عَرْضُ الكتاب:
كتابُ هذا الشَّهر صغيرٌ في حَجمِه، خطيرٌ في مضمونِه؛ ذلك لأنَّه يتحدَّثُ عن موضوعٍ زلَّت فيه أقدامٌ، وأخطَأَتْ فيه أفهامٌ، ألَا وهو موضوعُ الكُفْر والتَّكفير.
وقد تألَّف الكتابُ من أربعةِ مباحثَ؛ تتضمَّنتْ عددًا من المطالِبِ والمسائل:
المبحث الأول: في إثباتِ حُكم الإسلامِ للمُعَيَّن؛ بيَّنَ فيه المؤلِّفُ أنَّ المُكلَّف لا يَدخُل في الإسلامِ إلَّا أن يؤمن موقِنًا بحقيقةِ معنى الشَّهادتين، واستشهد لذلك بالكتاب والسُّنة.
المبحث الثاني: مَن دَخَلَ الإسلامَ بيقينٍ لم يخرُجْ منه إلَّا بيقين؛ أكَّد فيه المؤلِّف أنَّه لا يجوزُ تكفيرُ مَن تُيقِّن دُخولُه في الإسلامِ إلا بتيقُّنِ خروجه منه، ونقل أقوالَ عددٍ من العلماء وأئمَّة الإسلام.
المبحث الثالث: ضابِطُ نقْض الشَّهادتين، ودرجات نَقْضِهما.
وذكر هنا مطلبين:
المطلب الأول: ناقِضُ الدَّلالة اللُّغوية للشهادتين، مُناقضةً تُكذِّب لفْظَ الشهادةِ بها تَكذيبًا يقينيًّا. وذكر أنَّ هذا الناقض يَسْلُب الشهادتينِ دَلالَتهما اللُّغويةَ الصَّريحة، ويَجْعَلُها بلا مَعْناها.
وتكلَّم هنا عن: كُفر العناد والاستكبار، وكُفر الإعراض، وكُفْر الشَّك، وعن تكفيرِ مَن يسُبُّ اللهَ تعالى أو رسولَه صلَّى الله عليه وسلَّم، أو الإسلامَ، ومَن أهان المصحَف، ومَن اعتقد ضياعَ الدِّين، ومَن اعتقد تحريفَ القرآن؛ وقيَّد هذا التحريفَ بأنَّه تحريفٌ لا يُصحِّح التديُّنَ بالإسلام.
والمطلب الثاني: ناقض للشَّهادتين، لكنَّه لا يقطع بالنقض؛ لورودِ الاحتمال إليه، وذَكَرَ فيه أدلَّة الإِعذار بالجَهْل.
المبحث الرابع: تحدَّث فيه عن مَناطات التَّكفير: وذَكَر فيه مناطَ التكفير بالمُكَفِّرات التالية:
1- مناط تكفير إنكارِ المعلوم من الدِّين بالضرورة، وتناول فيه قِتالَ أبي بكرٍ رَضِيَ الله عنه للمرتدِّين.
2- مناط تكفير الاستحلال.
3- مناط تكفير تَرْك الصَّلاة.
4- مناط تكفير مَن كَفَّر الصَّحابة رضي الله عليهم.
5- مناط تَكفير تحريفِ القرآن الكريم.
6- مناط تكفير اتِّهام أمِّ المؤمنين عائشةَ رضي الله عنها بما برَّأها الله منه.
7- مناط تكفير الحُكْم بغير ما أنزل اللهُ.
8- مناط تكفير الوَلاء والبَرَاء ومُظاهرة الكفَّار على المسلمين.
9- مناط تكفير الشك في كُفْر الكافر.
10- مناط تكفير السُّخْرية والاستهزاء بالدِّين أو أهله.
11- مناط تكفير السِّحْر.
نَقْدُ الكتابِ:
إنَّ مسألةَ الإيمانِ والكُفْرِ مِن أهمِّ مَسائلِ الدِّين؛ لترتُّبِ كَثيرٍ مِن الأحكامِ والآثارِ عليها، سواءٌ في الدُّنيا أو الآخِرَة، ولعِظَم ما يَترتَّبُ عليها مِن آثارٍ في مُعاملاتِ المسلِمينَ وواقعِهم، وكَثرةِ الخَللِ والخطأِ الواقِع فيها أيضًا؛ فَقدْ ضَلَّتْ في هذِه المسألةِ طائفتانِ: طائفةٌ غَلَتْ وأَفْرَطَت في التَّكفيرِ؛ فكَفَّرَتْ أهلَ القبلةِ بكبائِرِ الذُّنوب؛ وهم الخوارِجُ وأشباهُهم، وطائفةٌ أخرى أخرجَتِ الأعمالَ من الإيمانِ، وجَعَلَت الإيمانَ هو التَّصديق؛ وهم المُرْجِئَة ومَن حذَا حَذْوَهم، وقد تأثَّر بهاتين الطَّائفتينِ بعضُ المتسنِّنة في زَماننا هذا.
فتأثَّرَ بالطَّائفةِ الأولى أقوامٌ يَزْعمونَ أنَّهم لا يُكَفِّرونَ بالمعاصي، لكنَّهم توسَّعوا في التَّكفيرِ، فكَفَّروا المسلمينَ من أهلِ الشَّهادتينِ تَكفيرًا عَينيًّا؛ دونَ النَّظَرِ إلى موانِعِ تَكفير الواقِعِ منهم في الكُفْر- لو سَلَّمْنا أنَّه كُفْر- مِن إكراهٍ، أو جهلٍ، أو تأويلٍ، أو خطأٍ، ومنهم مَن يُكَفِّرُ باللازم والمآلِ.
وتأثَّر بالطَّائفةِ الأخرى في العَقْدينِ الماضيينِ بعضُ المتسنِّنة أيضًا، حيثُ حَصَروا الكُفْرَ في الاعتقادِ والتَّكذيبِ وما أدَّى إليهما؛ مِن إعراضٍ أو عنادٍ، وظَهَرت في حَقِّهم فتاوى وبياناتٌ؛ فآبَ عَددٌ منهم، وخَنَسَ آخَرونَ.
وعندما ازدادَ شَرُّ مَن تأثَّر بالطَّائفة الأولى- الخوارج- وعمَّ ضَرَرُهم العِبادَ والبلادَ، بدأت تَظْهَرُ أصواتٌ وكتاباتٌ كَرَدَّةِ فِعْلٍ لهذا الغُلُوِّ، تُنادي بمراجَعَةِ كُتُب أئمَّة أهلِ السُّنَّة من المتأخِّرين والمعاصرينِ؛ ككتب شيخِ الإسلامِ ابن تيميَّة، والمُجَدِّد ابن عبد الوهاب، والإمام ابن باز، وغيرهم؛ في مسائِلِ الكُفرِ والإيمان، والعُذْرِ بالجهل؛ زاعمينَ أنَّ هؤلاءِ العُلماءَ خالَفوا منهجَ أهلِ السُّنَّة والجماعة والأئمَّة المتقَدِّمين، وأنَّ غُلُوَّ المعاصِرين إنما هو بسَببِ عباراتٍ في كتُبِ هؤلاء، وطَفِقوا يَستخرجونَ مِن كُتُبِهم ما يظنُّون أنَّه يُؤَيِّد ما توهَّموه، ومنهم مَن أصبَحَ يَكتُب في هذه المسائِلِ، ويُؤَصِّل لها تأصيلًا جديدًا، وكأنَّها من المسائِلِ المعاصِرَة أو النَّازِلة، مع أنَّ كُتُبَ السَّلَف والخَلَف مليئةٌ بالحديثِ عنها، ولا جديدَ فيما يكتبونَ إلَّا إثارةُ الشُّبُهاتِ، وزعزعةُ الصَّفِّ في مَسائِلِ التَّوحيد والإيمان.
ومن الكُتُب التي تناولَتْ مَسألةَ تَكفيرِ أهْلِ الشَّهادتين كتابُنا لهذا الشَّهْرِ، وقد أجاد المؤلِّفُ- جزاه الله خيرًا- في عَدَدٍ مِن مواضِعِه بما وافَقَ فيه مَنهجَ أهلِ السُّنَّة والجماعة، ولكنَّه وَقَعَ في بَعضِ ما وَقَعَ فيه غيرُه في حَصْرِ التَّكفيرِ في الاعتقادِ والتَّكذيبِ وما أدَّى إليهما؛ من عنادٍ أو إعراضٍ أو سُخْريةٍ، ولا تكاد تجدُ مَسألةً واحدةً من هذه المسائِلِ إلَّا وهو يُشيرُ أنَّ كُفْرَ صاحِبِها مَرَدُّه الاعتقادُ.
وفي هذا العَرْضِ والنَّقدِ سَنُورِدُ أهمَّ تِلك المآخِذِ على هذا الكتابِ؛ حتَّى لا نُطِيلَ على القارئِ، وبها يُعْرَف النَّهْجُ الذي سار عليه المؤلِّف وفَّقَه اللهُ وأَرْشَدَه إلى الحقِّ والصَّوابِ، وليُعلم أنَّ هذا ليس ردًّا على الكتابِ ولا على كلِّ ما فيه، إنَّما هي شَذراتٌ ممَّا عليه مِن مآخِذَ بما تَتَّسعُ له هذه الصفحةُ.
المَأخذُ الأوَّل:
قولُه (56): (من اعتَقَدَ وجودَ إلهٍ مع الله (وهو الشرك المنافي للتوحيد): ويُثْبت ذلك بالقول الصَّريح (كتلبية مشركي العرب)، أو بتعظيم مخلوقٍ على وجهِ صَرْف شيءٍ من خصائص الرُّبوبية له: وهذا الفعل (العبادة) كفرٌ، ولا شكَّ، ولا يدلُّ عليه عندنا إلَّا القولُ الصريح: سواء جاء التَّصريحُ ابتداء دون سَبْق استفصال يدلُّ يقينًا على الشِّرك الصريح (كما سبق في تلبية المشركين)، أو جاء التصريح بعد استفصال المعظِّم لغير الله بأحدِ مظاهر العبادة، فأجاب عن نيَّته وقصْده بما يُبيِّن أنَّ شِركَه في الربوبية كان هو ما قادَه إلى الشِّرك في العبادة.
أمَّا صَرْفُ التعظيم الذي ظاهِرُه أنَّه عبادةٌ لا يجوز صرْفُ ظاهرها لغير الله، على غير وَجْه صرْف شيءٍ من خصائص الربوبية = فهو محرَّمٌ ومنكر وذريعة للشِّرك، لكنه ليس شِركًا، ما دام قد صدر ممَّن شهد الشهادتينِ لا على وجه صَرْفِ شيءٍ من خصائص الربوبية لغير الله تعالى).
التعقيب:
معنى هذا الكلامِ أنَّ صرْف عِبادةٍ لغير الله؛ كالذَّبح والنَّذر والدعاء والصَّلاة وغيرها محرَّم ومُنكَرٌ، وليس شركًا من دون الله إلَّا إذا صرَّح بلسانِه بأنَّ عِبادتَه هذه ناشئةٌ عن شِرْكِه في الرُّبوبيَّة، وهو اعتقادُ وُجودِ إلهٍ مع اللهِ تعالَى يَستحِقُّ أن تُصرَفَ إليه هذِه العِبادةُ، ولا تَكفي عِبادتُه الصريحةُ لغير الله حتى لو أَقَمْنا عليه الحجَّة بأنَّ هذا شركٌ أكبر ما دام لم يُصرِّحْ بلسانِه بشِركه في الرُّبوبيَّة، وهذا هو المعنى الَّذي صرَّحَ به المؤلِّف؛ أنَّ شِرْك العِبادةِ لا يُعدُّ شِركًا إلَّا إذا قادَه إليه شِرْكُ الربوبيَّة، وهذا يَعني- عنده-: أنَّ مَرَدَّ توحيدِ العبادةِ- وهو توحيدُ الألوهيَّة- إلى توحيد الربوبيَّة، وأنَّ شِرْكَ العبادة كلَّه مَرَدُّه إلى اعتقاد القلب، والذي لا يُجزَم به- عند المؤلِّف- إلَّا إذا: (أجاب عن نِيَّتِه وقصده، بما يبين أنَّ شِرْكه في الربوبية كان هو ما قاده إلى الشِّرك في العبادة)، ولو اكتفى المؤلِّف بربْط صَرْف هذه العبادة بالقلب؛ كأنْ يقولَ كما قال بعض العلماء: (إنَّ صَرْفَ هذه العبادة لغير الله دَليلٌ على فسادِ مُعتقَدِه، وعلى أنَّ هذه الأعمالَ الشِّرْكية صادرةٌ عن الباطِنِ) لقُبِلَ ذلك منه، لكنْ أن يَجعَلَ ذلك مُرتبطًا بتصريحِه عن نيَّته وقَصْده؛ فهذا خطأٌ بيِّن.
والأدِلَّة على أنَّ مجرَّدَ صَرْفِ أيِّ عِبادةٍ لغيرِ اللهِ تعالى- كالذَّبحِ والنذرِ والاستغاثةِ والدعاءِ والصَّلاةِ وغيرِها- كُفرٌ أكبرُ مُخرِجٌ مِن الملَّة، بغَضِّ النَّظرِ عن تحقُّقِ حُكمِ الكُفرِ على الواقِع فيها من عَدمِه؛ أَشْهَرُ من أن تُذكَر؛ فنصوصُ كِتابِ الله وسُنَّة نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم في هذا البابِ كثيرةٌ جدًّا.
من ذلك قول الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء 36]
وقوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام 136]
وقوله: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام 162-163]
وقوله: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} [الجن 20]
والآياتُ في ذلك كثيرةٌ جدًا.
ومن الأحاديث: قوله صلى الله عليه وسلم: ((حقَّ اللهِ على عباده أن يعبدوه، ولا يشركوا به شيئًا)) رواه البخاري (2856)
ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله من ذبح لغير الله)) رواه مسلم (3771)
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُمَّ لاَ تجعل قبري وثنًا يُعبَدُ، اشتدَّ غضبُ اللَّهِ على قومٍ اتَّخذوا قبورَ أنبيائِهم مساجدَ)) رواه مالك في الموطأ (85)، وأحمد في المسند (7358) .
والأحاديثُ في ذلك كثيرةٌ جدًا.
المأخذُ الثاني:
قوله (60): (ولذلك كفَّرْنا أيضًا مَن شَتَمَ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم، أو تنقَّصَه بما يدلُّ على التكذيب أو البُغض، أو انعدام أوَّل درجات القَدْر الواجِب من الإجلالِ والتعظيم اللَّذين يَجبانِ لإثباتِ صِحَّة الإيمان بشهادةِ أنَّ محمدًا رسولُ الله)
هذا القيد من المؤلف بكفر الشتم (بما يدلُّ على التكذيب أو البُغض، أو انعدام أوَّل درجات القَدْر الواجِب من الإجلالِ والتعظيم) غير صحيح، وهل هناك شتمٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم لا يدل على ذلك؟ فالأولى أن يقول إنَّ مجرد شتم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المكلَّف كفرٌ مخرجٌ من الملة. فكلامُه هذا خَطأٌ ظاهرٌ، ومُخالفٌ للإجماعِ المحكيِّ في حُكمِ سابِّ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، حتَّى لو زَعَم هذا السَّابُّ أنَّه كان خائِضًا لاعبًا هازلًا مازحًا غير مكذِبٍ ولا مبغضٍ! وهو ما يدلُّ عليه صَراحةً قولُه تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65- 66]؛ قال ابنُ العربيِّ في تفسيره (2/ 543): (لا يَخلو أنْ يكونَ ما قالوه مِن ذلِك جِدًّا أو هزلًا، وهو كيفَما كان كُفرٌ؛ فإنَّ الهزلَ بالكُفرِ كُفرٌ لا خُلْفَ [أي: لا خِلافَ] فيه بَينَ الأمَّة)؛ فمذهبُ سَلف الأمَّة ومَن اتَّبعهم مِن الخَلفِ أنَّ مجرَّد شَتْمِ الرسولِ من المكلَّف كفرٌ دون شرطٍ أو قيد دلَّ على بغضٍ وتكذيبٍ أم لم يدل.
ثمَّ ما هذا الشَّرْطُ العَجيبُ الذي اشترطه المؤلِّف في تَكفيرِ سابِّ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: (انعدام أول درجات القَدْر الواجب من الإجلال والتعظيم اللَّذين يَجبانِ لإثبات صحَّة الإيمان بشهادة أنَّ محمدًا رسول الله)؟! فهل يَبقى عِندَ مَن شتَم النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم إجلالٌ أو تعظيمٌ له؟! إذ لو كانَ في قَلْبِه إجلالٌ أو تعظيم له أصلًا ما شَتَمَه؛ بأبي هو وأمِّي عليه صلواتُ ربِّي وسلامُه!
المأخذُ الثالث:
اضطربَ المؤلِّفُ في مسألة تكفير مَن كَفَّر الصَّحابة رضِي اللهُ عنهم، وحاول أنْ يجِد مخرجًا لعدم تكفيرِ مَن كَفَّر عامَّتهمَ، وسنورد كلامه كاملًا، ونعلِّق عليه أثناءَ السُّطور:
قال المؤلف (100-104): (وأما تكفير من كَفَّر الصحابة (رضوان الله عليهم)، فلا بدَّ أن يَرجِع إلى معنًى من معاني نقض الشهادتين (كما قرَّرناه)، وإلا فلا يصحُّ إطلاق القول بتكفير مَن كفَّر آحاد الصحابة أو عامَّتهم. أفرأيتَ الخوارِجَ، وقد كفَّروا عثمان وعليًّا رضي الله عنهما، وكفَّروا كلَّ مَن عاصر فتنتهم من الصحابة (رضوان الله عليهم)، وكفَّروا المسلمين جميعًا من التابعين وتابعيهم ممَّن لم يدخُلْ في فئتهم، ومع ذلك أجمَعَ الصحابة على عَدَمِ كُفْرِهم، ولم يُكفِّرْهم عامة أئمة الإسلام، وعَدَّلوهم في دينهم، وقبلوا شهاداتهم ورواياتهم (ممن لم يأتِ منهم قادحًا غير الخروج)، حتى نفى الإمامُ الشافعي في (الأم) عِلْمَه بخلاف في ذلك منذ جيل الصَّحابة حتى عَصْره، أنه محكوم بعدالتهم في الدِّين، رغم تكفيرِهم لعموم الصَّحابة والتابعين والمسلمين إلى يوم الدين!
فلا يُكَفَّرُ مُكَفِّرُ آحادِ الصَّحابةِ أو غالبِهم: إلَّا إذا كان تكفيرُه لهم يرجع إلى نقْض الشهادتين بوجوه متعدِّدة؛ منها:
1- أن يرجع إلى التكذيب لله تعالى ولرسوله صلَّى الله عليه وسلَّم في الحُكم لهم بالعدالة والفَضْل والشَّرَف؛ فمن كَفَّر الصِّدِّيقَ الأكبرَ أبا بكرٍ رضي الله عنه ظاهِرُ اعتقاده الكفر؛ لأنَّ ظاهِرَه يعارض المعلوم من الدِّين بالضرورة من جليل قَدْرِ الصِّدِّيق رضِي اللهُ عنه وعظيم تَقَدُّمه على كلِّ الأمة ممَّن سواه بعد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ ولأنَّ ظاهره التكذيبُ للنصوص القاطعة بذلك! [يعني بالنُّصوص القاطعةِ فيما ورَد في فضل أبي بكر؛ فمُكَفِّر أبي بكر ظاهرُه أنَّه مكذِّبٌ بـهذه النصوص؛ فما حُكْم مُكَفِّر عُمر، والذي ظاهرُه أنَّه مكذِّبٌ بالنصوص الواردة في فضله أيضًا، وكذا عثمان وغيرهما؟ فلا ندري ما وجه تخصيص أبي بكر رضي الله عنه؟ وقد يعني به التمثيل فقط ولكن عبارته لا تساعد على ذلك، ثم يقول المؤلف:] ومع ذلك لا نُكَفِّره بمجرد هذا الظاهر؛ لأننا نعرف طائفةً من أهل الشهادتين [يعني الرافضة؛ لأنَّنا لا نَعرِف أحدًا يُكفِّر الصِّديق غيرَهم] لا يعرفون ما عَلِمْناه ضرورة، بل يَدَّعُون العلم الضروري في نقيضه؛ ولأنَّهم لا يعتقدون كَذِبَ النصوص، [بل يعتقدون كَذِبَها ولا يَقبَلون إلَّا بكافِيهم] وإنما يتأوَّلونها تأويلاتٍ باطلةً فاسدة، توجب علينا إنكارَ تلك التأويلات ورَدَّها بكل قوة حجَّة ووَضْع مباينة، لكن لا توجب التكفيرَ مع قيامها في نفس المتأوِّل ومع اعتقاده صحَّتَها من غير عناد مقطوع به ولا استكبار متيقن. [ونقول للمؤلِّف: وماذا بعدَ إقامة الحجَّة عليهم؛ أتُكَفِّرُهم أم لا؟ وجوابه:]
فلا نكفر هذا المخالِف بتكذيب قوله تعالى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} ، إذا كان المخالِفُ يتأوَّل الآيةَ تأويلًا باطلًا يعتقد هو صِحَّتَه في أن الآية نزلت في غيرِ أبي بكر رضي الله عنه، أو نازَعَ في معناها نزاعًا باطلًا يعتقد هو سلامَتَه، فزعم عَدَم إثباتها الشَّرَفَ والفضل له رضي الله عنه. [وماذا عن الأحاديثِ الواردة في فَضْلِه والتي يُكذِّبها هذا المخالِفُ؟! فالخَلَل الكبيرُ الذي وقع فيه المؤلِّفُ أنه يُريد محاكمةَ الرافضة بمذهَبِهم الباطِل وتأويلاتِهم الفاسدة، وهذا لو سُلِّمَ له فلنْ تُكَفَّرَ طائفةٌ مهما غَلَت؛ فالجهميَّة والنُّصيريَّة والإسماعيليَّة وغيرهم؛ لهم أدلَّتهم الملفَّقة، وتأويلاتهم الفاسدة؛ فهل نُقيمُ الحجَّةَ عليهم بأدلَّتنا الصَّحيحة الثابتة أم بأدلَّتهم المُلَّفَقة؟! فلا وجه لقول المؤلف: (فلا نكفِّرُ هذا المخالف بتكذيب قوله تعالى {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}، إذا كان المخالف يتأوَّل الآيةَ تأويلًا باطلًا؛ يعتقد هو صِحَّتَه في أنَّ الآية نزلت في غيرِ أبي بكر رضي الله عنه، أو نازَعَ في معناها نزاعًا باطلًا يعتقد هو سلامَتَه، فزعَمَ عَدَمَ إثباتها الشَّرَفَ والفضل له رضي الله عنه)، بل نكفِّرُه إذا أقَمْنا عليه الحجَّةَ من الكتاب والسنَّة الصَّحيحة، ويُقال مثل هذا فيمَن زَعَم أنَّ القرآنَ مُحَرَّف، وله أدلَّته الفاسدة؛ التي منها أنَّ كبار الصَّحابة خانوا الأمانةَ، وزادوا ونَقَصُوا في الآيات؛ فنُحاجُّه بأدلَّتنا من الكتاب والسُّنَّة؛ وهكذا يُقال عن كل طائفةٍ، ولكلِّ مسألةٍ خالفوا الحقَّ فيها.]
2- أن يكون تكفيرُهم (رضوان الله عليهم) قد ترتَّبَ عليه عند مُكَفِّرهم اعتقادُ ضياع الدِّين؛ لأنَّه إذا كَفَّرهم جميعًا، واعتقد أنَّهم قد فرَّطوا أو تعمَّدوا (بسبب كفرهم) عَدَمَ نَقْلِ الدين، وتعمَّدوا تحريفَه التحريفَ المُضَيِّع لِمَا به يصِحُّ الإسلام = فهذا قد حَكَمَ على نفسه بعَدَمِ الإسلام؛ لأنَّه هو نفسه يعتقد عدمَ وجود دينِ الإسلام. [ما هذا الشرطُ العجيب؟! وكأنَّه يعمِدُ إلى تبريرِ عدم تكفيرِ مَن يُكَفِّر عامَّةَ الصحابة، ويشترط مع تكفيرِهم جميعًا أن يعتقدَ هذا الذي كَفَّرَهم جميعًا أنَّه يترتَّب على ذلك عند مُكفِّرهم ضياعُ الدِّين! والمؤلِّف يعلَمُ أنَّه ليس هناك طائفةٌ في الدُّنيا تُكفِّر جميعَ الصَّحابة؛ حتى الخوارج إنَّما كَفَّرَ بعضُهم الصَّحابةَ في زمنهم، ولم يُكَفِّروا مَن مات قبل ظهورهم، والرَّافضة كذلك لا يُكفِّرون جميع الصحابة، ثم هل الدِّين لا يَضيع إلَّا إذا كُفِّرَ جميعُ الصحابة؟! وما الفرق بين من كَفَّرَ جميعَ الصحابة ومن كفَّر عامَّتَهم، ولم يَسلَمْ من تكفيره إلا قلَّةٌ يُعَدُّون على الأصابع؟ أليس في ذلك ضياعٌ للدين؟! هل بعد تكفير مَن رَوَوْا لنا أحاديثَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، بل مَن حَفِظُوا لنا القرآنَ العظيم؛ هل بعد تكفيرهم تبقَى للدِّين قائمة؟!
أليس في تكفير المُكْثِرين مِن رُواة الحديث: كعائِشَةَ وأبي هريرة وابن عمر وغيرهم رضي الله عنهم؛ ضياعٌ للدِّين، فضلًا عن تكفيرِ أئمَّة الصَّحابة؛ كأبي بكر وعمر وعثمان رضِي الله عنهم جميعًا؟!، لكن هناك شرطٌ عجيبٌ آخر عند المؤلِّف لا نعرفُ أحدًا سبقه إليه = وهو اشتراطُه أن يكون تكفيرُ عامَّةِ الصحابة يترتب عليه عند مكفِّرهم ضياعُ الدِّين وليس عندنا نحن أهل السُّنَّة والجماعة!! ولو كان عندهم فيه ضياع للدِّين ما كفروهم، بل هم يرون أن ضياع الدِّين إنَّما يكون باعتقادِ بإسلامهم لذلك كفَّروهم حتى يسلم الدِّين من الضياع بزعمهم.]).
المأخذُ الرابع:
مناطُ تَكفيرِ مَن اعتقَدَ تحريفَ القرآن الكريم عندَ المؤلِّف ليس هو القولَ بتَحريفِ القرآن، واعتقادَ النقص والزِّيادة فيه بعد إقامة الحجَّة عليه، بل مناطُه عنده اعتقادُه أنَّ تحريفَه فيه إضاعةٌ للدِّين؛ لأنَّه بهذا سيكون مكذِّبًا أو معاندًا، أو مُعرِضًا أو شاكًّا في دَلالة الشهادتين، وهذا ما صَرَّح به في كتابِه، والذي أَوْقَعَه في هذا الخَللِ هو عَدَمُ التفريقِ بين مَن أنْكَرَ كلماتٍ في كتاب الله قَبْل جَمْع المصحف وإثباتِه بالتواتُر لجَهْله بها؛ كما حصَل لبعضِ الصَّحابة، وبَيْنَ مَن يعتقد نُقصانَه أو الزيادةَ فيه بعد جَمْعِه في عهد عثمانَ، وإجماعُ الصَّحابةِ رضي الله عنهم جميعًا والأمَّة كلِّها مِن بَعْدِهم على أنَّ هذا القرآنَ هو كلُّ ما نزَلَ على النبيِّ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وإجماعُهم على كُفْرِ مَن قال بتحريفِه أو نَقْصِ حَرْفٍ منه أو زِيادة حَرْف عليه، قال القاضي عياض في الشفا (1102/1103): (وقد أجمعَ المسلمون أنَّ القرآن المتلوَّ في جميع أقطار الأرض، المكتوب في المصحَف بأيدي المسلمين؛ مِمَّا جَمَعَه الدَّفتانِ مِن أول "الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" إلى آخِر "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ": أنهَّ كلام الله، ووحْيُه المنَزَّل على نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، وأنَّ جميعَ ما فيه حَقٌّ، وأنَّ مَن نَقَصَ منه حرفًا قاصدًا لذلك، أو بدَلَّه بحَرفٍ آخَرَ مكانه، أو زادَ فيه حرفًا مِمَّا لم يشملْ عليه المصحَفُ الذي وقَع الإجماعُ عليه، وأُجْمِع على أنَّه ليس مِن القرآن عامدًا لكلِّ هذا؛ أنَّه كافر) ا.هـ. ولم يخالف هذا الإجماعَ إلَّا بعضُ الرافضة الذين يُكفِّرون أصلًا الصحابة الذين جَمَعوه، قال المؤلف -هداه الله للحقِّ- (108): (أما تكفير [نظن كلمة تكفير هنا زائدة] مَنِ اعتقد أنَّ في المصحف زيادة أو نقصًا، أي اعتقد وقوعَ تحريف فيه، لكنَّه لم يعتقد ضياع الدين بهذا التحريفِ؛ ولذلك فهو يدينُ لله تعالى بالإسلام وبهذا القرآن = فلا شَكَّ في بُطلانِ قولِه، وأنَّه قد خالف أمرًا معلومًا من الدين ضرورةً. ومع ذلك: لا يُكَفَّرُ، حتى نعلم يقينًا أنَّه قد عَرَف أنَّ القرآن مَصُونٌ من الزيادة والنقصان؛ فإن عَرَفَ ذلك، ثم أصَرَّ على ادِّعاء الزِّيادة والنقص، فسيكون مكذِّبًا أو معاندًا أو مُعْرضًا أو شاكًّا في دلالة الشهادتين، فيكون كافرًا؛ لأنَّه بغيرِ هذه القيود لا يكون قد نَقَضَ دلالة الشهادتين، على ما بيَّنَّاه سابقًا: عندما تحدَّثنا عن اختلاف الفقهاء في البسملة في أوَّل السور: هل هي من القرآن أم ليستْ من القرآن، وعندما ذكَرنا مَن كان يحكُّ المعوِّذتين من الصحابة؛ اعتقادًا أنَّها ليستْ من المصحف، ومَن أدخل في المصحف سورتي الحَفْد والخلع (وهي دعاءُ القنوت)؛ لعدم عِلمه بنسخ تلاوتهما، ومَن أنكَرَ قراءةً متواترة؛ فكل هؤلاء لم يُكَفَّروا، رغم اعتقادهم نقصًا أو زيادةً في القرآن؛ لأنَّهم لم يلتزموا مع هذا الاعتقاد اعتقادًا ينقض دلالةَ الشهادتين، كما سبق. [هنا أصلُ الـخَلَلِ عند المؤلِّف الذي سبق ذِكْرُه، وعدمُ تَكفير هؤلاء ليس لـما ذَكَره المؤلِّف، بل لـما ذَكره شيخُ الإسلام- كما سيأتي]
وقد ذكر شيخ الإسلام ابنُ تيميَّة بعض المسائل التي أخطأ فيها بعضُ الصحابة (رضوان الله عليهم) وبعضٌ من أئمة السلف، ومع ذلك لم يُكفَّروا، بل ما زالوا أئمَّة يُقتَدَى بهم رغم يقينِ أخطائهم، فمِمَّا ذكر في ذلك وله علاقة بتحرير مناط التكفيرِ باعتقاد نقصٍ أو زيادة في القرآن الكريم، قوله: (وأيضًا؛ فإنَّ السَّلَف أخطأ كثيرٌ منهم في كثير من هذه المسائل، واتَّفَقوا على عدم التكفير بذلك...[ثم ذكر عددًا من الأمثلة، وقال:] وهذا خطأ معلوم بالإجماعِ والنَّقْل المتواتر، ومع هذا، فلمَّا لم يكُن قد تواتَرَ النقْلُ عندهم بذلك = لم يكفروا. وإن كان يكفر بذلك مَن قامَتْ عليه الحجة بالنَّقل المتواتر) انتهى كلام ابن تيميَّة الذي نقله المؤلف من (مجموع الفتاوى 12/492).
والعجيبُ أنَّ الردَّ على شُبهةِ المؤلِّف هذه موجودٌ في كلام ابن تيمية الذي نقَلَه هو! فلم يقل ابن تيمية كما قال المؤلِّف إنَّهم لم يكفروا (لأنهم لم يلتزموا مع هذا الاعتقاد اعتقادًا ينقُضُ دلالة الشهادتين)، بل إنَّ شيخ الإسلام يفرِّق بين مَن أخطأ قبلَ تواتُرِ النَّقْل فهؤلاء لم يُكَفَّروا، وبيْن مَن أخطأ بعد ذلك؛ فهؤلاء يُكَفَّرون بعد إقامة الحجَّة عليهم، وكلام ابن تيمية هذا يَشملُ الرافضةَ وغيرهم؛ لكن عند المؤلِّف الأمر مختلِف؛ فالرافضة القائلون بتحريفِ القرآن لا يُكَفَّرون عنده، ولو اعتقدوا تحريفَ القرآن، ويرى أنَّ ابنَ تيمية لم يُكَفِّرْهم مع عِلْمِه بأنهم يقولون بتحريف القرآن، قال المؤلِّف (113): (ولَمَّا كانت هذه الأمور الثلاثة السابقة ممَّا يُكَفَّر بها الشيعة الإمامية، أحببتُ بيانَ موقف بعض علماء المسلمين في تكفيرِهم؛ لأُؤكِّد ما بيَّنْتُه مِن فِقْه هذا الباب ومِن رجوعه إلى مناطاته المذكورة فيه). [ويعني بالأمور الثلاثة: تكفيرهم عُمومَ الصحابة رضِي اللهُ عنهم، وقولَهم بتحريف القرآن، واتهامَهم عائشةَ رضِي الله عنها بما برَّأها الله منه]، وقال (116): (وهذا الحُكم بإسلام الإمامية (الرافضة) من شيخ الإسلام ابن تيميَّة وابن القيم (كما سبق نقْلُه عنه أيضًا) لم يصدرْ مع جهلهما (رحمهما الله تعالى) بأنَّ من الإمامية مَن يعتقد تحريفَ القرآن، ولا بأنَّ عامَّتَهم يُكفِّرون الصَّحابة رضي الله عنهم، ولا بأنَّ فيهم مَن يتَّهِم أمَّ المؤمنين رضي الله عنها بما برَّأها الله منه، ولم يَصدُرْ حُكْمهما على الإمامية (الرافضة) بالإسلام؛ لعدم ظهور هذه المقالات عند الشِّيعة الجعفريَّة في زمنهما، بل لقد كانت قد ظهرتْ قبلَ زَمَنِهما بقرون، وكانَا يعلمانِ بهذه المقالاتِ كلَّ العلم، ونصَّا على ذلك في مواطن كثيرة.) فهو يرى أنَّ ابن تيمية وابن القيم لا يُكفِّران الرَّافضةَ الذين يُكَفِّرون عامَّة الصحابة، ويَعتقِدون تحريفَ القرآن بنَقْصِه والزيادة فيه، ويتَّهمون عائشةَ رضي الله عنها بالفاحشةِ التي برَّأها الله منها!!
وسيأتي تفصيلُ ذلك والردُّ عليه.
المأخذُ الخامس:
قوله (112): (وأمَّا مَن اتَّهم ذاك العِرْضَ الطاهر بما برَّأه الله تعالى منه بعد نزول البراءة في كتاب الله تعالى؛ فلا شكَّ أنَّه قال قولًا كفريًّا؛ أي: يستحقُّ صاحبه التكفيرَ إنْ قام به شرط التكفير: [عند أهل السنَّة والجماعة شرْطُ التكفيرِ لِمَن وقَع في الكفر الصريح هو إقامةُ الحُجَّة عليه؛ لنَفْي الجهل عنه والتأويل، لكن عند المؤلف:] وهو أن يكونَ هذا الاتِّهام قد صدَر من صاحبه على وَجْه التكذيب للقرآن الكريم؛ أو نحو ذلك مِمَّا ينقُضُ صريح دلالة الشَّهادتين؛ لكِنْ إنْ قاله على وَجْه الجَهل بنزولِ البراءة فيها رضي الله عنها، وعلى وجه التأويل الفاسد لآيات سورة النور؛ على أنَّها نزلت في غيرها (وهي سُرِّيَّة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم ماريةَ القبطية رضي الله عنها) كما يدَّعي ذلك بعضُ غلاة الإمامية (لا كلهم) = فهذا مع شناعة قَوْله، وسفاهة رأيه، وقُبح تحريفه للتفسير = إلَّا أنه ليس ناشئًا عن تكذيب القرآن في الظَّاهر؛ لأنَّ ظاهر صاحب هذا التفسير الباطل أنَّه لم يقُلْ هذا القول وهو يظنُّ القرآن يَنقُض فِرْيَتَه، وليس لنا أن نحكُم إلَّا بظاهره، ولا يحقُّ لنا الجَزْمُ بباطنه الذي لا يقينَ لنا بعلمه [ذكر المؤلِّف أنه لو قاله على وَجْه الجهل بنُزول آيةِ البراءة فيها وعلى وجه التأويلِ فلا يُكَفَّر؛ لأنَّه ليس ناشئًا عن تكذيب القرآن، لكن تعجَبُ مِن عدم تكملته لحقيقةِ المسألة، وهو ما ينتظره القارئ منه: ما حُكْم هذا الجاهل بنزول آيةِ البراءة في عائشةَ رضي الله عنها، أو المتأوِّل لها بعدَ إقامة الحُجَّة عليه، هنا- مربط الفرس كما يقولون- ولكنَّك، لا تجِد جوابَ ذلك عند المؤلِّف!!
ونُذَكِّر القارئ أنَّ الذي يَعنيهم المؤلِّف هم غُلاة الإمامية؛ كما ذكر، وهؤلاء يُكَفِّرون عامَّة الصحابة، ويتَّهِمون عائشة بالزنا- والعياذ بالله- ويقولون بتَحريف القرآنِ وأنه ناقصٌ، ومع ذلك يتورَّعُ المؤلِّفُ أو يبخَل علينا بتبيين حُكْمِهم في الإسلام بعد إقامةِ الحجَّة عليهم، وعنده لا يُكَفَّر الواحدُ منهم إلا إذا ظَهَرَ لنا بما لا يَدَعُ مجالًا للشَّكِّ أنهم كذَّبوا الله ونَقضُوا الشهادتين])
ونحن نَعجَب مِن اندفاع المؤلِّف من عدم تكفير الرَّافضة الذين يتَّهمون الصِّدِّيقةَ بنتَ الصِّدِّيق رضي الله عنها وعن أبيها؛ مِمَّا برأها الله منه بحُجَّة أنَّ لهم تأويلاتٍ فاسدة لآيات سورة النور، واهتمامه بكلام ابن تيميَّة خاصَّة! في عدمِ تَكفيرِه لعموم الرافضة، وتَرْكه كلام أئمَّة أعلام في تكفيرهم، بل إجماع المسلمين على ذلك، ومِن ذلك:
قول الإمام مالك: (مَن سبَّ عائشة- رضي الله عنها- قُتِلَ، قيل له: لِمَ؟ قال: مَن رَماها؛ فقد خالَفَ القُرآنَ؛ لأنَّ الله تعالى يقول فيها: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}، فمَن عاد لِمِثْله فقد كَفَر) (تفسير القرطبي 12/205 (
وقال النوويُّ في شرحه على مسلم (17/117): (براءةُ عَائِشَة رضي الله عنها مِنَ الإفْك، وهي براءةٌ قطعيَّةٌ بنصِّ القرآن العزيز، فلو تَشكَّك فيها إنسانٌ- والعياذ بالله- صار كافرًا مرتدًّا بإجماعِ المسلمينَ).
وقال ابنُ كثير عند تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}: (أجمع العلماء -رحمهم الله- قاطبةً على أنَّ مَنْ سَبَّها بعدَ هذا، ورماها بما رماها به بعدَ هذا الذي ذُكِرَ في هذه الآية؛ فإنَّه كافِرٌ؛ لأنَّه مُعانِدٌ للقرآن).
وقال ابنُ القيِّم في (زاد المعاد) (1/103): (واتَّفقتِ الأُمَّة على كُفْر قاذفِها (، ونعيدُ السؤال مرة أخرى على المؤلف: هل تُريدنا نقيمُ الحجَّةَ على الرافضة وغيرهم مِن أَهْل الأهواء والبِدع بأدلَّة مذهبِهم الباطل، وتأويلاتهم الفاسِدة، أم بالكتاب والسنَّة التي بين أيدينا؟!
ثم إنَّ فَهْمَ المؤلِّف لكلامِ ابنِ تيميَّة عن تكفير الرافضةِ الإماميَّة ليس على وجْهِه، وهذا ما سيتَّضِحُ في:
المأخذُ السادس:
زعم المؤلِّف في موضعين من كِتابه أنَّ ابن تيميَّة كان يُكَفِّر الرافضة الإمامية، ثم تراجَع عن ذلك فقال (118): ( وقد كان هذا القول بتكفير الصحابة هو مُستَنَد شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله الذي كان عليه في تكفيرِ الشيعة الإمامية) وقال (119): (ومع ذلك رَجَعَ شيخ الإسلام ابن تيميَّة عن تكفيرِ أعيان الشيعة الإمامية (الرافضة) كما سبَق تأكيدُه سابقًا، وحَكَم بإسلامهم، رغم تكفيرِ كثيرٍ منهم أو أكثرهم لعامَّة الصَّحابة رضي الله عنهم أو تفسيقهم.)، وهذا الزَّعْم ليس له مستندٌ، والأصل الجمعُ بين أقواله؛ فيقال: نعم لشيخِ الإسلام كلامٌ في عدمِ تكفيرِه لعمومَ الرَّافضة، لكنْ له كلامٌ صريحٌ في تكفيرِ مَن قال منهم بتحريفِ القرآن، أو كفَّر عُمومَ الصحابة، أو اتَّهم عائشةَ رضي الله عنها بما برَّأها الله منه، من ذلك قوله في كتابِه (الصارم المسلول) (1/590) فيما نقلَه المؤلف نفسه (119): (وأمَّا مَن جاوز ذلك إلى أنْ زَعَم أنَّهم ارتدُّوا بعد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلَّا نفرًا قليلًا، لا يبلغونَ بِضعةَ عَشَرَ نفسًا، أو أنهم فَسَّقوا عامَّتهم: فهذا لا ريبَ أيضًا في كُفْره، فإنَّه مُكَذِّب لِما نَصَّه القرآن في غير موضع: من الرِّضا عنهم، والثَّناء عليهم، بل مَن يشكُّ في كفر مثل هذا فإنَّ كُفْرَه مُتعَيِّن؛ فإنَّ مضمون هذه المقالة أن نَقَلَةَ الكتاب والسنَّة كفارٌ أو فُسَّاق، وأنَّ هذه الأمة التي هي: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} وخيرُها هو القَرْن الأوَّل؛ كان عامَّتُهم كفَّارًا أو فُسَّاقًا، ومضمونها أن هذه الأمَّة شرُّ الأمم، وأنَّ سابقي هذه الأمة هم شِرارُها؛ وكُفْرُ هذا: ممَّا يُعلَمُ بالاضطرار من دِين الإسلام؛ ولهذا تجِد عامَّةَ مَن ظهر عليه شيءٌ من هذه الأقوال؛ فإنَّه يَتبيَّن أنَّه زنديق).
كما أنَّ شيخَ الإسلام :يكفِّر من قال بتحريفِ القرآن منهم فقال في ((الصارم المسلول)) (1/590): (وكذلك من زعمَ منهم أنَّ القرآنَ نَقَصَ منه آياتٌ وكُتِمت ... لا خلافَ في كُفرهم)
فظَهَر بهذا خطأُ التأصيلِ الذي يُؤصِّلُ له المؤلِّف في هذه المسألةِ الخَطيرةِ، وظهَرَ خَطؤُه أيضًا فيما يَدَّعيه على شَيخِ الإسلامِ.
المأخذُ السابع:
وُفِّقَ المؤلِّف في مسألةِ الحُكم بغيرِ ما أَنزل الله، وفي بيان أنَّ ذلك ليس كفرًا بإطلاقٍ؛ كما يَزعُم بعض الغلاة اليوم، وخاصَّة الحُكم بغير ما أنزل الله في قضايا مُعَيَّنة، لكنَّه خَلَطَ كغيرِه من المعاصرين بين الحُكمِ في قَضايا مُعيَّنةٍ وبَين التَّشريع العامِّ المُقَنَّن، ونقَل كلامًا لابن كثير وفَهِمَه على غيرِ وجهِه، ونحن هنا نَكتفي في هذه العُجالة بنَقلِ كلام ابنِ كثير؛ كما نقَلَه المؤلِّف نفسُه، وننقُل تعليقَه عليه، ونُبَيِّنُ الخَلَل فيه:
قال المؤلف (132): (ثم انظروا ماذا قال ابنُ كثير عن القانون الوضعي الذي وضَعَه التتار في زمنه وسَمَّوه الياسق أو الياسا؛ أي النِّظام أو القانون؛ حيث ذَكَر ابن كثير تفسير قوله تعالى {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ثم قال: " ينكِرُ تعالى على مَن خرَج عن حُكم الله المحْكَم المشتمِل على كلِّ خيرٍ، الناهي عن كلِّ شرٍّ، وعدَل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضَعَها الرِّجالُ بلا مستَنَد من شريعة الله، كما كان أهلُ الجاهلية يَحكُمون به من الضَّلالات والجهالات؛ ممَّا يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكمُ به التتارُ مِن السياسات الملَكِيَّة المأخوذة عن مَلِكِهم جنكزخان الذي وضَع لهم الياسق، وهو عبارةٌ عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى: من اليهودية والنصرانيَّة والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثيرٌ من الأحكام أخَذَها من مجرَّد نظره وهواه، فصارتْ في بَنِيه شرعًا مُتَّبعًا يُقَدِّمونه على الحُكم بكتابِ اللهِ وسُنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ومن فَعَلَ ذلك منهم فهو كافرٌ يجب قتالُه حتى يرجِعَ إلى حُكم الله ورسوله؛ فلا يُحكّم سواه في قليل ولا كثير"، فابن كثير هنا يتكلَّم عن صورة القوانين الوضعيَّة المعاصرة، ومع ذلك يجعل مناطَ التكفير بالحُكم بها اعتقادًا كفريًّا، وليس مجرَّد العمل (وهو الحكم بغير ما أنزل الله)؛ حيث بَيَّنَ هذا المعتقَد الذي يجعل هذا العمل كفرًا، فقال عن قوانين التتار (الياسق): (فصارتْ في بَنِيه شرعًا متَّبعًا، يُقدِّمونه على الحُكم بكتاب الله وسنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم). فمناط التكفير عند ابن كثير: هو الاستحلال، واعتقاد تقديم هذه الأحكام على حُكم الله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم.)
فابنَ كثير رحمه الله جَعَلَ مناطَ التكفير هو العملَ وليس الاعتقاد، وكرَّره بأربع عِبارات بقوله: (فصارت في بَنيه شرعًا مُتبعًا يُقدِّمونه على الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومَن فَعَلَ ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يَرجِعَ إلى حُكم الله ورسوله، فلا يُحَكّم سواه في قليل ولا كثير)؛ رغم ذلك إلا أنَّ المؤلف يصرُّ على الاستحلال والاعتقاد، فيقول: (فابن كثير هنا يتكلَّم عن صورة القوانين الوضعية المعاصرة، ومع ذلك يجعل مناط التكفير بالحُكم بها اعتقادًا كفريًّا، وليس مجرَّد العمل)!
وسببُ هذا الخلط عند المؤلِّف أمران؛ الأول: أنَّه لا يرى شيئًا فِعْلُه كُفْرٌ مُخرِجٌ من الملَّة إلا الاعتقاد والتَّكذيب؛ كما كَرَّر ذلك مرارًا في كتابه. والأمر الثاني: عدم التفريق بين الحُكم في قضيَّة أو قضايا معيَّنة بغير ما أنزل الله، ووَضْعِ تشريع عامٍّ في جميعِ مجالات الحياة وتحكيمه بين الناس، وإلزام الناس به، والتحاكُم إليه بَدَلًا من التحاكُم إلى الشَّرْع المطَهَّر، وتقديمه على شرْع الله، وهذا ما يَعنيه ابن كثير بقوله: (يُقدِّمونه على الحُكم بكتاب الله وسنة رسول الله)، بل هذا إجماعٌ بين المسلمين، نقله ابن كثير نفسُه وغيرُه، قال ابن كثير في البداية والنهاية (13/119): (من تَرَك الشَّرْع المحكم المنَزَّل على محمد خاتَمِ الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وتَحاكَمَ إلى غيره من الشرائع المنسوخة؛ كَفَرَ؛ فكيف بمن تحاكَمَ إلى الياسق وقدَّمها عليه؟! مَن فَعَل ذلك كَفَرَ بإجماعِ المسلمين)؛ فمناط التكفيرِ عند ابن كثير والإجماع الذي نقَلَه؛ هو تَرْكُ الشَّرع المُحْكَم المنَزَّل، والتحاكُم إلى غيره.
ولكنْ مِن المهمِّ أن يُعلمَ هنا أنَّ هذا مقيَّدٌ بأمرين:
الأوَّل: أنَّ هذا في التشريعِ العامِّ الذي يُوضَعُ بديلًا عن شَرْع الله تعالى، وفيه تنحيةٌ لشَرْعِ الله، وتقديمُ هذا القانون الوضعيِّ على حُكم الله وشَرْعِه في جميعِ نواحي الحياة.
الثاني: أنَّ القولَ بأنَّ هذا كفرٌ لا يَعني تكفيرَ الحاكمِ الذي حَكَم به؛ فقد يكون متأوِّلًا أو جاهلًا بما يُزيِّنه له علماءُ السُّوءِ والغَفلةِ.
نسألُ اللهَ لنا وللكاتِب الهدايةَ والسَّدادَ، ونَسألُه سبحانه أنْ يُرِيَنا الحقَّ حقًّا ويَرزُقَنا اتِّباعَه، وأنْ يُرِيَنا الباطِلَ باطلًا ويَرزُقَنا اجتنابَه.
والحمدُ للهِ ربِّ العالَمين