أولًا: عرض الكتاب:
كِتابُ هذا الشَّهر هو واحدٌ من الكتُب التي تُعنَى بدِراسة دعوة الإمام محمَّد بن
عبد الوهاب وأتْباعه في العَصر الحديث، وتحديدًا دار الإفتاء في المملكة العربيَّة
السعوديَّة، وبتأمُّل الكتاب يتَّضحُ أنَّ فيه عِدَّةَ مُؤاخذاتٍ وأخطاء عِلميَّة
ومنهجيَّة، وفي هذا العرضِ والنَّقد توضيحٌ لأهمِّ تلك المواضِع، والتعقيب عليها
بما يتناسَب مع المقام.
وقد تألَّف هذا الكتابُ من مقدِّمة، وسِتَّة فصول:
في الفَصل الأوَّل: تحدَّث عن الخَلفيَّة التاريخيَّة لفترة ما قبل المَأسَسة
للفتاوى الوهابيَّة والإفتاء، من حيثُ إقامةُ التحالُف السُّعودي - الوهابي في عام
1744م وحتى عام 1953م، فتحدَّث عن المفتين والفتاوى في المملكة العربيَّة
السعوديَّة، موضِّحًا خطَّ نَسَب المفتين الوهابيِّين، والتجليات المؤسسيَّة
للإفتاء، ومُتحدِّثًا عن الفتاوى المبكِّرة وتَبلوُر الإسلام الوهابيِّ.
وفي الفصل
الثاني: تحدَّث عن دار الإفتاء (1971م - 1999م) من منظورٍ تاريخيٍّ، بما في ذلك
استحداثها، وتركيبة القُوى والوظائف، وإجراءات إصدار الفتاوى، كما تحدَّث عن هيئة
كِبار العلماء، وعن اللَّجنة الدَّائمة للبُحوث العلميَّة والإفتاء، وفصَّل الحديثَ
عن منصبِ المفتي العام، وعن الشَّيخ عبد العزيز بن باز خُصوصًا.
والفصل الثَّالث: خُصَّ للحديث عن المفتين والدَّولة والمجتمع، وتطرَّق فيه إلى
الحديث عن المفتين والسياسة، والمفتين في المجتمع. وأمَّا الفصل الرَّابع، فكان
للحديث عن الفِقه الوهابيِّ الحديث، متحدِّثًا عن السَّلفية بوَصْفها رُوحَ الفِكر
الشَّرعيِّ الوهابيِّ، وعن الإطار المفاهيميِّ والنظريِّ والتشريعيِّ لدار الإفتاء،
ويعني به: أُصول الفقه والاجتهاد، وتقليد آراء العلماء الآخرين واتِّباع مذهب فِقهي
معيَّن، والمنهجيَّة في الترجيح وتقييم التدليل. وجاء الفصل الخامس للحديث عن
البِدعة المحرَّمة التي في مُقابل السُّنة، فتكلَّم عن البِدعة في الشريعة
الإسلاميَّة، وعن البِدعة في الفِكر الوهابيِّ - على حدِّ تعبيره - ثم أشار إلى
حدودِ التغيير على بعض المحرَّمات. والفصل السَّادس والأخير جعَلَه للحديث عن
الوهابيَّة في موضع التطبيق، موضِّحًا المرونةَ في التطبيق تُجاهَ بعض المتغيِّرات،
مثل المرونة تُجاه التغيُّر، الجائز، وضرَب مثالًا بمسألة تصوير ذوات الأرواح،
ومسألة الظُّهور على شاشات التِّلفاز، وفي الأمور الماليَّة تحدَّث عن البنوك، كما
تحدَّث كذلك عن بعض القَضايا الطِّبيَّة؛ كحُكم تشريح الجُثَث بعدَ موتها، وحكم
نقْل الأعضاء، وغيرها.
ثم لخَّص في خاتمةِ الكِتاب ما دار عنه الحديثُ في الكِتاب، وأَتْبعَه بأربعةِ
ملاحق، هي:
الملحق (أ) بعض قرارات هيئة كبار العلماء.
الملحق (ب) فتاوى اللَّجنة الدَّائمة.
الملحق (ج) نَسَب المفتين المشهورين من آل الشيخ.
الملحق (د) المؤسَّسة السُّعوديَّة الحديثة للإفتاء.
ثانيًا: نقْد الكتاب:
في البدايةِ يَجدرُ التنبيهُ إلى أنَّه قدِ اشتدَّت الهجمةُ الشرسةُ والحربُ
الضروسُ على منهجِ أهل السُّنَّة والجماعة ومنهج سَلَف الأمَّة- الذي يَعني في
حقيقتِه: الإسلامَ المحضَ الخالصَ عن الشَّوب- كما انتشرتْ في الآونةِ الأخيرة
كِتاباتٌ عديدةٌ للطَّعن على هذا المنهجِ عمومًا، وعلى دَعوةِ الإمامِ المجدِّد
محمَّد بن عبد الوهَّاب خُصوصًا، واتَّخذت أشكالًا عِدَّةً تحتَ سِتارِ الحرب على
ما يُسمُّونه "الوهــــابيَّة"؛ فلا هَمَّ للعلمانيِّين والليبراليِّين من
المنتسبين للإسلام إلَّا "الوهـــابيَّة"؛ فرُؤوس دُول الكُفر أقاموا حربًا مسعورةً
ضدَّ (الوهابيَّة)؛ ثم بعد ظُهورِ عوارهم وزَيْفهم حَشَدوا جنودَهم وأتْباعَهم
ممَّن ينتسبون إلى الإسلام؛ لخوضِ تلك الحربِ بالوساطة! وقد تعدَّدت أشكالُ تلك
الهَجمة؛ فتارةً تأتي باسم نَقْدِ السَّلفيَّة أو الحنبليَّة، وتارةً تأتي بَوصْم
الدَّعوة بالتشدُّدِ والعُنف والإرهاب؛ وذلك أنَّ الكفار تَيقَّنوا أنَّ الدعوةَ
السلفيَّةَ هي الدعوةُ الوحيدة القادرة- بما فيها من دلائلِ الحقِّ واليقين- على
دَحْض دِينهم الباطِل، وشُبَههم الزَّائفة.
وأَخطرُ ما في هذا الكِتاب (الإسلام الوهابي)!... هو عُنوانه وخِطابُه الذي يُوحِي
بفَصْل دعوةِ الإمام محمَّد بن عبد الوهاب عن الإسلام، أو عن مذهبِ أهل السُّنَّة
والجماعة، وكأنَّها إسلامٌ مختلِف عن الإسلامِ الذي جاءَ به محمَّد صلَّى الله عليه
وسلَّم، أو كأنَّها مذهبٌ مختلف عن مذهبِ أهل السُّنَّة والجماعة.
ومن الأمثلة الواضحة على ذلك:
قول المؤلِّف (ص: 37): (ولقد وُجِد تراثٌ ضخمٌ من الجدل الدِّيني نُشِر مِن على
منابرِ مساجدِ جزيرة العرب؛ لتأكيدِ تأسيس تعاليم محمَّد بن عبد الوهاب على أساس
أنَّها التفسيرُ الصَّحيح الوحيد للإسلام).
وقوله (ص: 43): (ومِن نافلة القول: إنَّ المفتين الوهابيِّين التقليديِّين وفتاواهم
أدَّتْ دورًا محوريًّا في تعريف الإسلام الوهابي... أمَّا بخصوص محتوياتها؛ فإنَّ
الفتاوى الوهابيَّة التقليديَّة انشغلتْ بشكلٍ أكبرَ بتعريف الإسلام الوهابيِّ
وترويجِه، بينما يظهر أنَّ الفتاوى الوهابيَّةَ الحديثة مشغولةٌ بشكلٍ متزايد
بالتوفيق بين الفِكر الشرعيِّ الوهابيِّ وتحديات الحياة الحديثة، وهذه التحوُّلات
في الإفتاء السعوديِّ هي ما تُشكِّل جوهرَ هذا الكتاب).
وقوله (ص: 69): (فبحسب المبادِئ الوهابيَّة، الإسلام ليس دينًا فقط، وإنَّما هو
نظامٌ شامل؛ الشوؤن العامَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة، بينما الشريعة الإسلاميَّة
قانونٌ أخلاقيٌّ شاملٌ يَحكُم في كلِّ الأمور بما فيها إدارة الحُكم).
وقوله (ص: 139): (ويَختلِفُ فقهاءُ الوهابيَّة المعاصِرون عن غيرِهم من فُقهاء
المسلمين في إجلالِهم للممارسات السلفيَّة كنموذجٍ، وهو ما يؤثِّر في تفسيرهم
للبِدعة، وبناءً على ذلك فإنَّ المخترعات والممارسات الاجتماعيَّة التي لا تسيرُ في
خطِّ رُوح السَّلف نفسه تُعتبَرُ بدعةً محدثة، ويُوفِّر كلُّ ما تقدَّم لدار
الإفتاء الأساسَ المنهجيَّ المتميِّز في جميع مناحي الحياة).
وقوله (ص: 140): (فلقدِ انتقد المفتون قائمةً طويلة من الممارسات الاجتماعيَّة
بإقامة الاحتفالات والذِّكرى، مِثل الاحتفال بأعياد الميلاد... إلخ. ومُعظمُ هذه
الحوادث- إنْ لم تكُن جميعها- حرَّمتها دارُ الإفتاء، بوصفها متعارضةً مع الإسلامِ
الوهابيِّ).
- وهذا لا شكَّ مِن الخطأ واللَّبس الكبير؛ فلم يَدَّعِ محمَّد بن عبد الوهاب ولا
مَن جاء بَعدَه من تلامذته وأتْباعهم أنَّه جاءَ بإسلام جديد، أو مذهبٍ جديدٍ
مخالِفٍ لِمَا كان عليه الأئمَّةُ السابقون في سائرِ عصور الإسلام؛ بل خُلاصةُ ما
يدعو إليه هو وأتْباعه ما قاله عن نَفْسه: (ولستُ- ولله الحمد- أدْعو إلى مذهب
صُوفيٍّ، أو فقيهٍ، أو متكلِّمٍ، أو إمام من الأئمَّة الذين أُعظِّمهم، مثل ابن
القيِّم، والذهبي، وابن كثير، أو غيرهم، بل أدْعو إلى الله وحْدَه لا شريكَ له،
وأدْعو إلى سُنَّة رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، التي أَوْصَى بها أوَّلَ
أُمَّته وآخِرَهم، وأرجو أني لا أردُّ الحقَّ إذا أتاني، بل أُشهدُ اللهَ وملائكتَه
وجميعَ خلقه: إنْ أتانا منكم كلمةٌ من الحقِّ لأَقبلنَّها على الرأس والعين;
ولأضربنَّ الجدارَ بكلِّ ما خالفها من أقوال أئمَّتي، حاشا رسولَ الله صلَّى الله
عليه وسلَّم؛ فإنَّه لا يقول إلَّا الحقَّ) [الدُّرر السَّنية في الأجوبة النجدية
(1/ 37 - 38)].
فهذه هي دعوةُ الإسلام، ولم يأتِ الرجلُ بشيءٍ جديد، ولم يُطلِقْ على دعوته اسمًا
ولا رسمًا، ولا وصَفَ هو ولا تلامذتُه من بعده دعوتَه بالإسلام الوهابيِّ، أو
المذهب الوهابيِّ، أو ما شابَه..
ومن المؤاخذات: قوله (ص: 24 - 25)- أثناءَ حديثه عن فتاوى الشيخ محمَّد بن عبد
الوهاب-: (ولم تكُن فتاواه وسيلةً لتفسير المصادر الشرعيَّة فحسبُ، بل كانت تُشكِّل
هي أيضًا مصدرًا شرعيًّا في حدِّ ذاتِها...؛ ولهذا فإنَّها تُشكِّل واحدًا من
المصادر الشرعيَّة المهمَّة للدولة السعوديَّة الأولى (1745م- 1818م)، وغالبًا ما
فُرضت من قِبَل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو ما يُسمِّيه الوهابيُّون
"المطاوعة" التي عيَّن أعضاءَها الشيخُ بنفسه، وأيُّ فردٍ من أفراد المجتمع
المحليِّ لم يكُن يلتزم بواجباته الإسلاميَّة والدينية كما يُفسِّرها الوهابيُّون،
فإنَّه يُعاقَب بقسوةٍ).
هذا الكلام محضُ افتراء؛ فلا يُعْرَف مَن جعَل فتاوى الشيخ مصدرًا من مصادر التشريع
في حدِّ ذاتِها، وهذا من الغلوِّ المنهيِّ عنه، الذي كان يَنهى عنه الشيخُ نفسُه،
وأتْباعُه من بعده. وأمَّا الشدَّة والقسوة والغِلظة مع المخالِف لتعاليم الشيخ،
فهي كما يُقال "شِنشنةٌ معروفةٌ مِن أخزم"؛ ولا أدلَّ على المبالغةِ والتهويلِ
فيها، ولا أوضحَ ممَّا جاء في ((الدُّرر السَّنية في الأجوبة النجدية)) (9/ 206 -
207): (من عبد الله بن فيصل، إلى كافَّة أهل المحمل والشعيب... وبعد: هذه نصائحُ
المشايخِ والإمامِ حفظهم الله... وقد أمَرني الإمامُ حفِظَه الله: (ثم ذكَر
كيفيَّةَ تعامُلهم مع كافَّة الطوائف والاختلاف بينها فقال): طائفة الغالِبُ عليهم
الجهلُ، فتبِعوا مَن دعاهم بالقول والفعل، ولا فرقَ لديهم ولا تمييزَ، وكلُّ ما
مالتْ إليه أنفسهم عزيزٌ، فاستوى عندهم الغيُّ والرَّشاد، وعمِلوا على غير سدادِ؛
فيجبُ على المسلمين الرِّفق بهم في التَّعليم والإرشاد، ويَدْعُون لهم بالهداية
والسَّداد; وطائفة تأوَّلت فأخطأتْ في تأويلها، فيَنبغي تنبيهُها، وكشْفُ ما يُشكل
عليها؛ فكلُّ هؤلاء يُعاملون باللُّطف واللِّين، ويُوضَّح لهم ما جَهِلوه من
الدِّين، ويُدْعَون إلى الحقِّ، ويُرغَّبون فيه، ويُوضَّح لهم الباطلُ، ويُنهَوْن
عنه، ويُحذَّرون من سوءِ عاقبة أهلِه، من غير غِلظة ولا تأنيب؛ لأنَّ ذلك يوجب
التنفيرَ وعدَم القَبول؛ والمطلوب النُّصحُ لهم، وتبيينُ ما يحصُل به تأليفُهم
واستجلابُهم؛ لأنَّ ذلك من المصالح الدِّينيَّة، التي يجبُ على أهل الإسلام بذلُها،
وعدمُ التعنيف الذي يحصُل به الافتراق، ويُورِث العِنادَ والشِّقاق؛ فلعلَّ الرفق
بهم يصير سببًا لردِّهم إلى ما خرَجوا منه، ويتوبون إلى ربِّهم، الذي يَقبَلُ
التوبةَ عن عِباده، ويعفو عن السيِّئات)؛
فلا نَدري! هل هؤلاءِ القوم يقرؤون مِثلَ هذا الكلام ويَدَعُونه عَمدًا، أم أنَّ
أعيُنَهم تعمد إلى عَدمِ رُؤيتِه؟!
ومن المؤاخذات: قوله (ص: 38): (يُشدِّد الوهابيُّون على التوحيد كنقيضٍ للشرك
"ويعني: نِسبة قُوًى إلى شخصٍ أو إلى كِيان يتعيَّن أن تُنسَب إلى الله فقط،
وغالبًا ما تُوضِّح هذه الفتاوى تصرفاتٍ معيَّنةً يرى الوهابيُّون أنَّها تُؤدِّي
إلى الشِّرك، على سبيل المثال: النُّذور المقدَّمة إلى الأولياء (votive offering)،
والدُّعاء أمام قُبور الأولياء أو أضرحتهم، أو أيُّ دُعاءٍ يَتوسَّل فيه الداعي
بطرَفٍ ثالثٍ للتوسُّط عند الله").
التعقيب:
لو عبَّر المؤلف بقول: (يُؤكِّد) بدلَ قوله: (يشدِّد) لكان محقًّا؛ إذ يُفهم من
قوله (يشدِّد) أنهم يُشدِّدون على شيءٍ لا يجب التشديد فيه، والأمرُ غير ذلك؛ فأمرُ
التوحيد هو آكدُ أمور الشريعة.
وفي تعريف المؤلِّف للشرك قُصورٌ وخلل ظاهر؛ فليس الشرك فقط (نسبة قوًى إلى شخص، أو
إلى كِيان يتعيَّن أن تنسب إلى الله فقط)، بل يشمل الشِّركُ (صَرْفَ أيِّ نوع من
أنواع العبادة لغير الله تعالى)، وهذا النوع من الشرك هو الذي كثُرتْ فيه الخصومةُ،
وكانت معظمُ جهودِ الإمام محمد بن عبد الوهاب في محاربتِه، ومِن هذا الشرك
(النُّذور المقدَّمة إلى الأولياء).
كما أنَّ المؤلِّف قد خلَط في الأمثلة التي ذَكرَها بين ما هو شِرك وما هو من
وسائله، وبين ما هو بِدعة- كما هو مُقرَّر في موضعه، وهذا صنيعُ مَن يحشُر نفسَه
فيما لا عِلمَ له به.
* ومِن المؤاخذات: قوله (ص: 39): (من الواضح أنَّ علماءَ الوهابيَّة التقليديِّين
يُحرِّمون زيارةَ القبور، حتى قبرِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم).
التعقيب:
في هذا تدليسٌ وافتراءٌ وكذب على مَن أسماهم بالوهابيَّة التقليديِّين بنسبة أقوالٍ
لم يقولوا بها؛ فإنَّهم لم يُحرِّموا مجرَّدَ زيارة القبور، فضلًا عن أنْ يُحرموا
زيارةَ قبرِ النبي صلَّى الله عليه وسلَّم، بل المحرَّم عندهم هي الأفعال المنافية
للتوحيد التي يَفعلها بعضُ الجهلةِ عند القبور، وكذلك شدُّ الرِّحال والسَّفر
لزيارة القُبور، فهناك فرقٌ بين زيارة القُبور وشدِّ الرِّحال إليها.
ويَكفي في الردِّ على المؤلِّف وبيانِ تدليسه عليهم، النقلُ الصريح عن اللَّجنة
الدَّائمة (وهم عنده من عُلماء الوهابيَّة التقليديِّين)، حيث جاء في فتواها:
(زيارةُ قبور الأموات سُنَّة؛ لحثِّ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم عليها،
ولإكثارِه من زيارتها؛ وذلك للعِظة والعِبرة، وتذكُّر الموت، والدُّعاء للأموات
المسلمين بالمغفرة والرحمة... وليستْ زيارتُهم لدُعائهم والاستعانة بهم والاستشفاع
بهم؛ فإنَّ ذلك شركٌ، ولا يجوزُ شدُّ الرِّحال لزيارتهم، ولا السَّفرُ لذلك، وإن لم
يكُن فيه شدُّ الرِّحال، ولكن الناس غَلَوْا في زيارة القبور، فسافروا إليها
ودَعَوا الأمواتَ لجلْبِ النفع، وكشْف الضرِّ، إلى غير ذلك من البِدع التي تُفعَل
عندها) [فتاوى اللجنة الدائمة - 1 (1/ 507 - 508)].
وجاء فيها (4/ 455): (مَن رغِب في زيارة القبور، أو في زِيارة الرسولِ صلَّى الله
عليه وسلَّمَ زيارةً شرعيَّة؛ للعِبرة والاتعاظ والدُّعاء للأموات، والصلاة على
النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، والترضِّي عن صاحبيه، دون أن يشدَّ الرحال، أو
يُنشئ سفرًا لذلك- فزيارتُه مشروعةٌ، ويُرجى له فيها الأَجرُ، ومَن شدَّ لها
الرِّحال أو أَنشأ لها سفرًا فزيارتُه زيارة مبتدَعة لم يصحَّ فيها نصٌّ، ولم
تُعرفْ عن سلف هذه الأمَّة، بل وردتِ النصوصُ بالنهي عنها، كحديث
«لا تُشدُّ
الرِّحالُ إلَّا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» رواه
البخاري ومسلم).
بل إنَّ الإمامَ محمَّدَ بنَ عبد الوهاب نفسه قد قِيل عنه بعضُ هذا في زَمانه،
فردَّ عليه وبيَّن أنَّه من البهتان والكذب عليه؛ حيث قال: (... فمنها قوله: إنِّي
مُبطلٌ كتُبَ المذاهب الأربعة; وإني أقول: إنَّ الناس من ستِّ مئةِ سَنةٍ ليسوا على
شيء،... وإنِّي أُكفِّر مَن توسَّل بالصالحين... وإني أقول: لو أَقدِر على هدْم
قُبَّة رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم لهدمتُها،... وإنِّي أُحرِّم زيارةَ
قَبرِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وإنِّي أُنكر زيارةَ قبرِ الوالدين
وغيرهما،... جوابي عن هذه المسائل: أن أقولَ: سُبحانَك هذا بهتانٌ عظيم...)
[الدُّرر السَّنية في الأجوبة النجدية (1/ 34)].
ومن المؤاخذات: قوله (ص: 98 - 99): (وبطريقة مشابهة، يُبالغ فقهاءُ الوهابيَّة
المعاصرون في التشديد على السُّنة، ويُوسِّعون صلاحيةَ تطبيقاتها على نِطاق واسع من
القضايا، وهم يُعرِّفون السُّنة بأنَّها نموذجٌ عن حياة النبيِّ محمَّد صلَّى الله
عليه وسلَّم؛ مُفصَّل في أقواله وأفعاله وسُكوته وخُلقه، والجوانب الثَّلاثة الأولى
مشتقَّة من نشاطات النبيِّ الاجتماعيَّة وتوجيهاته الأخلاقيَّة، كقاضٍ ورئيس
للدولة، بينما الرابع مشتقٌّ من حياته الخاصَّة التي تُقدِّم نموذجًا حيًّا على
السلوك الصَّحيح لحياة المسلم اليوميَّة، ويَعتبر هؤلاء الفقهاء أنَّ السنَّة وحيٌ
يشمل الشرعَ والأخلاق، وبهذا المعنى فإنَّها ملزِمةٌ، ولقد رُوي أنَّ النبيَّ صلَّى
الله عليه وسلَّم، قال: «إنِّي قد أُوتيتُ القرآنَ ومِثلَه معه»، ويختلف العلماءُ
المسلمون عمومًا حول ما إذا كانوا يَعتبرون جانبَيْ إرث النبيِّ صلَّى الله عليه
وسلَّمَ مُلْزِمينِ، أمْ أنَّ الملزم هو تلك التوجيهات ذات الشرعيَّة، وبالنسبة إلى
الوهابيِّين المعاصرين كُلُّ السُّنة ملزِمة، وإنْ لم تكُن بقوة إلزام القواعد
الشرعيَّة، لكنَّها بمثابة قواعدَ عامَّة إرشاديَّة للسلوك الصَّحيح).
التعقيب:
قوله: (يُبالغ فقهاءُ الوهابيَّة المعاصرون في التشديد على السُّنة...) سبَق
التعقيب على مِثله، ونَزيد هنا بأنَّه ليس في المبالغةِ في التشديد (التأكيد) على
الأمْر المهمِّ ما يُعاب؛ بل التأكيدُ على المهمَّات ممَّا يُمدَح عند كلِّ ذوي
العقول والألباب؛ ولا أَجَلَّ ولا أعظمَ ولا أحْرى بأنْ يُؤكَّد عليه ويُبالغ في
ذلِك التأكيد: مِن سُنَّة رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم؛ إذ هي الشارحةُ لكتاب
الله تعالى، كما هو معلومٌ ومقرَّر عند أهل الإسلام.
والقول بأنَّ السنَّة وحيٌ؛ ليس هو قول (فقهاء الوهابيَّة المعاصرين)- على حدِّ
تعبير المؤلِّف- وحدهم، بل هو القولُ الذي عليه عامَّة السَّلَف والخلَف، وهو صريحُ
القرآن الكريم، حيث قال تعالى عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم:
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]؛
قال القرطبيُّ المالكي في ((تفسيره)) (17/ 85): (وفيها أيضًا دلالةٌ على أنَّ
السُّنَّة كالوحي المنزَّل في العمل)، ونقَل الشِّنقيطي عن السيوطيِّ أنه قال: (الوحي
وحيانِ: وحيٌ أُمرنا بكتابته، وتُعبِّدْنا بتلاوته، وهو القرآنُ الكريم. ووحيٌ لم
نُؤمَر بكتابته، ولم نتعبَّد بتلاوته وهو السُّنَّة، وقد
عمِل بذلك سلفُ الأمَّة وخلفُها) [ينظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (8/ 37)].
أمَّا قوله: (ويختلف العلماءُ المسلمون عمومًا حول ما إذا كانوا يَعتبرون جانبَيْ
إرث النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ مُلْزِمينِ، أمْ أنَّ الملزم هو تلك التوجيهات
ذات الشرعيَّة، وبالنسبة إلى الوهابيِّين المعاصرين كُلُّ السُّنة ملزِمة) فإنْ كان
يعني أنَّ الوهابيِّين المعاصرين- على حدِّ وصْفه- هم فقط مَن يقول بأنَّ السُّنةَ
كلَّها مُلزِمة، وأنَّ علماء المسلمين لا يَعتبرون ذلك- كما يظهر مِن عبارته-؛ فقد
أبعدَ النَّجعةَ، وافترى على عُلماء المسلمين سلفًا وخلفًا، بل كلُّهم مُجمِعون على
أنَّها ملزمةٌ كالقرآن الكريم؛ قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إنِّي أوتيتُ القرآنَ
ومثلَهُ معه)
- ومن المُؤاخَذات على المؤلِّف: عدَمُ ضبطِه لمسألةِ البِدعة وتقسيمها؛ فلقدْ
تكلَّم عنها في نقطتيتين:
الأُولى: البِدعة في الشريعة الإسلاميَّة، والبِدعة في الفِكر الوهابيِّ، وتحت
البِدعة في الشريعة الإسلاميَّة يقول (ص: 128 - 130): (ومفهوم البِدعة يظهر أولًا
في دَلالته السلبيَّة... ومع ذلك هناك معنًى إضافي إيجابي كان قد أُعطي لهذه
المفردة قَدَّمه الخليفةُ الثاني عُمرُ بن الخطاب رضي الله عنه، وكان قد قال بخصوص
صلاة التراويح: إنها "بِدعة حَسَنة"، وقال: "إنَّها نِعمَتِ البدعةُ هذه"... سبَّبت
هذه الدَّلالة المزدوجة خلافًا شرعيًّا، ولا سيَّما بين مجموعتين من الفُقهاء...
الإمام الشافعي (ت: 820) (مؤسِّس المذهب الشافعي) وكان أحد أبرز الفقهاء الذين
أقرُّوا بالمعنى المزدوجِ للبِدعة، وهو قسَّم معنى البدعة إلى جُزأين أساسيين: (أ)
محمودة، و(ب) مذمومة، ثم اعتمد هذه المقاربةَ وطوَّرها من بعده عُلماءُ الشافعيَّة
المتأخرين [كذا، والصواب: المأخِّرون] من أمثالِ ابن عبد السَّلام (ت: 1262)، وأبو
شامة [كذا، والصواب: أبي شامة] (ت: 1266) والنووي (ت: 1277) والسيوطي (ت: 1505)
...)، ثم يقول: (من حيث الجوهرُ أتاحتْ مجموعةُ الفقهاء هذه قدرًا معيَّنًا من
المرونة، ربَّما تسمح بالقَبول بالبِدع، سواء أكان في الأمر المقدَّس للعلاقة بين
الإنسان وربِّه (العبادات)، أو في مجال الأمور الدنيويَّة لعَلاقات الناس ببعضهم.
وفي ما يتعلَّق بالعبادات؛ فإنَّ الاعتراف بالأهميَّة الدينيَّة الشرعيَّة
الإيجابيَّة للبدعة يُمهِّد الطريق للبِدع الدِّينيَّة هذه ... فالبِدع في سياق هذا
الإطار اعتُبرت جائزةً طالما أنَّها لا تتعارض مع الشريعة).
وفي المجموعة الأُخرى من الفُقهاء التي أَنكرتِ الدَّلالةَ الشرعيَّة الدِّينيَّة
الازدواجيَّة للبِدعة بالمعنى السَّلبي لهذه العبارة فقط، ذَكَر منهم: الشاطبي
المالكي، وابن حجر العسقلاني الشافعي، وبشكلٍ أساس الفقهاء الحنابلة مِن أمثال ابنِ
الجوزي وابن تيميَّة وابن رجب.
وفي النُّقطة الأُخرى: البِدعة في الفِكر الوهابي؛ يقول (ص: 133): (لم تَلقَ
مقاربةُ ابن تيمية المحافِظة في تعريف البِدعة قَبولَ عدد من علماء التوحيد في
عصره، ولكن لا يَزال تأثيره ملموسًا حتى بعد 400 عام من وفاته في تشكيل الحركة
الوهابيَّة خلالَ منتصف القرن الثامن عشر؛ فلقد درَس محمد بن عبد الوهاب كتب ابن
تيميَّة في عِلم التوحيد، وعرَّف البدعة تقريبًا بالطريقة نفسها، ولم يقبل بالمعنى
الشرعي المقسَّم الذي اقترحه الفقهاءُ المتقدِّمون، ولا سيَّما المذهبان الشافعي
والمالكي، وكان تعريفُه جوهريًّا، وتأثيراته بعيدةً عن الفَهم الوهابيِّ المعاصر
للبدعة، ومن هذا المنطلق راقب أجيالٌ من الوهابيِّين عددًا من البِدع وحَكموا على
عددٍ كبير من الطقوس والشَّعائر الشائعة بأنَّها بدع، زاعمين افتقارَها إلى سندٍ
شرعيٍّ توجيهيٍّ من عهد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم وأيَّام السلف (على سبيل
المثال: الصلاة عند أضرحة الأولياء الصَّالحين، أو الاحتفال بالمولد النبوي، أو عيد
ميلاد أيِّ شخص، أو قِراءة الفاتحة بعدَ كلِّ صلاةٍ من الصلوات اليوميَّة الخمس
وإهدائها لمؤسِّسي الطُّرُق الصوفية).
ويقول (ص: 134): (يتمسَّك الوهابيُّون المعاصرون بخطِّ أسلافهم الرُّوحي الفِكري،
وبالذات ابن تيميَّة ومحمَّد بن عبد الوهاب، عند تقرير ما هي البدعةُ؛ ففي فتاواهم
ومنشوراتهم ترفُض دار الإفتاء ومختلف الفقهاء الوهابيِّين أيَّ ثُنائية في معنى
البِدعة، ويَقبلون فقط المعنى الوحيدَ التقليديَّ الغالب للبدعة المحدَثة أو
الضَّلالة ...).
التعقيب:
هذا الكلام وهذا التأصيل، فيه أخطاءٌ ومُغالطاتٌ من وجوه عَديدة:
أولًا: الفَصل بين البِدعة في الشريعة الإسلاميَّة والبِدعة في الفِكر الوهابيِّ؛
فيه ما سبَق من ادِّعاء الفصلِ المتوهَّم بين دعوة الإمام محمَّد بن عبد الوهاب
وبين الإسلام؛ وعليه: فلا يصحُّ هذا التقسيم أصلًا.
ثانيًا: الزَّعم بأنَّ الإمامَ الشافعيَّ من القائلين بتقسيم البِدعة إلى محمودةٍ
(مفهوم إيجابي) ومذمومة (مفهوم سلبي)، هو زعمٌ خاطئ؛ لأنَّ كلام الإمام الشافعيِّ
صريحٌ في نفْي تقسيم البِدعة إلى محمودة ومذمومة؛ فإنَّه قد ورَد عنه أنَّه قال:
(مَن استحسن فقدْ شرَع)، والكلام الذي يُنقَلُ عنه ويستدلُّ به على أنه يقول بتقسيم
البدعة فيه نظرٌ؛ إذ هو في الحديثِ عن الـمُحدَثات بمعناها اللُّغوي، وأنَّ منها ما
هو راجعٌ إلى أصول الشرع وهو مِن الدِّين، فهذا ليس ببدعةٍ، ولا يَشمله لفظُها، بل
هو غيرُ مذموم، وإنْ كان مُحْدثًا، أي: جديدًا، بحسَب المعنى اللُّغويِّ، و أيضًا
الاستدلال على هذا بكلامِ أميرِ المؤمنين عُمرَ بن الخطاب رضي الله عنه فيه نظرٌ.
ويُنظر لتفصيل الردِّ على هذه المسألة: نقد كتاب
البِدعة
الإضافية - دراسة تأصيليَّة تطبيقيَّة
ثالثًا: نِسبة القول بتقسيم البِدعة للفقهاء المتقدِّمين، ونِسبة القول الآخَر
بأنَّ البِدعَ كلَّها مذمومةٌ للمتأخِّرين، وأنَّه لم يتبع ابنَ تيميَّةَ طيلةَ
أربعة قرون أحدٌ من علماء التوحيد خطأٌ كذلك، وسبَق الردُّ على مِثل هذه المسألة،
ويُنظر للتفصيل: عرض ونقد كِتاب
مفهوم
البدعة وأثره في اضطراب الفتاوى المعاصرة .
رابعًا: أنَّ المؤلِّف بكلامه هذا قد أصَّل لجوازِ كثيرٍ من البِدع والمنكَرات
المخالفة للشريعة؛ بزعْم أنها من البِدعِ الحسنة، مثل: (الصلاة عند أضرحة الأولياء
الصالحين)، مع أنَّه لا يقولُ بشرعيَّتها حتى الفقهاءُ الذين يقولون بتقسيم
البِدعة! وهذا باب خطيرٌ؛ تُمرَّر من خلاله كلُّ البِدع والمنكَرات بهذا الزَّعم
الباطل.
ومِن المُؤاخذات في هذا الصَّدد: قول المؤلِّف (ص: 165):
(وفي هذا الفصل أوضحتُ
أنَّ الوهابيِّين المعاصرين يُوافقون على معنًى واحدٍ محافِظ للبدعة، هي البِدعةُ
المحدَثة، ويُحرِّمون المخترَعات (البدع)؛ فكلُّ البِدع ليستْ مُتَّسقةً مع
الشريعة، ولا مع عمَل السَّلف، وفسَّرتها اللَّجنةُ الدَّائمة على أنَّها مرفوضةٌ،
سواء كانت ذاتَ طبيعة دِينيَّة أو دُنيويَّة، وكل المقالات أعلاه في هذا الفصل تقعُ
داخلَ سِياق البِدعة؛ وهي لهذا تُعتبر غريبةً عن الإسلام الوهابيِّ).
التعقيب:
قوله: (وفسَّرتها اللجنة الدائمة على أنَّها مرفوضةٌ، سواء كانت ذاتَ طبيعة
دِينيَّة أو دُنيويَّة) هو من الافتراء المحض؛ فإنَّهم لم يرفضوا البِدعَ ذات
الطبيعة الدنيويَّة، وإنما الكلام هو في البِدع التي في الدِّين، ويكفي للرد عليه
نقْلُ هذه الفتوى المفصَّلة المحرَّرة عن اللَّجنة الدَّائمة بهذا الخصوص، حيث
قالت: (البدعة: هي كلُّ ما أُحْدِثَ على غيرِ مثالٍ سابق، ثم منها ما يتعلَّق
بالمعاملات وشؤون الدُّنيا، كاختراع آلات النَّقْل من طائرات وسيَّارات وقاطرات...
إلى غيرِ ذلك ممَّا يرجع إلى مصالحِ العِباد في دُنياهم، فهذه في نفسها لا حرجَ
فيها ولا إثمَ في اختراعها، أمَّا بالنسبة للمقصدِ مِن اختراعها وما تُستعمل فيه؛
فإنْ قُصِد بها خيرٌ، واستُعين بها فيه فهي خيرٌ، وإن قُصِد بها شرٌّ من تخريبٍ
وتدميرٍ وإفسادٍ في الأرض، واستُعين بها في ذلك فهي شرٌّ وبلاء، وقد تكونُ البدعةُ
في الدِّين عقيدةً، أو عبادةً قوليَّةً أو فِعليَّة، كبدعة نفْي القَدَر، وبناء
المساجد على القبور، وإقامة القِباب على القبور، وقِراءة القرآن عندها للأموات،
والاحتفال بالموالد إحياءً لذكرى الصالحين والوجهاء، والاستغاثة بغير الله، والطواف
حول المزارات، فهذه وأمثالها كلُّها ضلالٌ؛ لقول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم:
«إيَّاكم ومُحدَثات الأمور؛ فإنَّ كلَّ مُحدثةٍ بِدعة، وكلَّ بِدعةٍ ضلالةٌ»)
[فتاوى اللجنة الدائمة - 1 (2/ 452 - 453)].
وقولها أيضًا: (قسَّم العلماءُ البِدعةَ إلى: بِدعة دينيَّة، وبِدعة دُنيويَّة،
فالبِدعة في الدِّين هي: إحداثُ عبادة لم يَشرعها الله سبحانه وتعالى، وهي التي
تُرادُ في الحديث الذي ذُكِر وما في معناه من الأحاديث.
وأمَّا الدُّنيوية: فما غلب فيها جانبُ المصلحة على جانبِ المفسدة فهي جائزةٌ،
وإلَّا فهي ممنوعة، ومن أمثلة ذلك: ما أُحدث من أنواع السِّلاح والمراكب...
الطائرات ومكبِّرات الصوت ونحو ذلك من الأمور العادية الدُّنيويَّة المبتدعة، وليس
فيها محذورٌ شرعيٌّ فاستعمالها لا محذورَ فيه إذا لم يكُن في ذلِك ظلمٌ لأحد، ولا
نصرٌ لبِدعة أو منكر، وليستْ داخلةً في الأحاديث المحذِّرة من البدع) [فتاوى اللجنة
الدائمة - 1 (2/ 458)].
* ومِن المؤاخذات على المؤلِّف: قوله (ص: 147 - 148): (من الواضح بالنسبة للجنة
الدائمة أنَّ تقليدَ الكفَّار مبدأ محوريٌّ عندما يأتي أمرُ ممارسة اجتماعيَّة غير
مسبوقة أو أجنبيَّة. وهذا أمرٌ اعتياديٌّ في الموقف الوهابيِّ؛ يظهر في ارتيابِهم
من أعرافِ الثقافات الأخرى؛ لهذا فإنَّه ينبغي للمسلمين أن تكونَ لهم احتفالاتُهم
وذكرياتهم بشكلٍ مُتميِّزٍ عن أعراف ثقافات المجتمعات الأخرى غير الإسلاميَّة. ومع
ذلك فإنَّ دار الإفتاء السُّعودية لم تُعرِّف قطُّ ما هو إسلامي في مقابل ما هو غير
إسلامي بخُصوص المدَى الواسع للممارسات الاجتماعيَّة الثقافيَّة السائدة بشكلٍ أساس
في مجال الحياة اليوميَّة، وهذا الاتِّجاه لدار الإفتاء السعوديَّة قد انتقدَه عددٌ
من المفكِّرين العرب الذين يَرونَ أنَّه أمرٌ متطرِّف عقائديًّا، وموقفٌ محافظ غير
مناسبٍ للعصر الحديث، ويتطلَّب إعادةَ تقييم).
التعقيب:
أمَّا مسألة (تقليد الكفَّار) فهذا مبدأ محوريٌّ عند كافَّة علماء المسلمين، ليس
بالنسبة للجنة الدَّائمة فقط؛ فإنَّ تقليد الكفَّار ومُشابهتَهم معلومةُ التحريم في
الجُملة: بالكتاب، والسُّنة، والإجماع، وذِكر أدلَّة ذلك وتفصيله غيرُ مناسبٍ في
هذا المقام لطولِه؛ ويُنظر في تقرير هذه المسألة بأدلَّتها مستوفاةً، وكلام الفقهاء
الكِتاب الفرد ((اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم)) لشيخ الإسلام ابن
تيمية رحمه الله؛ فزَعْم المؤلِّف أنَّ هذا الأمرَ هو مبدأ محوريٌّ بالنسبة للجنة
الدَّائمة فيه إيهامٌ أنَّ غير اللجنة الدائمة من المسلمين ليسوا كذلك، وفيه مِن
التدليسِ ما هو ظاهرٌ للعيان.
وأمَّا مسألة أنَّ (دار الإفتاء السعوديَّة لم تُعرِّف قط ما هو إسلاميٌّ في مقابل
ما هو غير إسلامي...)
فالأمورُ المعروفة لا تُعرَّف؛ فكلُّ الناس يَعرِفون المقصود بالإسلامي وغير
الإسلامي؛ فلا حاجةَ إذًا لتعريفه.
وقوله: إنَّ هذا (أمرٌ متطرِّف عقائديًّا وموقف محافظ...) وإنْ كان يَحكيه مقرًّا
له عن عددٍ من المفكِّرين العرب- بحسب تعبيره- فهو خطأٌ؛ لأنَّ هذا الأمرَ هو ما
جاءتْ به الشريعة كتابًا وسُنَّة وإجماعًا؛ فكيف يكون تَطرُّفًا عقائديًّا؟! إلَّا
إذا عُدَّ التقليدُ والتشبُّهُ بالكفَّار هو الوسطيَّة أو هو المناسِب للعصر
الحديث، وأنَّ غيره من الآراء تتطلَّب إعادةَ تقييم! وهذا لا يقولُه إلَّا مَن لم
يَخُضْ في الفِقه، ولم يَرَ إيماءاتِ الشرع ومقاصدَه، وعِللَ الفقهاء ومسائلهم،
ولكن مَن وَقَرَ الإيمانُ في قلبه، وخلَص إلى حقيقةِ الإسلام، وأنه دِينُ الله،
الذي لا يَقبل من أحدٍ سواه- إذا نُبِّه على هذه المسألة استيقظَ بأسرعِ تنبيه،
ولكن رين القلوب، وهوى النُّفوس، يَصدَّان عن معرفةِ الحقِّ واتِّباعه، فنعوذ بالله
من ذلك.
ومِن الطَّوامِّ: قولُه (ص: 176): (ومع ذلك لا القرآنُ ولا السُّنَّة تُقدِّم
تعريفًا مُحدَّدًا للرِّبا؛ ولهذا فإنَّ المعنى يَبقى غيرَ واضح)!
ولعلَّ هذا ممَّا يصحُّ أن يُقال عنه: إنَّ مجرَّد بُطلانه يُغني عن إبطاله! ولكن
لا بأسَ من توضيح أنَّ القرآن والسنَّة قد اشتملَا على التعريف المحدَّد للرِّبا؛
حتى لا يغترَّ مَن يقرأ مثلَ هذا الكلام به؛ فقد ورَد النهيُ عن الرِّبا في القرآن
في عِدَّة مواضع؛ منها قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ
الرِّبَا} [البقرة: 275]، وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَة} [آل عمران: 130] والقرآن نزَلَ بلُغة
العرب، والعربُ كانت تعرِفُ الرِّبا جيدًا؛ فالألفُ واللام في (الرِّبا) هي للعهد،
ومعناه: الرِّبا الذي كانتِ العرب تُضعِّف فيه الدَّين، فكان الطالبُ يقول: أتقضي
أمْ تُربي؟ أي: إنما الزِّيادة عند حلولِ الأجَل آخرًا، كمِثل أصل الثَّمن في أوَّل
العقد، وذلك أنَّ العرب كانتْ لا تعرِف رِبًا إلَّا ذلك. [ينظر: تفسير ابن عطية (1/
507)، تفسير القرطبي (3/ 356)، تفسير المنار (3/ 79)].
وقد جاءتِ السُّنَّة بتفصيل أنواع الرِّبا كذلك، من ذلك: نهيُه صلَّى الله عليه
وسلَّم: ((عن بيعِ الذَّهبِ بالذَّهبِ، والفِضَّة بالفِضَّة، والبُرِّ بالبُر،
والشَّعيرِ بالشَّعير، والتَّمْر بالتَّمْر، والمِلح بالمِلح، إلَّا سواءً بسواء،
عينًا بعينٍ، فمَن زاد، أو ازداد، فقد أَرْبى)). وقد وردَ هذا الحديثُ بألفاظ
عِدَّة في البخاري ومسلم وغيرهما، ممَّا فيه تفصيلُ ذلك وتوضيحه أتمَّ وضوحٍ
وأبينه، فضلًا عمَّا جاء تفصيلُه في شروحِ العُلماء لهذه الأحاديث.
فعُلم منه أنَّ قول المؤلِّف (... ولهذا فإنَّ المعنى يبقى غير واضح) غيرُ صحيح،
إلَّا عندَه وعند أمثالِه؛ فهلَّا استَوْضَحوا من العلماءِ إذ جَهِلوا!
{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
وختامًا:
فهذا الكتابُ وأمثالُه هو غيضٌ من فيض ممَّا تطفحُ به المكتبةُ العربيَّة من تشويهٍ
لمنهجِ الإسلام الصَّافي النَّقي، وتضليلٍ للمُثقَّف العربيِّ قبل العاميِّ، ومِن
العجبِ أن تجِدَ مَن يزعُم أنه يَدْعو إلى تحرُّر العقل العربيِّ وتنويرِه مِن
أمثال الكاتِب والناشِر؛ كيف يَدْعُونَ إلى الخُرافات، وإلى دُعاء الأمواتِ وتقديس
الأضرحةِ، والإنكارِ على مَن يُنكر ذلك؛ فمَن أحرى وأحقُّ بتحرير عقلِ المسلِمِ مِن
الخُرافات والأساطير؟ هُمْ أم دعوة الشَّيخ محمد بن عبدالوهاب؟!
نسألُ اللهَ تعالى أنْ يَهديَ ضالَّ المسلِمين إلى طريقِه القويم المستقيم.
وبالله التَّوفيق،،