التعريف بموضوع الكتاب:
لقد نَهَج علماءُ المسلمين في التأليف مناهِجَ مختلفةً، سواءٌ في الصِّياغة أو في البِناء والمؤلَّف، ومن مناهجِهم التي ساروا عليها في مؤلَّفاتِهِم: الاختصارُ، وتناولوا بالاختصارِ جميعَ الفنون والمجالات.
ومن بين هذه المجالات تفسيرُ القرآن الكريم؛ فهو مِن أكثر المجالاتِ التي حدَث فيها الاختصارُ؛ فالمخْتَصَراتُ في التفسير قد احتلَّتْ مكانةً عاليَةً ومنزلةً سامِيَةً بين تلك المؤلَّفَات.
ولَمَّا كان الاختصارُ هو تقليلَ الكلام وحَذْف فُضولِه، والاقتصار على عُيونِه؛ فإنَّ تفسير القرآن في عصر السَّلَف كان مبنيًّا على الاختصارِ والاقتصار على بيان الآيات المُشْكلَة التي يَكْثُر السؤالُ عنها، ثم لم يَزَلْ يتَّسِع الكلامُ في تفسير آيات القرآن حتى شَمِلَ جميعَ آيات القرآن.
ومع طُولِ الزَّمان زادتِ التَّفاسيرُ المطَوَّلَةُ والمخْتَصَرَة، وقام بعض المفَسِّرينَ باختصار بعض التَّفاسير المطَوَّلَة لأغراض متعدِّدَة، وقد كَثُرت هذه المخْتَصَراتُ في التَّفسير حتى أصبح طالبُ العِلْم في حاجةٍ لدِراسة علمِيَّة لهذه المختَصَرات تُبَيِّنُ المنهجَ العِلميَّ المتَّبَع في الاختصار، وضوابطَه وقوانينَه.
وكتاب هذا الأسبوع هو إضافَةٌ لمناهج التأليف في التَّفسير؛ من حيثُ ذِكْرُ المختَصَرات، وأسباب الاختصار، وأغراضُه، وشروطه، وفوائدُه وعيوبُه، وأثرُه في التَّفسير، إلى غير ذلك ممَّا يتعَلَّقُ بهذا المبحث.
وقد قسَّم الباحِثُ كتابَه إلى قِسمينِ: قِسْم نظري لدِراسة الاختصارِ في التَّفسير عمومًا، من حيثُ مَفهومُه، وأسبابُه، وأنواعُه، وشروطُه، وفوائِدُه وعيوبُه، وأثَرُه.
والقِسْم الثَّاني: خَصَّصَهُ لدِراسةِ كتابَينِ مِن أشْهَرِ مختصراتِ التفسير وأقدَمِها؛ وهما: تفسير ابن أبي زَمَنِينَ الألبيري الذي هو مختصرٌ لـتفسيرِ يحيى بن سلَّام البصري، والذي يُعَدُّ تفسيرُه من أَقْدَمِ كُتُب التفسير التي فَسَّرَتِ القُرآنَ كاملًا. والكتاب الثاني: هو تفسير البَغَوِيِّ الذي هو مُخْتَصَرٌ لكتاب لتفسيرِ (الكَشف والبيان) لأحمد الثَّعلبي.
وجاءتْ الدِّراسَةُ النَّظريَّة في تمهيد، وأربعة فصول؛ ذكَر في التمهيدِ طُرُقَ التَّصنيف ومقاصِدَه.
ثم شَرَعَ في الفصل الأوَّل: يُبَيِّنُ مفهومَ الاختصار، والفَرْق بينه وبين التَّهذيب والتَّلْخيص، والانتقاء والاستصفاء، وذَكَرَ صُوَرَ الاختصار وأشكالَه، وذكَر أقوالَ العلماء فيه بين مُؤَيِّدٍ ورافضٍ له، ومَن له شروطٌ وضوابطُ، ثم ذَكَرَ المؤلِّفُ رأيه، وخَلُصَ إلى أنَّ الاختصار مسموحٌ به إذا توافرتْ فيه الشُّروطُ والضَّوابِطُ اللازِمَة لذلك.
وفي الفصل الثاني: تناوَلَ أسبابَ الاختصارِ وأنواعَه وأصنافَ المُختصِرينَ، وقسَّمَ الأسباب إلى أسبابٍ عامَّةٍ ذاتِ طابَعٍ شُمُوليٍّ؛ مِثل: مَيْل أكثر النُّفوس إلى الإيجاز والاختصار، واختلاف العُصُور، وذَكَرَ من الأسباب الخاصة: طُولَ الكتاب، أو أنَّ الكتابَ يَشتمل على العقائد الفاسِدَة، أو على الإسرائيليَّات والأخبار الواهِيَة؛ ممَّا يكون دافعًا للاختصار.
ثم ذكَر أنواعَ الاختصار، وأصناف المخْتَصِرينَ، وذكر تحتَ أصنافِ المخْتَصِرينَ المؤلِّفَ نَفْسَه، أي: صاحِبَ الكتاب الأصلي، وضرَب أمثلة لذلك؛ كاختصار المهدويِّ كتابَهُ في التفسيرِ "التفصيل الجامع لعلوم التنزيل"، وسَمَّى المختَصَر "التَّحْصيل من التَّفْصيل"، ومن أصناف المختَصِرينَ تلميذُ المؤلِّف أو أحد مُعاصِرِيه، ومن أمثلته تفسير "الدُّرُّ اللَّقِيط" لتاج الدين أحمد ابن عبد القادر الحنفي، اختصَره من كتاب "البَحْر المحيط" لشيخه أبي حيَّانَ الأندلسيِّ.
وتناوَلَ في الفصل الثالث شُروطَ الاختصارِ وضوابِطَه وفوائِدَه وعُيُوبَه وسلبيَّاتِه، وذكَر مِن ضِمن الشروط: الكفاءةَ في المختَصَر، وحَذْفَ الانحرافات الموجودة في الكِتاب الأصلِ، وعَدَم تغيير ترتيب الكتاب المختصر…، وغيرها من الشُّروط.
وذَكَرَ من فوائد الاختصارِ: الإبقاءَ على المُهِمِّ، وتسهيلَ الحِفظ وتيسيرَه، وتَقْريب الكلام للفَهْم، وغيرَها من الفوائِد المذكورة.
ثم ذَكَر عُيوبَ الاختصار، ومِن أبرزها: أنَّ الاختصار قد يؤدِّي إلى الغُموض والإلغاز. ومنها: أنَّ الاختصارَ قد يُصْبِحُ مجالًا للاجتراء على كتب السَّابقينَ، ومنها: أنَّ الاختصار قد يُؤدِّي إلى ضياع جُهْد مُصنِّف الأصل، وغيرها من العيوب التي ذكرَها المؤلِّف.
ثم تناول في الفصل الرابع آثارَ الاختصار، ووضَّحَ فيه آثارَ الاختصار التَّفسيريِّ، والحديثيِّ والإسناديِّ، والعَقَديِّ، والفِقْهيِّ، واللُّغَوي.
وجاءَ القسمُ الثاني في بابين:
الباب الأوَّل: تناوَلَ تفسير يحيى بن سلام ومُخْتَصَره تفسير ابن أبي زَمَنِينَ، واشتمَل على أربعةِ فصول؛ تناوَلَ في الفصل الأول الإمامَيْنِ يحيى بن سلام وابن أبي زَمَنِينَ وتفسيرَيْهما؛ بدأ فيه بالتَّعْريف بالإمام يحيى بن سلام تَعريفًا مُوْجزًا، ومنهجه في التفسير، ثم عرَّف بالإمامِ ابن أبي زَمَنِينَ تعريفًا موجَزًا، ومنهجه في التفسير.
وفي الفصل الثاني: وازَنَ المؤلِّفُ بين الأصل والمختَصَر في جانبِ التَّفسير بالمأثور؛ في تفسيرِ القرآن بالقرآن، وفي تفسير القرآنِ بالسُّنة، وفي القِراءات، وفي أقوال الصَّحابة والتابعين، وفي الإسرائيليَّات، وفي الجانبِ العَقَديِّ.
وممَّا خَلُصَ إليه المؤلِّفُ في الموازَنَة بين الأصل والمخْتَصَر في الجانبِ العقديِّ: أنَّ ابنَ أبي زَمَنِينَ يَحذف المسائِلَ التي يستطْرِدُ يحيى بن سلَّام في ذِكْرها عند تفسيره للآيات، ويَكتفي بما له عَلاقةٌ مباشِرَة بالآية، كما أنَّه يحذف الأدِلَّة التي يستدِلُّ بها يحيى على ما يذكره من مسائلَ، أو يحذف أكثرها مكتفيًا بالقليل منها، وهو أيضًا يَكتفي بإيرادِ مَنْهَجِ أهل السُّنَّة والجماعة في الأسماء والصِّفات دون إطالةٍ.
وفي الفصل الثالث: وازَنَ المؤلِّفُ بين الأصل والمختَصَر في جانبِ التفسير بالرَّأي؛ في المباحِث اللُّغَوِيَّة، وفي المباحِث الفِقْهِيَّة.
أمَّا في الفصل الرابع: فقد تناوَلَ قواعِدَ الاختصارِ عند ابن أبي زَمَنِينَ، ووضَّح فيه قواعِدَ الاختصار في جانب التَّفسير بالمأثور؛ ومنها: حذْف الآيات المفسِّرة الوحيدَة التي يَذكُرها يحيى بن سلَّام نظيرةً للآية التي يُفَسِّرُها. ومنها: الاكتفاءُ بذِكر أقوال أئمَّة التَّفْسير دون ذِكْر أسمائهم.
كما ذكَر قواعِدَ الاختصار في جانب التفسير بالرَّأي، ومنها: إيرادُ القول الفقهيِّ الذي ذكَرَه يحيى بن سلَّام دون ذِكْر الأدِلَّة التي ذكرَها. ومنها: حَذْفُ المسائِل الفقهِيَّة الخارجة عن المعنى المباشِرِ المرادِ من الآية.
و الباب الثاني : كان الحديثُ فيه عن تفسيرِ الثَّعْلبي ومختَصَره تفسير البَغَوي، وتضمَّن أربعةَ فصول؛ الفصل الأول: كان عن الإمامَيْنِ الثَّعْلبي والبَغَوِيِّ وتفسيرَيْهِما؛ بدأ فيه بالتعريفِ بالإمامِ الثَّعلبي تعريفًا مُوجَزًا، ومنهجه في التفسير، ثم عرَّف بالإمام البَغَويِّ تعريفًا موجزًا، ومنهجه في التفسير.
وفي الفصل الثاني : تَحَدَّث عن الموازَنَةِ بين الأصل والمختَصَر في جانب التفسير بالمأثور؛ في تفسير القرآن بالقرآن، وفي تفسير القرآن بالسُّنة، وفي القراءات، وفي أقوال الصَّحابة والتابعين، وفي الإسرائيليَّات، وفي الجانب العَقَديِّ.
وممَّا خَلُصَ إليه المؤلِّفُ في الموازنة بين الأصل والمختصر في الجانب العقديِّ: أنَّ البَغويَّ يختصرُ المباحِثَ العَقَدِيَّة التي يَذكُرها الثعلبيُّ في تفسيره؛ إمَّا بِحَذْفِها أو بِذِكْر بعضها مع عِنايته بحُسْن ترتيبِ المسائِلِ وعَرْضِها، كما أنَّه يَخْتَصِرُ الرُّدودَ التي يذكرها الثعلبيُّ على المبتدِعَة والفِرَق الضَّالَّة.
أمَّا في جانب الأسماء والصِّفات فإنَّ البغويَّ يُرَجِّحُ مذهبَ أهل السُّنَّة والجماعة غالبًا، وقد يُؤَوِّلُ تبعًا للثعلبيِّ في بعضِ المواضع.
وفي الفصل الثالث: وازَنَ المؤَلِّفُ بين الأصل والمخْتَصَر في جانبِ التَّفْسير بالرأي في المباحث اللُّغَوِيَّة، وفي المباحِثِ الفِقْهِيَّة.
أمَّا في الفصل الرابع: فقد تناوَلَ قواعِدَ الاختصار عند البغويِّ، فوضَّح فيه قواعِدَ الاختصار في جانبِ التَّفسير بالمأثور؛ ومنها: الإبقاءُ على ما ذَكَره الثعلبيُّ من تفسير القرآن بالقرآن في الجُملةِ مع تقليل الآياتِ المفَسِّرَة عند تعدُّدها في موضع واحد. ومن هذه القواعد أيضًا: ذِكْر آيات مُفَسِّرة في المواضِع التي لم يَذكُر فيها الثعلبيُّ شيئًا من تِلك الآيات.
كما ذكَر قواعِدَ الاختصار في جانب التَّفسير بالرأي؛ ومنها: التَّقليل من المباحِث اللُّغويَّة التي ذكَرها الثعلبيُّ. ومن هذه القواعد أيضًا: الإبقاءُ على قَوْل الثعلبيِّ في بيانِ الفُرُوق بين الكلماتِ.
ثم خَتَمَ الكتابَ بخاتمَةٍ ذَكَرَ فيها أهَمَّ النتائجِ التي توصَّلَ إليها.