وصْف فتنة على المرأة، فهو مخالفٌ لقول النبي صلَّى
الله عليه وسلَّم: ((ما تركتُ بعدي فِتنةً أضرَّ على
الرِّجال من النَّساء)) [أخرجاه في الصحيحين]، فالنبيُّ صلَّى الله عليه
وسلَّم هو مَن أطلق هذا الوصف على المرأة، وهو ليس ذمًّا لها، وهل يَخفى على أحدٍ
افتتانُ الرِّجال بالنساء؟! فهذا مُشاهَدٌ للعيان على مرِّ الدهور والأزمان، وفي
كلِّ عصر ومِصر! وهو في عصرنا الحالي أشدُّ؛ لقلَّة التديُّن من جانب، وكثرة
المغريات والفتن من جانب آخَر، وأمور أخرى كثيرة معروفة معلومة لا تَخفَى على أحد.
وعليه: يظهر خطأ ما تُؤصِّله المؤلِّفة وبُطلانُه، ومخالفتُه أيضًا لمقاصد
الشريعة التي تزعُم أنَّها تغيِّر الأحكامَ مراعاةً لها!
وبعدَ أن أنهت المؤلِّفة القسم الأصولي للموضوع، انتقلتْ إلى القسم الفقهي وعقَدتْ
له فصلين، الفصل الأوَّل عن حقِّ الزوج في تقييد خروج زوجته من المنزل بين الثبات
والتغيُّر، والفصل الثاني: عن ما يجب على المرأة سَترُه أمامَ الأجانب بين الثبات
والتغير.
وهما مثالانِ واضحانِ ناصعانِ في تلاعُب القوم بالنُّصوص والأحكام؛ بحُجَّة تغليب
الجانب المقاصدي الموهوم.
وسنكتفي هنا بنقْد الفصل الثاني فقط؛ رغبةً في عدم الإطالة، فبعد أنْ نقلت
المؤلِّفة أقوال المذاهب والعلماء الذين يقولون بوجوب تغطية المرأة كامل جسدِها
-حسب انتقائها للأقوال- وأقوال الطَّرف الآخَر القائل بوجوب ستر جسدها عدا الوجه
والكفين، والذي كان من المتوقَّع أن تُرجِّحه المؤلفة، وتكتفي بإظهار هذا القدْر من
الجسد؛ إذ بها تُفاجئنا بترجيح قولٍ آخَر، وبأنَّ هذا الحُكم قد تغيَّر مع الزمن
بحُجَّة المواءمة بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية فتقول (ص: 242): (والذي يظهر
لي -والله أعلم- ترجيح وجهة الفريق الثاني في أنَّ صحة الحديث الشريف الوارد عن
النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم والذي يفيد جواز إبداء الوجه والكفين لا تَقتضي
قصْرَ ما يجوز للمرأة أن تُبديَه أمام الأجانب على الوجه والكفين. ووجه ترجيحي لهذه
الوجهة، هو أنَّها توائم بين النصوص الجزئيَّة والمقاصد الكليَّة، وتتسق مع التوازن
الذي وضَعَه الشرع الحكيم بين مراتب الأحكام الكليَّة، فالستر هو مطلبٌ تحسيني،
ورفْعُ الحرَج هو مطلبٌ حاجي قد يَصير ضروريًّا باعتبار مآلاته، وغض البَصر هو مطلب
مكمِّل للضروري، فحيث جعلنا الستر الذي هو مطلب تحسيني خادم [كذا، وصوابه: خادمًا]
للمطلب الحاجي وهو رفع الحرج، لا مقدم [مقدَّمًا] عليه أو مزاحم [مزاحمًا] له، وحيث
أكَّدْنا على أنَّ الرجل يجب عليه أن يلتزم بغضِّ البصر عن النظر المحرَّم، وأنزلنا
هذا الأمر منزلته من سُلَّم الكليات كمكمِّل للضروري؛ فإنَّنا نكون قد حقَّقنا
التوازن بين الأحكام التكليفيَّة على الوجه الذي شرَعه الله عز وجل. والله أعلم).
ثم تختم تأصيلها بقولها (ص: 248): (وقد عاش المسلمون وقتًا طويلًا وهم يركِّزون على
الحجب الكامل لجسد المرأة، ولم يُسهم ذلك في تحقيق مقصد الشَّريعة في استقامة
الرِّجال والنساء، والذي يظهر لي -والله أعلم- أنَّ طريق ذلك هو وضْع الأمور في
نِصابها من حيثُ ترتيبُ الأحكام الشرعيَّة في سُلَّم الكليات، ممَّا يدعم التواصلَ
بين الرَّجُل والمرأة على وصْف العِفَّة، وبما يحقِّق للمرأة حقَّها في أن تعيش
حياتها، وتؤدِّي دورَها في القيام بالفروض العينيَّة أو الكفائيَّة المجتمعيَّة بلا
حرَج. والله أعلم).
التعقيب:
ولعلَّه اتَّضح الآن كيف تؤصِّل المؤلِّفة لهذه المسألة؛ وكيف تهدم أحكامَ الشريعة
كلها بناءً على هذه التأصيلات الباطلة، بزعم الحِفاظ على مقاصد الشَّريعة! بل إنَّ
هذا التأصيل فيه هدمٌ أيضًا لمقاصد الشريعة؛ فزعْم المؤلِّفة بأنَّ صحَّة الحديث
الشَّريف الوارد عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، والذي يُفيد جواز إبداء الوجه
والكفَّين لا تقتضي قصرَ ما يجوز للمرأة أن تُبديه أمام الأجانب على الوجه والكفين،
وأنَّه بهذا الرأي يحصُل توائمٌ بين النصوص الجزئيَّة والمقاصد الكليَّة، واتِّساق
مع التوازن الذي وضعه الشرع الحكيم بين مراتب الأحكام الكلية؛ لأنَّ مطلب الستر
تحسيني، ومطلب رفع الحرج حاجي...إلخ - زعمها هذا من أبطلِ الباطل، ومن الافتراء على
الله تعالى ورسوله، وهو هدمٌ أيضًا لأحكام الشريعة ولمقاصدها كذلك، واختراعٌ في
دِين الله تعالى ما لم يأذن به؛ كلُّ هذا بدعوى التوائم بين النصوص الجزئيَّة
والمقاصد الكليَّة! وحتى لو سُلِّم بهذا التأصيل؛ فإنَّه لا حرَج أصلًا مع تستُّر
المرأة حتى نقارن بين التَّحسيني والحاجي، وقد عاش المسلمون قرونًا طويلة على هذا
الأمر ولم نسمعْ بهذا الحرَج، وفي عصرنا الحالي كذلك ثمَّة بلدانٌ كثيرة غالب
نِسائها تستُر وجهها والحياة مهيَّأة لها ولا تَستشعر أدْنى حرَج، بل الحرجُ
متحقِّق وواقِع في البلدان التي تتكشَّف فيها المرأة! لكنَّه الهوى والتلاعُب بنصوص
الشرع!
وأخيرًا يُؤخذ على المؤلِّفة: قولها في خاتمة كتابها (ص: 259): (هذه النتيجة التي
توصلتُ إليها جعلتني أؤكِّد على أنَّ الأحكام الفقهيَّة الواردة في الكتب الفقهيَّة
هي نتاج عصر الفقهاء الذين قرَّروها، وعصرهم كانت له ظروفه الاجتماعيَّة،
والحضاريَّة، ومن الخطأ أن يُفهم أنَّ تلك الأحكام الفقهيَّة التي تشكَّلت في عصر
معيَّن هي ذاتها الأحكام الفقهيَّة التي يجب تطبيقها في عصرنا، فهذا الفَهم تُجافيه
الإشارات الواضحة في كلام الفقهاء إلى ارتباط تقريرهم للأحكام الفقهيَّة بطبيعة
عصرهم، وواقعهم الحضاري، وأنَّهم يَصدُرون في تقرير الأحكام عن القواعد القطعيَّة،
التي أفادها استقراؤهم للنصوص الشرعيَّة الواردة في الكتاب الكريم والسُّنة
الشريفة).
التعقيب:
هذا الكلام ليس صحيحًا على إطلاقه، بل يظهر باستصحاب الأحكام والتأصيلات التي
ذكَرتْها المؤلِّفة أنَّه باطلٌ، ويَرمي أيضًا إلى باطل، وهذا الباطل هو تغيير
أحكام الشريعة وتبديلها، والانتقاءُ من الآراء بحسَب ما يُتوهَّم من المصلحة، ومن
الموافقةِ لمقاصد الشَّريعة! وليستِ الأحكام الفقهيَّة نتاجَ عصر الفقهاء الذين
قرَّروها...إلخ، بل إنَّ هذه الأحكام هي المستخلَصة من النصوص الشرعيَّة، وقرَّرها
الفقهاءُ بناءً على هذه الأدلَّة، مع تقريرهم أنَّه لا بدَّ من مراعاة الواقع في
تنزيل هذه الأحكام على الواقع، وفرْقٌ بين تقرير الأحكام على مقتضى النُّصوص
الشرعيَّة أولًا، ثمَّ النظر إلى الواقِع ومراعاته حين تَطبيق هذه النصوص على مقتضى
ما تقتضيه الشريعة أيضًا، وبيْن أنَّ تُقرَّر الأحكام ابتداءً على حسَب ظروف العصر
الاجتماعيَّة، والحضاريَّة...إلخ. وكل هذه الأحكام بفضل الله تعالى ورحمته وحِكمته
صالحةٌ لكلِّ عصر وفي كلِّ مكان، فقط يُراعى النظرُ إلى الواقِع وتُطبَّق عليه
الأحكام على وَفق ما تَقتضيه الشريعة، من غير شَطط، أو تغيير لتلك الأحكام لتوهُّم
مصلحةٍ، أو زعْم موافقة مقصد.
ثم نظرة أخيرة، وهي من ناحية المقاصد أيضًا: إذا تُدبِّر رأي المؤلِّفة في مسألة
الحِجاب وستر المرأة وجهها وكفَّيها عن الرِّجال الأجانب، وأنَّه ليس واجبًا ولا
مندوبًا أيضًا ندبًا عامَّا، وليس ستر وجهها وكفيها طريقًا لسدِّ الفتنة...إلخ من
التأصيلات والتريجحات التي ذكرتها المؤلِّفة - إذا نُظِر إلى هذا نظرةً مقاصديَّة -
في ظلِّ ظروف عصرنا الحاضر من ضَعْف التديُّن، وانعدامه في كثيرٍ من البلدان، وكثرة
المثيرات والفتن، وكثرة دواعي الشرِّ والرذيلة، ممَّا لا تخطئه عينُ ناظر، ولا
يَسلَم منه أحدٌ إلَّا القليل النادر - فلا يَعلم حجم المفاسد والشرور التي ستحدُث
وتحلُّ بالأمَّة المسلِمة بناءً على رأي المؤلِّفة - عفا الله تعالى عنها! وإنَّ
دعوة المؤلِّفة هذه لأشدُّ خطرًا من دعوة قاسم أمين، الذي بدأ بدعوته الخبيثة
متسترًا تحت الدعوة إلى تعليم النِّساء، ومعلومٌ ما حلَّ بالأمَّة من الشرور
والمفاسد ممَّا لا زِلنا نُعاني منه إلى يوم الناس هذا.
وبهذا يتبيَّن خللُ هذا المنهج، وضلالُ هذا المسلَك، ويتبيَّن أنَّ أدعياءَه
يهدمُون ما يزعمون أنَّهم يحافظون عليه من مقاصد الشَّريعة! والأمرُ لله من قبل ومن
بعدُ.
والحمد لله ربِّ العالَمين،،