التعريفُ بموضوعِ الكِتاب:
اختلاطُ الحلالِ بالحرامِ من أسباب الاشتباه ومثاراتِه، وتغليبُ الحرامِ واجتنابُه مِنْ تَرْكِ الشُّبُهات ومِن الورَع والاحتياطِ في الدِّين.
والاحتياطُ في الدِّين ضَبَطَه العلماءُ بقواعِدَ شرعيَّةٍ؛ لكيلا يتعلَّقَ المُحتاطُ بالأوهام والاحتمالات البعيدة؛ فإنَّ ذلك يَفتحُ بابَ الوَسْوَسة على أهل الاحتياط، وهذا ليس من المشْتَبِهات المطلوبِ اجتنابُها، ومن تلك القواعد قاعِدَةُ: إذا اجتَمَعَ الحلالُ والحرام غُلِّبَ الحرامُ.
فالاحتياطُ يَقتضي تغليبَ الحرام، وإنْ لم يكن هو الأكثرَ؛ فالحرامُ إنْ لم يبلُغْ حَدَّ الغَلَبَة ولا قريبًا منها فإنَّ الاحتياط يَقتضي عدم تناوُل هذا الخليط ترجيحًا لجانب الحرام احتياطًا.
والشرعُ يَحتاط في الخروج من الحُرْمَة إلى الإباحة أكثرَ مِن الخروج مِن الإباحةِ إلى الحُرْمة، وهو الذي تَقتضيه تلك القاعِدة.
وكتاب هذا الأسبوع يَبحثُ في هذِه القاعدة المُهِمَّة في هذا الباب.
وقد قُسِّم البحثُ إلى مُقدِّمة، وثمانية مباحثَ، وخاتمة.
ذكَر في المقدِّمة خُطَّة البحث، وأنَّه اتَّبَع في كتابه المنهجَ العِلميَّ في بحْث القواعد الفقهيَّة، والتوثيق وتخريج الأحاديث، وتَرْجَمة الأعلام.
وفي المبحث الأوَّل: ذكَر ألفاظَ القاعدة، فذَكر أنَّ هذه القاعِدَةَ وردتْ بألفاظٍ مختلِفَة، ولكنَّها متَّفِقَةٌ في المعنى، ومن أشهرِ هذه الألفاظ (إذا اجتَمَع الحلالُ والحرامُ غُلِّبَ الحرام)، وفي معناها: (إذا تعارَضَ المانِعُ والمقتَضِي يُقَدَّمُ المانِعُ).
ثمَّ قام في المبحث الثاني بتناوُلِ معنى القاعدة وشَرْح مُفرداتها، فذكَر أنَّ هذه القاعِدَةَ من القواعد المتَّصِلَة بمبحث التعارُض والترجيح، وتُعتَبَرُ من المرجِّحات التي يُفْزَع إليها عندَ تعارُضِ دليلينِ، أحدهما يُفيد الإباحةَ والآخَرُ يُفيد التحريمَ، فيُقَدَّمُ الدَّليلُ الذي يُفيد التحريمَ على الذي يفيد الإباحة، فإذا اجتمعَ الحلالُ والحرامُ في شيءٍ واحدٍ، فيُرَجَّحُ جانِبُ التحريم؛ لأنَّه محظورٌ، ولأنَّ الحرامَ ممنوعٌ في جميع حالاته، ويُمْكِنُ تحصيلُ الحلال من مصدرٍ آخرَ.
وكذلك شَرَحَ مُفرداتِ القاعدة، فذكَر معنى الحلال في الاصطلاح، وهو: ما أَطْلَقَ الشَّرْعُ فِعْلَه. مأخوذٌ من الحَلِّ، وهو الفَتْح، ومعنى الحرامِ في الاصطلاح: أنَّه ضدُّ الحلال، وهما متقابلان كما دلَّت عليه النصوصُ الشَّرعيَّةُ كما في قوله تعالى {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116].
ومعنى (غُلِّب): أن يُغَلَّبَ على الشَّيءِ ما لغيره لتناسُبٍ بينهما أو اختلاطٍ، ومدارُ التغليب على جَعْل بعض المفهومات تابعًا لبعضٍ داخلًا تحتَ حُكْمه.
وفي المبحث الثالث: ذكَر أدلَّة القاعدة، وذكَر من الأدلَّة اثنَيْ عَشَرَ دليلًا؛ منها:
- حديث: ((الحلال بيِّنٌ، والحرام بيِّنٌ، وبينهما مُشْتَبِهاتٌ ....)).
- وحديث: ((دَعُوني ما تركْتُكم؛ إنَّما هلَك من كان قَبْلَكم بسؤالِهم واختلافِهم على أنبيائِهم، فإذا نَهَيْتُكم عن شيءٍ فاجتَنِبوه، وإذا أَمَرْتُكم بأمْرٍ فأْتُوا منه ما استَطَعْتم))
- وحديث: ((إذا أرسلْتَ كلابَك المعَلَّمَة، وذكَرْتَ اسمَ اللهِ، فَكُلْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عليك، وإن قَتَلْنَ، إلَّا أنْ يأكُلَ الكلبُ، فإنِّي أخاف أنْ يكونَ إنَّما أمسَكَه على نَفْسِه، وإنْ خالطَها كلابٌ مِنْ غَيْرها فلا تأكُلْ)).
- وحديث: ((دَعْ ما يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ)) وغيرها مِن الأدلَّة.
وفي المبحث الرابع: تناوَلَ أسبابَ اشتباه الحلال بالحرام، وأنَّ موضوعَ هذه القاعدة هو اجتماعُ الحلال والحرام في الشَّيءِ الواحد بحيث يشتَبِهُ الأمرُ، وذكَر تقسيمَ الشاطبيِّ للمتشابِه إلى حقيقيٍّ وإضافيٍّ، وهو ما يكون متشابِهًا عند بعض الناس، ولا يكونُ متشابِهًا عند آخَرين، وهذا القِسْمُ هو موضوعُ القاعِدَةِ.
ثمَّ ذكَر أسبابَ الاشتباه الإضافيِّ، وأنَّها ترجِع إلى أمور؛ منها:
- تعارُض الأدلَّة، وأنَّ التعارُض لا يكون بين الدَّلالة القطعيَّة ولا يكونُ بَيْن الدلالَة الظَّنِّيَّة تعارضًا حقيقيًّا، أي: في الواقِع والأمر نفْسِه، وإنَّما يكون التعارضُ بَيْنَ الأدلَّة الظَّنِّية في الظاهر، أي: في ذِهن المجتهِد.
- الاختلافُ في التطبيق وإنزال الحُكْم على الوقائِع وإلحاق الوقائع بالأحكام العامَّة المجرَّدَة يحتاج إلى اجتهادٍ في تحقيقِ مناطِ الحُكْم العامِّ المُجَرَّد في الواقعة.
- اختلاط الحلالِ بالحرام، وهذا السَّبب هو المرادُ بالقاعدة.
وذكَر في المبحث الخامس: ضوابطَ القاعدة، وذكَر أنَّ القاعدة ليستْ مُطْلَقةً، بل تُقَيَّدُ ببعض الضوابط؛ ومنها:
- أنْ يَعْجِز عن إزالةِ الاشتباه.
2- أنْ يَتساوى الحِلُّ والحُرْمة.
3- أنْ يكون الحلالُ متعلِّقًا بالمباحات وليس بالواجبات.
4- أنْ يكون الحرامُ كثيرًا وغالبًا، فكلَّما كثُر الحرامُ رَجَحَ جانِبُ الحُرْمة أو الكراهة، وكلَّما قَلَّ الحرام ضَعُفَ هذا الجانبُ.
5- أنْ يكون الاختلاطُ ممتزجًا أو مُسْتَبْهِمًا غيرَ متمَيِّز أو مستهْلَك.
وذكَر في المبحث السَّادس: علاقَةَ القاعدة بأصولِ الفِقْه، موضِّحًا أنَّ هذه القاعِدَة من القواعد المشْتَرَكة بين عِلْمَيْ أصول الفقه والقواعد الفقهيَّة، وعَلاقتها بأصولِ الفقه بالنَّظَر إلى تعلُّقِها بالأدِلَّة الشرعيَّة المتعارِضَة، وكيفيَّة التَّرجيح بين الأدِلَّة، وبخاصَّةٍ عند الكلام عن مسألة الترجيحِ بين المُبيحِ والحاظِر.
كما ذَكَر أنَّ ممَّا يدلُّ على العَلاقة الوثيقة بين القاعدة والمسألة الأصوليَّة أنَّ بعضَ العلماء كالسُّيوطي وابنِ نُجَيم وناظر زاده ذَكَروا من فروع القاعدة: إذا تعارَضَ دَليلانِ أحدُهما يَقتضي التحريمَ والآخَرُ يَقتضي الإباحَةَ، يُقَدَّمُ التحريمُ.
وفي المبحث السابع: ذكَر تطبيقاتِ القاعِدَة الفِقْهِيَّة والمعاصِرَة
وممَّا ذكره من تطبيقاتٍ:
- مسألة المُتَوَلِّد مِن مأكولٍ وغيره؛ كالبغل، وأنَّه لا يَحِلُّ أَكْلُه.
- مسألة ما تولَّد مِن وَحْشِيٍّ وغيرِه لا يجوزُ للمُحْرِمِ قتْلُه تغليبًا للحرامِ على الحلال.
- مسألة لو اشْتَبَهَتْ مَيْتَةٌ بمُذكَّاةٍ لم يَجُزْ تناوُلُ شيء منها.
- مسألة لو اشترَك في الصَّيْد أو الذَّبْح مسلمٌ ومجوسيٌّ، فإنَّهُ لا يجوزُ أكْلُ هذا الصَّيدِ أو هذه الذَّبيحَة.
- لو اختلطتْ واشْتَبَهَتْ زوجَتُه بغيرها فيَحْرُم عليه الوَطْءُ تغليبًا للحرامِ على الحلال.
ثمَّ ذكَر بعض التَّطبيقات المعاصِرَة للقاعِدَة؛ ومنها:
حُكمُ المساهَمَة بالشَّرِكات المختَلِطَة التي أصْلُ نشاطِها مباحٌ، ولكنَّها قد تُودِعُ في بعض الأحيان في البنوك أموالًا بفوائِدَ أو تقترِضُ بفوائدَ، وذكر أقوالَ العلماء المعاصرين فيها، ثم رجَّحَ القولَ بتحريم الاتِّجَار والمساهَمَة في هذه الشَّرِكات؛ وذلك تغليبًا لجانب الحرام.
- ومن التطبيقاتِ المعاصِرَة أيضًا التداوي بالأدوِيَة المستحْضَرَة من المُضِرِّ والمُسْتَقْذَر، ورَجَّح أنَّه لا يجوزُ ذلك؛ لأنَّه إذا اجتمَع الحلال والحرام غُلِّبَ الحرامُ.
- ومنها التداوي بالأدْوِيَة المرَكَّبَة مِن الموادِّ الكيميائيَّة والهيبارين المأخوذ من أمعاء الخِنْزير، أو صمامات القلب البيولوجيَّة المأخوذة من قلب الخنزير؛ فمِن العلماء من حرَّم التداويَ بها بناءً على أنَّ الاستحالةَ لا أثَرَ لها في انقلابِ النَّجِس طاهرًا أو المُحَرَّم مباحًا، ومنهم مَن أباح التداويَ بها بناءً على أنَّ للاستحالةِ أثَرًا في انقلاب النَّجِس طاهرًا. وغيرها من التطبيقات.
وفي المبحث الثامِن: ذكر مستَثْنَياتِ القاعدة، فذكر منها:
- الاجتهاد في الأواني والثِّياب، وأنَّه إذا اختلطَتِ الأواني الطاهِرَةُ بالمتنَجِّسَة، أو الثياب الطاهرة بالمتنَجِّسة، فإنَّه يجتهدُ في هذه الأواني والثِّياب.
- ومِن المُسْتَثْنَيات: أنَّ الثَّوْبَ المنسوج من حريرٍ وغيره يَحِلُّ إنْ كان الحريرُ أقلَّ وزنًا.
- وفي الصيد؛ لو رمَى سهمًا إلى طائِرٍ فجَرَحَه ووقَع على الأرض فمات، فإنَّه يَحِلُّ؛ لأنَّ ذلك لا بُدَّ منه فعُفِيَ عنه.
- وفي معامَلَةِ مَن أَكثَرُ مالِهِ حرامٌ، أنَّها لا تَحْرُم على الأصحِّ، إذا لم يُعْرَفْ عَيْنُ الحرام، لكنَّه يُكْرَه.
- وفي قَبُول هَدِيَّة مَنِ اختلَطَ مالُه بالحرامِ، إنْ كان غالِبُ مالِ المُهْدِي حلالًا فتُقْبَلُ هَدِيَّتُه، وإنْ كان غالِبُ ماله حرامًا فلا تُقْبَل. وغيرها من المُسْتَثْنَيات.
ثم كانتِ الخاتمة، وذكر فيها أهمَّ النتائج؛ ومنها:
- أنَّ قاعِدَة (إذا اجتَمَع الحلالُ والحرامُ غُلِّبَ الحرامُ) ساريةٌ في باب الحلال والحرام، وهي من قواعدِ الاحتياط في الدِّين، ويَنبغي التَّمَسُّك بها في كثيرٍ من الأحكام؛ لأنَّ حِرْصَ الشَّرْع على اجتناب المَنْهِيَّات أكثَرُ مِن حِرْصِه على الإتيانِ بالمأمورات.
- ترجيحُ القولِ بأنَّ مجالَ إعمال القاعدة في تعارُضِ الحلال والحرام خاصٌّ بالحلالِ المُباح دون الحلال الواجِبِ.
- أنَّ هذه القاعدة دلَّتْ عليها النُّصوصُ الشرعيَّةُ من السُّنَّة النَّبويَّة.